تعقد الشخصية والاستنفار الفكري
تنطوي أية ظاهرة اجتماعية على جوانب منها دور الظروف والحالات الداخلية والخارجية في نشوئها. ومن الصعوبة البالغة، إن لم يكم من المستحيل، رسم خط فاصل بين الظروف والحالات الداخلية والخارجية. وأثر كل مكون من المكونات الإقتصادية والسياسية والعقائدية والثقافية والنفسية في نشوء الظاهرة الإجتماعية يختلف ضعفا أو قوة عن آثار المكونات الأخرى. ليس ذلك فحسب، ولكن هذه الآثار تتغير ضعفا وقوة حيال المكونات الأخرى في نشوء وتطور الظاهرة. وهذا التغير يتوقف ليس فقط على طبيعة العلاقات فيما بين هذه المكونات ولكن أيضا على طبيعة العلاقات بين تلك المكونات والظاهرة نفسها. ولا يمكن الفصل بين التاريخ والثقافة والسياسة والاقتصاد والإنتماء الجنسي.
للبشر عموما أنماط سلوك مختلفة. وتحدد تلك الأنماط عوامل كثيرة الأهم منها هي الحاجات الإقتصادية والبيولوجية والنفسية والتهيئة الإجتماعية التي تشمل التنشئة العائلية والمدرسة والعلاقات الإجتماعية والتاريخ. ولكل إنسان موقف وسلوك يتخذهما عن وعي أو بدون وعي حيال شتى الظواهر الإقتصادية والثقافية والسياسية. ويسهم في تحديد تلك المواقف وأنواع السلوك العوامل المذكورة أعلاه. ويقوم تفاعل مستمر بين مختلف العوامل التي لها أثر مختلف في تحديد الموقف والسلوك.
وشخصية الإنسان معقدة ومتعددة الأبعاد وشاملة. ومعنى تعقد الشخصية أن لها مكونات مختلفة تتفاعل فيما بينها. وبما أن التفاعل قائم فهو مستمر. وهذه المكونات مزيج من الصفات الموروثة والمكتسبة. وتختلف هذه المكونات بعضها عن بعض قوة وضعفا، رهنا بعوامل منها طبيعة ومدى قوة أو ضعف الظروف السياسية والإقتصادية والثقافية والنفسية والتاريخية الداخلية والخارجية التي يعمل الإنسان تحت تأثيرها. ومن طبيعة هذه الظروف كلها أنها دائمة التفاعل وبالتالي فهي نشيطة (دينامية).
وتتأثر شخصية الإنسان بالعامل الطبيعي وبعوامل اجتماعية وثقافية واقتصادية ونفسية، لها آثار مختلفة في سياقات اجتماعية وتاريخية متغيرة. ويختلف البشر بعضهم عن بعض تبعا للخلفيات التاريخية والهويات الثقافية والظروف والملابسات الاجتماعية والاقتصادية والتكوينات النفسية لديهم.
ولا يجري التفاعل الأفقي بين الإنسان وبيئتيه الإجتماعية-الثقافية والطبيعية فحسب ولكن يجري أيضا التفاعل العمودي بين الإنسان وتاريخه وتاريخ شعبه. ويجري أيضا التفاعل المستمر بين البعد الأفقي والبعد العمودي للإنسان.
وسلوك الإنسان حيال الآخرين لا تحدده شخصيته بأبعادها المختلفة الدائمة التفاعل ولكن تحدده أيضا المحركات الخارجية التي تتغير ضعفا أو قوة ويستجيب الإنسان لها على نحو من الأنحاء.
ويقوم تأثير متبادل بين الفرد والجماعة والدولة والمجتمع الدولي. وهذا التأثير إما أن يكون إيجابيا أو سلبيا. ينشأ التأثير الإيجابي بقيام المؤثر بعمل يؤدي إلى التأثير في ما يتعرض للتأثير. وينشأ التأثير السلبي عندما لا يقوم طرف بعمل مما قد يتيح لطرف آخر القيام به. وفي هذه الحالة يكون الطرف الأول هو المؤثر السلبي والطرف الآخر المؤثر الإيجابي.
ولا تتجلى شخصية الإنسان في تعامله مع البيئات الخارجية الاجتماعية والثقافية والطبيعية، وذلك لأن في ذلك التعامل، الذي يحدث في ملابسات اجتماعية أو اقتصادية أو نفسية أو ثقافية أو تاريخية نشيطة، لا يستنفر أو يحرك إلا البعد الأكثر مناسبة لأن يحرك في الإنسان حيال تلك الملابسات التي يمر بها، وتبقى الأبعاد الأخرى غير مستنفرة بما فيه الكفاية، بمعنى أنها لا تتجلى ولا تفصح عن نفسها في تلك المناسبات. إن البعد المستنفَر أو المحرَّك من شخصية الإنسان يكون طبعا متأثرا بالعلاقات النشيطة القائمة بينه وبين الأبعاد الأخرى وبقوة تأثير عوامل البيئات الخارجية النشيطة، غير أنه في الملابسات الخارجية التي يمر الإنسان بها لا بد من أن يُستنفَر أو يُحرَّك على نحو رئيس قسم من أبعاد شخصية الإنسان وتبقى الأبعاد الأخرى أقل تحركا وتجليا. طبيعة الملابسات الخارجية والنفسية هي السبب في جعل قسم من أبعاد الشخصية محور ذلك الإستنفار والتحريك.
وفي ضوء ذلك لا يصح إصدار أحكام معممة على البشر والشعوب على أساس ملابسات اجتماعية نفسية تاريخية محدودة. وما تصنيفات الشعوب إلى شعوب راقية ومتدنية وشجاعة وجبانة ومبدعة وخاملة سوى ضرب من الأخطاء والأوهام.
والأمثلة على ذلك كثيرة جدا. ونجد هذه الأمثلة على المستوى الفردي ومستوى الجماعات والدول خلال التاريخ البشري وفي الوقت الحاضر. وقد يكفي أن نسوق هنا أمثلة قليلة. إذا عانى الإنسان من خواء المعدة استنفر هذا الخواء في شخصية الإنسان تلك الأبعاد التي يكون محورها تأمين لقمة العيش، وتضم هذه الأبعاد المهارة في أداء عمل من الأعمال والتفاني في الأداء والطاعة لصاحب العمل، وبالنسبة الى أبعاد أخرى لها صلة أقل بتأمين لقمة العيش يكون استنفارها أقل. ففي حالة الباطل عن العمل تستنفر أبعاد الشخصية التي يكون محورها تأمين الحصول على فرصة عمل، وفي حالة الاختبار تستنفر الأبعاد التي يكون محورها تحقيق النجاح والتفوق من قبيل فهم المادة والاستعانة بالذاكرة والقدر الكافي من النوم أو من السهر. وفي حالة الاحتلال تستنفر الأبعاد التي يكون محورها التخلص من الإحتلال من قبيل الإشارة الى شروره وتبيان مخالفته للقوانين الدولية والطبيعية وجمع الموارد الفكرية والمالية للتصدي له. وفي حالة الإخضاع القومي تستنفر الأبعاد التي يكون محورها الإبانة عن مساوىء ذلك الإخضاع وعن الفائدة من الإستقلال الوطني والإشارة إلى أهمية المحافظة على الكرامة والعزة الوطنيتين.
وتجمع بعض الحالات في الوقت نفسه الصعيدين الفردي والقومي، أو صعيدي الفرد والدولة، أو صعيدي الفرد والشعب الذي ينتمي الفرد إليه. فالهيمنة الثقافية الأجنبية تستنفر الأبعاد الشخصية للفرد وللشعب. في هذه الحالة تستنفر أبعاد شخصية الفرد وأبعاد شخصية الشعب التي يكون محورها محاولة التخلص من الهيمنة. ومن تلك الأبعاد إحياء التراث والإبانة عن ثروة ثقافة الشعب وعن مفاسد الهيمنة وآثارها السلبية في حياة الفرد والشعب.
وبالنظر إلى أن الظروف الخارجية هي التي تحدد الابعاد المستنفِرة والمستنفَرة في الشخصية الفردية أو الجماعية فإن تلك الأبعاد تتغير تبعا لتغير تلك الظروف. والأوقات والأماكن المختلفة قد تكون لها ظروفها المختلفة. وبالتالي تتغير تبعا لذلك أبعاد الشخصية التي تُستنفَر. على سبيل المثال، كان السعي العربي إلى نيل الإستقلال السياسي بين الحربين العالميتين الأولى والثانية وإلى التخلص من الإنتداب الفرنسي على سورية ولبنان والإنتداب البريطاني على فلسطين والأردن والعراق المحور الذي استنهض واستثار الأبعاد الفردية والوطنية في الشخضية العربية.
ولذلك كله من الخطأ الجسيم ومن سوء الفهم إصدار حكم معمم على نوعية شخصيات الأفراد والشعوب على أساس سلوك أولئكم الأفراد والشعوب في فترة زمنية قصيرة واحدة أو في ظرف واحد. ذلك الأساس جزئي، وبالتالي لا يصح لأن يكون مستندا لإصدار حكم معمم. إنه جزئي من ناحية قصر المدة الزمنية، وأيضا من ناحية عدم شموله لكل الملابسات والظروف التي هي بطبيعتها متنوعة وكثيرة. وهي أيضا متفاعلة، وبالتالي متغيرة. وتفاعلها وتغيرها يجعلانها متنوعة وكثيرة، مما يؤكد الخطأ في إصدار الحكم التعميمي. وفي ضوء ذلك ليس من الصحيح القول إن شعبا من الشعوب أفضل أو أسوأ من شعب آخر.
وعدم مراعاة ذلك النهج يعني عدم الوعي به، وعدم الوعي هذا نابع من احتجاب حقيقة الأمور، وهو الاحتجاب الناشىء عن غسل دماغ الذين ذهبوا ضحية التأثر الثقافي القوي في الشخصية الفردية والقومية مدة عشرات وربما مئات السنين.