تكوين الشرق الأوسط الجديد
اشتهر ديفيد فرومكين في عالمي السياسة والتاريخ الحديث بعد أن أصدر كتابه: «سلام ينهي كل سلام»، الذي قدم فيه رؤية تحليلية شاملة للآثار التي تركتها الحرب العالمية الأولى علي الوضع الدولي والأوروبي بشكل عام، وعلي المشرق العربي وشعوبه بشكل خاص، من خلال تكوين ما أصبح يسمى الشرق الأوسط.
ديفيد فرومكين هو كاتب وقانوني ومؤرخ أكاديمي أمريكي، تخرج من جامعة شيكاغو، وهو الآن أستاذ في جامعة بوسطن يُدرِّس التاريخ والعلاقات الدولية والقانون. كما يشغل منصب مدير مركز فريدريك س. باردي لدراسات المستقبل بعيد المدى، ويحرر الافتتاحية في مجلة الشرق الأوسط الفصلية الصادرة عن منتدى الشرق الأوسط، وعضو جمعية العلاقات الخارجية في الولايات المتحدة. وقبل أن يمتهن فرومكين الكتابة التاريخية عمل عام 1972 محامي ومستشار سياسي لحملة «الديمقراطية أولاً»، ثم باشر عمله كمستشار السياسة الخارجية لحملة مرشح الرئاسة هيوبرت همفري. وشغل كلا منصبي: وكيل المدعي العام، ومستشار الدفاع في الهيئة العامة للدفاع في المحاكم العسكرية التابعة لوزارة الدفاع الأمريكية.
قراءة للكتاب:
هذا الكتاب «سلام ينهي كل سلام، تكوين الشرق الأوسط الجديد» ليس الأول ولا الأخير بالنسبة للمؤلف، فقد حرر فرومكين سبعة أعمال أحدثها كتاب: «صيف أوروبا الأخير، من الذي بدأ الحرب الكبرى في عام 1914». وهو كتابه الثاني عن الحرب العالمية الأولى، وتناول فيه التطورات السياسية، الظاهرة والخفية، التي ساقت أوروبا والعالم خلال صيف 1914 إلي الحرب العالمية التي اندلعت في خريف ذلك العام، واستمرت آلة موتها تحصد البشر إلى عام 1918، ويمكن أن نعد ذلك الكتاب تمهيداً لوقائع كتابه الأشهر والأهم: تكوين الشرق الأوسط الجديد، الذي أصدره في الولايات المتحدة عام 1989، حيث تميز فيه فرومكين بتحليلاته الدقيقة الواضحة، وتمكن فيه من إعادة تصوير السياسة الأوروبية حول تركة الرجل المريض، أو ما أصبح يعرف بالشرق الأوسط خلال السنوات ما بين 1914 إلى 1922، وكيف تمكنت دوائر السياسة الخارجية للحلفاء، وخاصة البريطانية، من تكوين هذا الشرق وصياغة الأنظمة الموجودة حالياً فيه.
عديدة هي الكتب، وأكثر منها البحوث والمقالات والمحاضرات، التي أوحاها انفراط عقد الإمبراطورية العثمانية، وما تبع ذلك من قيام كيانات سياسية متعددة لأمة كانت واحدة، لم تلتزم بقيامها لا بحدود جغرافية ولا لغوية ولا عرقية ولا دينية، فمن الطبيعي أن يكون ذلك الحدث الجلل مصدر إيحاء لا ينضب لفيض من النتاج التاريخي والسياسي، لكن مع الأسف بمعظمه كان يفتقر لإطلاع كُتَّابه على حقيقة الأمر كما جرى فعلاً. لقد قرءنا كثيراً مما كتب بوحي العاطفة القومية أو الدينية، أو مجرد المصالح والأهواء، لكن لم يضع أحد أمامنا حتى الآن كيف تم ذلك فعلاً وبدقائق الأمور، وهذا الكتاب يتفرد بذلك عن كل ما كتب، فهو يورد معلومات موثقة، بمنهج علمي واقعي بعيد عن العواطف والمصالح والمؤثرات. هنا الوقائع تتكلم، وهنا الحقائق المجردة توضح كيف صنع التاريخ من جديد. ولذلك قد يخلق الكتاب أزمة ثقافية، فهو يقلب كل ما تعلمناه أو جله، ولكن الأخطر هو الأزمة الروحية التي سيخلفها بالتأكيد بعد قراءته. وسيدرك القارئ معنى الصدفة في التاريخ، وسيعرف معنى التآمر لتمرير السياسات حتى ضمن الجهاز الواحد للدولة، وسيصعب عليه أن يصدق كثير مما احتواه الكتاب، فأي أصدقاء هؤلاء الذين كانوا في سرهم أعدى من الأعداء، وأي أعداء هؤلاء الذين كانوا لأسباب مختلفة أفضل من الأصدقاء. إن ما كان بالأمس القريب مشاريع وخطط وأفكار في الرؤوس، أو خراطيش على الورق، هو الآن واقع قائم له أسس، وله من يدافع عنه بشراسة ممن تجذرت مصالحهم السياسية أو الاقتصادية فيه.
يمتاز عمل فرومكين بالنظرة البانورامية الشمولية لتكوين الشرق الأوسط، وهذا ما يجعله عمل ريادي غير مسبوق، فهو سفر يجمع بين دفتيه لأول مرة الإجابات الكاملة عن أسئلة كانت ولا تزال رمز الحيرة والتعمية والتضليل، منها: كيف شكلت بريطانيا، ونوعاً ما حلفاؤها، الكيانات الجغرافية والسياسية للشرق الأوسط؟ ولماذا كانت تلك الأشكال وتلك الشخصيات بالتحديد؟ ما هي المرتكزات التي بنت عليها بريطانيا سياستها المستقبلية في الشرق الأوسط؟ وماذا كانت ترجو من وراء ذلك؟ ما هي الحسابات السياسية والعسكرية والاقتصادية التي وجهت بريطانيا؟ التي كان لها اليد الطولى في تكوين الشرق الأوسط. ما هو مدى التناغم أو الخلاف في الإدارات البريطانية وهي تتخذ قرارات مصيرية لملايين الناس؟ ولمستقبل علاقتها بهم. هل كان القادة البريطانيين واعين ومدركين تماماُ لما كانوا يفعلون؟ من هم أولئك الرجال الذين صاغوا أخطر القرارات في أصعب الظروف لهم وللعالم؟
ويبقى مما أجاب عليه الكتاب السؤال الأهم: أين هي حدود الواقع والخيال مما كنا نعرفه عن مجريات تلك المرحلة؟ مثلاً: الجمعيات العربية؟ ابن سعود؟ الشريف حسين؟ الملك فيصل والأمير عبد الله؟ وما هي حدود الحقيقة عنهم؟ وحقيقة المعلومات التي كانت مطروحة حولهم لأغراض الدعاية أو الدعاية المضادة؟ حقيقة وعد بلفور؟ وغيره . . لقد ساعد المؤلف اطلاعه على وثائق من دول عدة كانت سرية منذ ذلك الحين حتى سمحت في السنوات الأخيرة بنشرها، وهذا ما يجعلنا نتساءل: هل هذه هي المعلومات النهائية كلها؟ وهل هناك بعد ما يخفى؟ وما هي مفاجآت المستقبل التي لا تزال خافية؟
لقد أعد فرومكين كتابه: تكوين الشرق الأوسط الجديد، في الولايات المتحدة ووضعه أصلاً لقرائها وقراء الانكليزية، ولكنه كتاب يعنينا، فهو عنا ولنا، ويتعلق بمرحلة من أخطر مراحل تاريخنا، وأكثرها إشكاليات، فعلى الأقل لنقرأ، لنعرف ماذا صنعوا بنا؟ لأننا بذلك قد نتمكن من معرفة ماذا يصنعوا مستقبلاً؟ لنعرف كيف كان العرب عندما نظرت إليهم الدول الكبرى كغنيمة حرب؟ واقتسمتهم، ومزقت أواصر آلاف السنين. فهل كان العرب واعين لما كان يحصل؟ فإن كانوا يعون ذلك فماذا فعلوا؟ أو ماذا كان بالإمكان أن يفعلوا؟ وإن لم يكن لنا دور بصياغة هذا الواقع فهل نستطيع صياغة مستقبل أفضل في ظل هذا الواقع؟ وخاصة إذا كانت نظرة العالم وتعامله مع العرب على أساس أنهم شتات قبائل، ودولهم أجزاء أقاليم، وأنهم قاصرين وضعفاء، وحتى للمستقبل فإنهم غير قادرين أن يتوحدوا، ومن المؤلم أن هذا ينطبق على معظم واقع العرب، إن لم يكن عليه كله، فمعظم العرب اليوم يروجون بفرح لفشل المشروع الوحدوي القومي، فقط ليلقوا عن كاهلهم حتى مجرد الشعور بالالتزام القومي.
لقد استقى فروميكن عنوان كتابه هذا من تصريح أدلى به الفيلد مارشال إيرل ويفل، الذي عمل تحت قيادة اللنبي في حملة فلسطين، تعليقاً منه على المعاهدات التي أبرمها الحلفاء لإنهاء الحرب العالمية الأولى، حيث قال: «بعد الحرب التي كان الهدف منها وضع نهاية للحروب، يبدو أنهم نجحوا في باريس نجاحا تاماً في تحقيق سلام ينهي كل سلام!». وفعلاً انتهت كل إمكانية لسلام قادم، فكان سلام باريس افتتاحية لسلسلة من الحروب اشتعلت ولا تزال تشتعل في الشرق الأوسط حتى الآن، وستستمر لمستقبل غير معروف. لقد فرضت الحرب على كثير من العرب أو قاموا بها، وثبت أن الحرب واقع لا يخشى، ويمكن التعامل معه، ولكن السؤال الآن: هل نخشى السلام؟ وهل يمكن للعرب التعامل معه؟ فمن السهولة أن نتوقع كلفة الحرب وخسائرها، وإن كان من الصعب التنبؤ بنتائجها، لكن السلام الذي يمكن بدقة التنبؤ بنتائجه القريبة وفوائده المتوقعة، لا يستطيع أحد أن يقدر ما سينتج عنه في المدى البعيد وعلى كافة الصعد، وأرجو أن نكون منتبهين ومقدرين لذلك.
ومن خلال متابعتنا لمجريات الأحداث في هذا الكتاب سنجد أنه بقدر ما هو قيم هو مؤلم، فسيظل يلح علينا ونحن نقرأ سؤال مرعب: هل نحن على أعتاب حلقة جديدة من حلقات تشكيل الشرق الأوسط؟ تكون أسوأ بنتائجها وأقسى بعواقبها على العرب؟ إن بداية ما يسمى بقضية الشرق الأوسط بدأت مع نهاية الدولة العثمانية، والتي انتهت بمفاجآت كبرى قلبت الأوضاع رأسا على عقب، فمنذ ذلك الوقت كانت هناك صيغ مفروضة على شعوب الشرق الأوسط، فرضها العثمانيون أولا، ثم البريطانيون والفرنسيون، فهل جاء الدور الآن على الأميركيين كي يفرضوا صيغتهم الجديدة للشرق الأوسط؟ كتب الصحافي الأمريكي توماس فريدمان مقالة بعنوان: «الشرق الأوسط: تعالوا نعريه قبل إعادة تكوينهن»شرتها صحيفة الشرق الأوسط اللندنية، قال فيه:
«حدد المؤرخ فرومكين كيف تكوّن الشرق الأوسط، بقوله: في عام 1922 استطاع تشرشل أن يرسم خريطة الشرق الأوسط العربي، بخطوط تلاءم مصالح الإدارات البريطانية المدنية والعسكرية، وسيتفاخر لورنس العرب في ما بعد، بأنه وبالاشتراك مع تشرشل وشخص آخر، رسموا خريطة الشرق الأوسط على وجبة العشاء. والآن وبعد عقود من ذلك التاريخ، فإن السؤال هو ما إذا كان أهل الشرق الأوسط راغبين، أو قادرين، على الاستمرار في العيش وفق ذلك التصور». ويضيف فريدمان: «يطرح هذا السؤال نفسه اليوم وبصورة أكثر حدة هذه المرة، فما يحدث الآن في العراق، وفلسطين، ليس سوى لحظة تشرشلية أخرى، فتضاريس ومحتويات هذه الأقاليم الشرق أوسطية المحورية، يعاد تكوينها حالياً، ولكن لا يحدث ذلك بفعل إمبريالي من أعلى، وليس متوقعاً أن يكون كذلك، إنه يحدث تحت تأثير نزاعات تشتعل من تحت، وتضطرم في صدور الفلسطينيين والعراقيين». ولكن مثل هذه الرؤى الاستعمارية في تقسيم الشرق الأوسط كانت تجد آذانا صاغية في الإدارة الأمريكية السابقة، التي وصفها فريدمان بأنها: «ادارة خطيرة للغاية»، مضيفا بأنها: «أسوأ إدارة في تاريخ الولايات المتحدة». وكلنا يتفق مع الأديب والألسني الأمريكي البارز نعوم تشومسكي في أن: إدارة بوش كانت: «تشكل خطراً على العالم»، لذلك كان من الممكن أن تشرع في تنفيذ فكرة تقسيم الشرق الأوسط فوراً لو توفرت لها الأسباب، لأن هدفها الهيمنة الكاملة على المنطقة، كما لا يستبعد أن تعمد واشنطن على المدى الطويل لمحاولة تقسيم الشرق الأوسط ليسهل عليها التعامل مع بلدان صغيرة، فبعد الشرق الأوسط القديم، الذي شكلته بريطانيا، هل نصل إلى شرق أوسط جديد تشكله أمريكا؟ يجب أن لا نستبعد ذلك وكلنا يرى خيبة أمل العالم في إدارة أوباما، ونتبين يوماً بعد يوم أن الإدارات الأمريكية كلها واجهات مختلفة لمضمون واحد.
وضمن هذا السياق اتصل صحفي بفرومكين وسأله عن مستقبل الشرق الأوسط؟ فأجاب بألم: «لا مستقبل للشرق الأوسط». أما إدوارد لوتواك المؤرخ العسكري، الذي يعمل في مركز الدراسات الإستراتيجية والدولية في واشنطن، فأجاب عن السؤال نفسه: «أنه لا يعتقد بأن الغرب قادر على تشكيل مستقبل الشرق الأوسط مرة أخرى»، وأضاف بأن الولايات المتحدة بتدخلها لن تزيد على أن تعطي العرب «سبباً جديداً لمعاداتها». ولكن ما لا يمكن إنكاره أنه بعد المعطيات الجديدة للمغامرات العسكرية الأمريكية في الشرق الأوسط، وخاصة مع وجود هشاشة في تركيبة بعض دوله، كما في لبنان مثلاً وإسرائيل أيضاً، قد جعلت من قدرة نظم دول الشرق الأوسط الحديث على الصمود والبقاء سؤالاً مفتوحاً بطريقة لم تكن موجودة قبل بضع سنوات فقط، بل الأكثر من ذلك قدرة هذه الأنظمة على تبرير شرعية وجودها كدولة، وهذا ما يسميه الرئيس بشار الأسد: «أزمة الشرعية لأنظمة الشرق الأوسط». فقد أشار إلى ذلك خلال حديثه مع صحيفة نيويورك تايمز، معلقاً على ما ورد في كتاب فرومكين، حيث ألقى اللوم على سوء الاستخبارات البريطانية، التي غرر بها عضو جمعية سرية من دمشق، وكيف أنها «قادت القوى الغربية إلى رسم الحدود، وبالتالي خلقت أزمة من الشرعية ما تزال أنظمة الشرق الأوسط تعاني منها حتى الآن».
لقد قامت المجتمعات الإنسانية بتأسيس جميع الدول، ولكن يظهر تأثير الإنسان الفرد في صنع بعض هذه الدول بشكل أكبر عن مثيلاتها، فإن ونستون تشرتشل، الذي كان بوش يحتفظ بتمثال نصفي له في مكتبه البيضاوي بالبيت الأبيض، هو من قام بالدور الرئيسي لتأسيس معظم دول الشرق الأوسط، فهل كان سيتأتى لواحد من معجبيه، وهو من أنجب تلامذته في المدرسة الاستعمارية، أن يسعى لتقليده في إعادة تكوين شرق أوسط جديد؟ خاصة إذا أخذنا بعين الاعتبار استعلاء إدارة بوش، واعتماد كوادرها على الخبرة والحدس أكثر من اعتمادهم على التخطيط المتأني والتفكير بعواقب الأمور، وقد ظهرت مقدمات ذلك في ما سببته تلك الإدارة من اضطراب في الشرق الأوسط. وهنا نأتي لرأي جديد آخر لفرومكين ورد في مقالة له تحت عنوان: «جدار الإيمان والتاريخ». وقد جزم فيها بأنه لا يمكن الحكم بصحة نظرية بوش في ما يتعلق بنشر الديمقراطية في الشرق الأوسط، وقال: «إن أحد الدروس التي يمكن استخلاصها من التاريخ الحديث للشرق الأوسط يقضي بأن التغيير في المنطقة يكون أكثر قبولاً لو انه يجري على أيدي المواطنين وليس بأيدي الأميركيين». وعن الهوية الجديدة للشرق الأوسط يقول فرومكين: «مهما بذل الغرب من جهود لتحويل البلاد العربية لنمط المعيشة الغربية فإن سعيهم فاشل، ذلك أن الشعب العربي يؤمن بالإسلام ويعتز بهويته العربية وبتاريخه وثقافته، ومن المستحيل أن يذوب المسلمون في الثقافة الغربية لأن الإسلام دين ينظم كل دقائق الحياة الاجتماعية الثقافية السياسية والاقتصادية».
وأخيراً لنتوقف برهة عند التساؤل الذي طرحه فرومكين في نهاية الكتاب: عن إمكانية استمرار إسرائيل بالحياة، وهي كيان ليس له من مقومات الدول إلا الاسم، يقول: «والسؤال هو: هل سيتمكن هذا النظام من النجاة في أرض الشرق الأوسط الغريبة التي زرع به»ا؟ فهل هذا السؤال هو الغاية التي أراد أن يوصلنا إليها فرومكين؟ علماً أنه ضمَّن الإجابة في نص السؤال، فمن المؤكد أن نبتة، ولو كانت ذات أشواك، لن تتمكن من النجاة بحياتها في بيئة غريبة معادية، لكنه ليصل بنا إلى هذه الحقيقة مهد لنا برواية القصة الكاملة لولادة الشرق الأوسط، أو بالأحرى لخلق مشكلة الشرق الأوسط.