تمرُّد الأنا ومأساة الحب المستحيل
عرفت الرواية السعودية تطورا ذا بال في الآونة الأخيرة جعلها تتبوّأ مكانة مهمة في المشهد الثقافي العربي و من أهم هذه الروايات رواية "ترمي بشرر..." للكاتب السعودي عبده خال.
«الطريق الضيق لا يتسع بالهدم و نحن الثلاثة سلكنا طريقا ضيقا..» 2 هذا ما قاله البطل عن رحلة الحياة التي عاشها مع صديقيه، إنها رواية ٌ سؤالٌ، تثير في القارئ التوتر والبحث، رواية ترمي بشرر حقا تدخلنا في عالم من الجدل والصراع والمرارة و أول سؤال يُطرح في هذا العمل السردي يرتبط بالعنوان المقتبس من القرآن الكريم سورة المرسلات و هو يذكر الآية ويصدّر بها فصلا كاملا 3 و هذا ما يؤكد لنا العلاقة الوثيقة بين الآية والأبعاد الإيحائية السيميائية للمتن السردي عموما، بعبارة أوضح ذلك يؤكد التواصل الوطيد بين "القصر" كحيّز روائي و ما يُلقي به من "شرر".
ارتبط العنوان بالشرر فجعلنا من البداية نشعر بالمفارقة البلاغية العجيبة حول معنى "القصر" المقصود في نص الآية: "إنها ترمي بشرر كالقصر كأنه جمالتٌ صُفْر" 4 و لعل اختيار الآية لم يكن عبثا و رغم أن كلمة القصر في الآية هناك اختلاف في دلالتها بين المفسّرين 5 و قد كان المعنى الأكثر ورودا هو النظر إلى القصر على أنه البناء العالي أما المعنى الثاني فيُقصد به
الذراع أو الشجر المقطَّع أو النخل المقطوع، ولكن لماذا لم تستقر التفاسير على دلالة واحدة أو دلالات متقاربة خاصة وأن المعاني الثلاثة الآتية: الذراع، النخل المقطوع، البناء العالي هي معان متباعدة؟ غير أن الكاتب من خلال وضع عنوان القصر للحديث عن هذا المبنى الجديد على ساحل مدينة جدة السعودية و كأنه يريد أن يشير إلى أن القصر إنما المقصود به هو البناء الذي يرمي بشرره وشروره مثل جهنم....غير أن الذي زاد من جمالية الاقتباس هو ما تضمنته الآية من تشبيه، هذا التشبيه الذي عادة ما يكون من أسسه الفنية أن وجه الشبه يكون أظهر في المشبه به منه في المشبه وطبعا هذا يدعم القاع النظري للذائقة البلاغية العربية القديمة التي تؤكد على وجوب التقارب بين عناصر الصورة الفنية و هو ما لم يتحقق في التشبيه الوارد في الآية وهذا ما أدخل المفسرين في تأويلات وشروح طويلة لمحاولة فهم الآية.أما نحن فمن منطقنا المعاصر نقول إن الاقتباس كان مهما جدا واختيار الآية و التباعد بين أطراف الصورة كل ذلك زاد من جمالية اللوحة الفنية عن جهنم و من رونق النسيج الدلالي للسرد و أكد في نفس الوقت على أن المدخل إلى الرواية لا يكون إلا عبر النفاذ إلى خصائص الفضاء الروائي فقد أراد الراوي من البداية أن يُسرَّ لنا بالكلمة السحرية التي يمكن أن تفتح لنا بوابة القصر ومن ثَمَّ مغلَّقات الرواية وقد تجلَّت هذه الكلمة السحرية في المفاضلة البلاغية التي أقامها الكاتب من خلال التشبيه الوارد في الآية و المفاضلة كانت بين مكانين هما محور الرواية : حي جهنم (المشبه) من ناحية " اسم حينا الحفرة أو الملاَّحة أو قاع جهنم أو النار " 6 والقصر (المشبه به) من ناحية أخرى " من ايِّ جهة تدخل إلى المدينة يظهر القصر "7 ولذلك يجد القارئ نفسه في هذه الرواية متوهجا يصْلَى ناريْن لا ثالث لهما فيخترق السؤال المزمن حيرته:
أيُّهما أكثر شررًا جهنم أم القصر؟؟؟!
هذا يأخذنا إلى جدلية تخترق الرواية بكاملها و تختص بالحيز الروائي المتشظِّي و المنقسم إلى وجهين مختلفين: القصر والحي. فالقصر وصفه الكاتب بأنه " قصر منيف يبهر الناظر فمن يراه لا يشك بتاتا من كونه هبة نزلتْ من السماء " 8 فهو بناء قائم على إبهار الناظر و جعله مشدوها أمام جماله و عظمته هذا الانبهار يكون من جانب أهل الحي البسطاء تجاه كل ما يؤثث القصر من أشياء وكائنات و هذا ما جعله يرقى إلى مرتبة الجنة " من هذا القصر ستخرج الحياة " 9 إن انبهار أهل الحي أمام القصر يقابله تعالٍ وازدراء ضمني للحي وسكانه من قبل سكان القصر ولو دققنا النظر في المكان الثاني أي الحي سنجد أنه يمثل الأصالة رغم كل ما يبدو عليه من تخلف وفقر لأنه هو الأقدم أما القصر فهو جسم جديد رُكِّب تركيبا على شاطئ المدينة " حي يفيق قبل اختراق أشعة الشمس لنوافذ منازله المتجاورة...يفيق على جلبة الصبية..لالتواء مع الأزقة في ممشاهم....و حمحمة الصيادين و أغاني الإذاعة..نحن الزراع في ارض بلادي..." 10فالحي رغم فقره واتساخه والتواء أزقته وتجاورها وروائحه الكريهة أحيانا إنما يرمز إلى الحياة الأصيلة والصورة المشرقة البسيطة للمجتمع و هذه الصورة للصباح وبدء النهار و السعي في الحياة متناقضة تماما مع حياة القصر التي ارتبطت بالليل والسهر والشهوة و رغما عن ذلك كانت كل الشخوص ترى في القصر جنة الأرض و لذلك كانت تسعى إلى أن تنقذ نفسها من الحفرة بأن تقفز إلى القصر و لكن كل الشخوص تقريبا تتفطن أيضا بعد رحلة مضنية وتجارب مريرة إلى أن القصر هو النار الحقيقية " كنتُ ممن دخل القصر و هاهو ماء البحر يغمرني فأتوق للخروج من هذه الجنة.."11
فالقصر لا يمكن أن يكون جنة و هو قد أفسد المدينة و البحر والبشر و أفقد الحياة معناها لأنه بُنيَ غصبا "اتعظ بما حدث لميمون عبد الهادي أول ضحايا القصر) الذي لم يضبط حالة فوران غضبه عندما اقتحم البوابة الرئيسية مطالبا بثمن أرضه..." 12 فالقصر اكتسح البحر ففقد أهل الحي أعمالهم وافتك أراضي الناس البسطاء و هكذا يبدو التعارض عنيفا ليس بين مكانين و إنما بين عالمين:
الحيالقصرجهنم (اسم)جهنم (مسمَّى)الجنة (مسمّى)الجنة (اسم)العبيدالأسيادالحفرةالبناء العاليقديم (أصال)جديد (مستحدث)بساطة الحياةتعقيد الحياةجمال الصباحجمال الليلشعور بالظلم و الضعفشعور بالقوةسعي إلى الدخول إلى القصر ( انبهار )إبعاد أهل الحي عن القصر( ازدراء)
إن التضارب الكبير بين فضائين روائيين أدَّى إلى عالمين مختلفين على كل المستويات و لاسيما الجانب الأخلاقي إذ يبدو القصر فاقدا لأي قيمة أو معيار فالمتحكِّم في العلاقات بين الشخوص داخله هو المال و النزوة و لذلك تبدو لنا حداثة القصر شكلية تنحصر كلها في المظهر أما وراء الأسوار العالية فتبدو قيَمُه بالية بائدة حجرية فكأننا بقيَمِه أقرب إلى العصور البائدة عصر الرقيق و الجاهلية والإقطاع حيث يملك السيد أجسام عبيده و أرواحهم و لذلك يعيشون في حالة من الذعر الدائم المزمن..و على هذا النحو كان السيد أقرب إلى صنم تسبِّح الرعية بحمده " هناك (داخل القصر) لا توجد حدود للمفاهيم و القيم. في كل حين ترتدي قيمة تتناسب مع اللحظة و التي يمتلكها السيد، فكيفما يكون مزاجه تكون القيمة و المبدأ " 13.
و لعل هذا التضارب الكبير في الحيز الروائي هو الذي أدى إلى تعارض في سلوك الشخوص و أفعالها إذ تؤرَّخ حياة جميعهم بما قبل دخول القصر و ما بعده أو بعبارة أوضح ما قبل دخول "الجنة "14 وما بعده.
«عيسى الرديني و أسامة وأنا ثلاثة أرواح جمعتنا شقاوة الطفولة الأولى» 15 لقد كان التمرد على المجتمع وقيمه هو الجامع بين الشخصيات الثلاثة و لكن علاقة التواصل بينهم ستنقلب في نهاية الرواية – بعد دخول جنة القصر المزعومة _ إلى صراع عنيف فقد أفقدهم القصر براءة الطفولة والحب والحلم، ألم يقل البطل " جيلنا ورث الأمنيات"16؟!
لقد بدا طارق فاضل البطل في علاقة متوترة مع عائلته تجلّت في عدم الرضا على سلوك أبيه " لم أحبه أو أكرهه كان ضيفا خفيفا..عاش كل منا بعيدا عن الآخر.." 17أما علاقته بأمه فتبدو أكثر غرابة لأنه كان في البداية يدافع عنها ضد عمته و لكنه في النهاية سيتنكر لها بعد زواجها من رجل آخر، هذا التنكر سيصبح نوعا من النقمة و الحقد و لذلك تقبل خبر موتها بلامبالاة عجيبة " أخيرا ماتت.. "18 ورفض أن يحضر جنازتها فهو لم ينسَ أن زواجها خيانة لأبيه " لم يجفّ دم أبي في قبره وهي تُخطب، ولمن؟ لمن أحبَّتْه في شبابها "19 وكأن البطل مسكون بهذه الكراهية التي تزداد في الرواية شيئا فشيئا إلى أن تصل إلى درجة الموقف المُدين الناقم و لذلك يعلن البطل رأيه في المرأة بشكل واضح قائلا: " النساء كالإسفنج تمتص أيَّ سائل دمًا كان أو ماءً " 20 بل إن البطل تصل به حالة الغضب إلى درجة نعت أمه بالعاهرة " أيًّا كان الأمر فهي الآن تدرب لسانها على نطق غيث بدلا من فاضل هذا هو عهر النساء" 21 ورغم كل الذي قاله البطل في أمه سيتكفل البطل بالانتقام لأمه من عمته بقطع لسانها و هكذا وجد البطل نفسه يحول محيطه الاجتماعي في الحي إلى عدوٍّ و بالتالي تتحول علاقته بالحي إلى نوع من القطيعة فالأم إنما ترمز إلى قيمة اجتماعية أثَّرتْ سيكولوجيا و بشكل خطير في نفسية البطل و كأننا بضعف أبيه (تعبه الدائم من العمل) و موته وحلول رجل مكانه قد جعل الإحساس بالذكورة عنده مبالغا فيه عوّضه بالفعل الجنسي مع كل ما يتحرك على الأرض حتى الحيوانات و ربما من أهم اللحظات في حياته هو شعوره بالوحدة بعد زواج أمه مما جعله يتأكد أنه كما تقول عمته " بذرة فاسدة " ولعل أغرب علاقة كانت بين البطل و عمته التي يبدو اسمها " خيرية " متعارضا مع حقيقتها وتبدو هذه العلاقة مبنية من البداية على العداء الذي سيحتد و يتوتر إلى درجة الانتقام و التعذيب والرغبة في القتل
«عليك أن تتخلص منها قبل أن تموت في يدك»22 هذا ما نصح به السيد البطل.
لقد كانت علاقة البطل بالمرأة (الأم و العمّة) قائمة على الكراهية والنقمة والحقد و لكن هناك جانب آخر في علاقته بالمرأة قد اتخذ أشكالا ثلاثة: الأول في علاقته بنساء الحي وغلمانها فقد كان رمزا للفحولة والرغبة الجنسية الجامحة إلى درجة أنه قد أَطلق عليه لقب " ماطور النفخ " فمغامرته الطفولية مع سعاد تحت الدرج وانكشافها من قِبل نساء الحي جعلت منه بطلا تحلم به كل النساء " فمع فضيحتي تلك تناقلت النساء خبر مشاهدتهن لي والادعاء أني أحمل قدما ثالثة " 23 و الحديث عن " القدم الثالثة " التي تبرهن عن فحولة البطل الجنسية يمكن قراءتها على أنها نوع من التعويض عن تقطع صلاته مع محيطه الاجتماعي إلى درجة الشعور بالهزيمة 24 ففحولة البطل الجنسية تبطن عجزا في إيجاد أي نوع من التواصل مع الأب (الضعيف الغائب) والأم (العاهرة) و الأخ (المتديِّن النقيض) وبالتالي فرفض الذات للمجتمع سيؤدي إلى الإيغال في تضخيم الأنا
(العضو) فهو يدافع عن نفسه ويثبت وجوده بإشهار عضوه و زاده حضور عمته ومحاولاته الفاشلة في الابتعاد عن حياة الليل كل ذلك زاده تضخيما للذات وتحديا للمجتمع فتبلورت في ذهن البطل مفاهيم جديدة بديلة عن السائد الكاذب " الحياة مشوار قذر يبدأ ناصعا..أما الواقع فعليك اقتراف الآثام كي تكون إنسانا.." 25 والدليل على أن الذات (العضو) العظيمة الباحثة عن اللذة ستظل تمعن في تأثيرها على البطل متحدية مجتمع الحي هو استعمال الراوي تعابير لا تحيل على مجتمع إنساني و إنما تشير إلى غابة يأكل فيها القوي الضعيف و يتحول فيها الإنسان إلى حيوان قميء مقزِّز ففي هذا العالم " إما أن تكون صيادا أو فريسة " 26.
في خضم هذا الفساد يبدو الشكل الثاني للعلاقة مع المرأة في شخصية تهاني الحبيبة، المنقذ، المُخلِّص القريب من الملاك أو الرمز الذي سيجعل البطل يعرف شعورا جديدا يحاول فيه المصالحة مع المجتمع إذ سعت تهاني من البداية إلى إخراج البطل من حياة الليل و الأزقة الملتوية 27 يقول طارق " و عجزتْ تهاني عن تبييض سمعتي في محيطها" 28 فالبطل لم يسع إليها بقدر ما أفنتْ هي نفسها في حبه و لكن البطل سرعان ما يحوِّل هذا الحب إلى عنف سيؤدي إلى موت الحبيبة (أو قتله) بطريقة مأساوية فحب البطل لتهاني كان مشوبا بالابتزاز و الأنانية واللامبالاة و هكذا فشل البطل في الهروب بمساعدة تهاني من قدره المأساوي المحتوم بل إنه لم يقدر على تجاوز الصورة التي رُسمتْ له و هو أنه مجرّد " ماطور النفخ " يعني إير كبير، هذا العضو الذي سيتحكم في قدر البطل و لذلك ليلة افتض بكارة تهاني وجد نفسه يخرج من حي جهنم إلى الجنة و كأننا بتهاني حواء والبطل آدم و عيسى الرديني شيطانه على الإثم و على ترك ذلك العالم و لهذا قال له " سأدخلك إلى الجنة " 29 في تلك الليلة الفاصلة من حياته و رغم أنه هو الذي كان فاعلا جنسيا و صحيح أن تهاني قد خسرت حياتها كلها إلا أن البطل قد فرَّط في كل شيء لأنه ليلتها قد قتل تهاني و قتل آخر قيمة يمكن أن تشده إلى الإنسانية حين لم يستمع إلى توسّل حبيبته الخانع " ارحمني فأنا أحبك " 30 و بالتالي يمكن القول إنه قد فرط في تاريخه كله من أجل لحظة متعة، فتهاني لم تخرجه من جهنم (الحي) بل إن فعلته ستدخله جهنم (الحقيقية) التي ستجعله يبيع حريته للسيد و يخسر صديقيْ عمره ( عيسى + أسامة ) وبالتالي يفقد شعوره بالإنسانية و هو يعترف بذلك قائلا " سقطتُ واقفا بينما سقطتْ تهاني في قبرها" 31 .
الشكل الثالث لعلاقته بالنساء تبدَّى مع مرام العشيقة داخل القصر و لعل ما ميّز هذه الشخصية هو الفتنة و الإغواء و الدهاء و لذلك تلاعبت بالبطل و أشعلتْ فيه الرغبة والشهوة من أجل الانتقام من صديقه عيسى الرديني لأنه هو الذي طلقها من زوجها و أدخلها القصر و حوَّلها إلى عاهرة و قد انتهت علاقة البطل بها بتحطيمه هو بعد أن أجبره السيد على التعدي على صديقه جنسيا ثم قتَل صديقه عيسى أمام عينيه " بكل فتنتها وقفت مرام في النافذة المطلة للبوابة الرئيسية تشهد نهاية عيسى " 32
و هكذا وجد البطل نفسه بين الخارج (في الحي) و الداخل (في القصر)، بين امرأتين: تهاني (الحبيبة) التي أحبَّتْه فخدعها ولم يرحمها و مرام (العشيقة) التي اشتهاها فخدعته.
إن المكان في الرواية بجدلية الداخل والخارج التي تمزقه تحيل القارئ على أننا بصدد تعرية للذات من فضح صورتها المزدوجة بين ظاهر وباطن جعلت البطل يتفطن إلى حالة التمزق التي يعيشها " غدوت ممزقا تماما كانت الهاوية سحيقة "33 و هذه الجدلية مرتبطة ارتباطا وثيقا بعلاقته بالمرأة فطارق فاضل يبدو عابثا بالنساء في الظاهر ولكن الحقيقة الباطنة أن مصيره قد تحكمت فيه أربع نساء:
1.عمَّة حاقدة 2- أمٌّ عاهرة 3- حبيبة قتيلة (تهاني) 4- عشيقة قاتلة (مرام)
لقد كان طارق فاضل رمزا للذات العربية التي ترى الوجود فعلا جنسيا ذكوريا حيوانيا ولكن
هذه الذات مسلوبة الإرادة مغلوبة على أمرها تسلك دائما السلوك الخطأ غير واعية بما تفعل لأن تلك الفحولة تبطن هزيمة وتيها لا حدود له فخارج القصر كان البطل غير رحيم أمام فيض حب تهاني أما داخل القصر فقد اتخذ صورة العبد المخصي الذي باع عضوه لسيده حتى يكون أداة انتقامه من أعدائه ولذلك كان يظن أنه الفاعل وإذا به مفعول به، كان يرى نفسه ضاحكا على النساء مغرِّرًا بهنّ و إذا به يقع فريسة مرام التي تلاعبت به حتى حصلت منه على ما أرادت و لذلك يهشِّم عبده خال صورة المجتمع العربي الآسنة الذي يُشيِّءُ المرأة و يعتبرها مجرد منتج للذة، مجتمع يسخِّر كل المؤسسات و القوانين والشرائع لخدمة " ماطور النفخ" العربي، فحين ندخل القصر نشعر وكأننا في العصور البائدة التي تهيمن عليها قيم الثأر والفحولة والإخصاء والنخاسة وأسواق العبيد و كأننا بالكاتب يشير إلى مجتمعات عربية ليس لها من الحداثة إلا الظاهر المخادع الكاذب.
لا يمكن أن نحيط ببناء الرواية الفني و دلالته السيميائية دون تتبع علاقة البطل ببقية الشخوص ولا سيما شخصية عيسى الرديني التي تظهر غير مختلفة عن شخصية البطل من خلال حياة الرفض التي عاشها فهو يتقاطع تماما مع أبيه إلى درجة التحدي والعنف و في المقابل تبدو علاقته بأمه (وخالته) و دفاعه المستميت عنهما أقرب إلى الشخصية الأوديبية " في أحد الصباحات تسلل عيسى بعد أن أيقن من مغادرة أبيه لمنزلهم و أخذ أمه معه.."34
عيسى الرديني مثل البطل بين أربعة نساء : الأولى أمه التي منحته الحياة فدافع عنها لآخر لحظة في حياته و الثانية خالته و أخته من الرضاعة التي ساندها وانتقم لها من زوجها وحافظ على مالها و الثالثة مرام التي حقد عليها فأدخلها إلى القصر عاهرة و الرابعة موضي التي أحبها بعنف و لقد اجتمعت مرام (بقصد و سوء نية) وموضي (بغير قصد وعن حسن نية )على جنونه وقتله: مرام ثأرا وانتقامًا وموضي حبًا و هيامًا " بعدها كان عيسى يسير في الطرقات عاريا يوزّع الشتائم على كل رجالات البلد " 35 لقد كان عيسى الرديني شخصية صارمة مناضلة و محبوبة من النساء (أمه – خالته – شهلا – موضي)
1- أم ضعيفة 2- خالة محِبَّة 3- موضي حبيبة، قاتلة 4 – مرام عدوّة، قاتلة
و لكن امرأة واحدة مثل مرام كانت قادرة على تحويله إلى أنقاض و رغما عن ذلك بلورت شخصية عيسى الحب بما هو قيمة إنسانية ترقى عن القيم الاجتماعية البالية لقد حاول أن يواجه التفاوت الطبقي بالمال والعلم و لكنه فشل و أصيب بالجنون و ظل يتسكع عاريا في المدينة و كان مصيره الاعتداء عليه من قبل طارق أعز أصدقائه ذاك الذي كان شاهدا على عقد قرانه على موضي و هذا الأخير سيواصل مهمته التي من أجلها دخل القصر بأن اعتدى بالفاحشة على صديقه عيسى انتقاما لشرف سيد القصر، لقد هتك طارق كرامة صديقه و لذلك كان مشهد اللقاء بين الصديقين العاريين من أروع المشاهد المأساوية في الرواية و لهذا السبب كرّره الراوي لمزيد توتير السرد و إمعانا في تقوية المنحى الدرامي " كان كل شيء خاطئا هذه المرة، المكان الشخص و التوقيت...انهرتُ فوق ظهر عيسى..لم أعد قادرا على أداء المهمة..."36
فذلك العراء المادي إنما يظهر الشخصيتين عبدين يرضيان نزوات السيد ولذلك كان صوت الآذان مع حركة الجسدين المقززة و جدلية فوق وتحت كل ذلك كان بلورةً لمأساة مريرة، كان البطل يجازي صديقه الذي أنقذه مرتين على الأقل و لذلك انهار ولم يستطع أن يتم مهمته كما تعوَّد أن يفعل، لقد ضحَّى البطل بتاريخه مع صديقه المنقذ وهو بذلك يفقد آخر شخص يشده إلى الحياة بعد موت تهاني وهرب أسامة: لقد كان عراء الجسدين عراءً لشخصيتين متناقضتين تماما:
طارق فاضل: بطل الروايةعيسى الرديني: بطل الواقعخائن لصديقيه: عيسى + أسامةوفيٌّ لصديقيه: طارق + أسامةمعذِّب لعيسىمُنقذ لطارقتابع لسيد القصر عبدٌ لهمنقذ لسيد القصر مُتحدٍّ لهمُهمِل لأمهمنقذ لأمهمعذِّب لعمتهمساند لخالتهراغبٌ في "مرام "كارهٌ لـ"مرام "قاتل حبه " تهاني "قتيلُ حبّه "مُوضي"
لم يكن طارق فاضل إيجابيا في فعله إلا بعد مقتل صديقه عيسى و على نحو مغاير كان هذا الأخير(عيسى) أقرب إلى البطل الإشكالي 37 و تبدو بطولته في سعيه إلى الخروج من الواقع الذي نشأ فيه و ثقته في نفسه من إدخال كل شباب الحي إلى القصر و رغبته الدائمة في إنقاذ الآخرين و كأن عقدة المسيح38 تتلبّسه ويتجلى ذلك في الكم الهائل من الشخصيات التي أنقذها أو وهب نفسه لخدمتها (أمه – خالته – طارق – شهلا – السيد) ولذلك جعل الراوي من نهاية عيسى بطولية بأن رحِمَهُ من العذاب بالقتل أما طارق فاضل فقد أمعن في تعذيبه بالحياة، فليس عبثا إذن أن تكون نهاية عيسى مأساوية مريعة ولكنها نهاية لا تليق إلا بالأبطال العظام: " وصل عيسى لقراره الأخير و رفض تنفيذ أيّ طلب يطلبه السيد ووصل السيد إلى قراره الأخير فصوّب نحوه عياريْن نارييْن..." 39
لقد كان عيسى بطلا في حياته بإنقاذ أصدقائه و مساندة الضعفاء من أهله (أمه وخالته ) وكان بطلا في جنونه بأن فعل ما لم يستطعه العقلاء (سبّ رجالات البلد) و كان بطلا في موته أيضا لقد أحالت شخصيته على انقلاب القيم و انعدام الأخلاق فعشْقُه الطاهر و شهادته العلمية لم تستطع أن تواجه سطوة الطبقية و استغلال النفوذ و شراء الذمم و التلاعب بأسواق المال من أجل لذة انتقام شخصية. كل ذلك لخصه لنا في لغة شرسة مُستفِزّة الكاتب عبده خال......هي حرب بين القيم الأصيلة (الحب) في مواجهة الفساد بكل وجوهه و لذلك انتبه البطل و تفطّن وهو يرى صديقه يُقتل عاريا إلى أن
" المال يجفّف الأخلاق....حياة العوز أكثر قدسية مما أجد هنا لاشيء مقدس هنا كل شيء مباح.."40
و هكذا فهم البطل الدرس متأخرا فقد كان لعيسى بطولة الحب و التحدي والانتماء و كان لطارق بطولة الخداع و الخيانة والوحدة والانزواء فيعترف قائلا: " في البدء كانت حياة آسنة راكدة لم تمكن أحدا من أبناء الحي من رفع رأسه...و أول من عبث بتلك القناعة كان " عيسى الرديني " الذي قلب تربة الخدر و غرس راية الحياة الرغدة.."41 في المقابل لن يتوقف البطل عن الخداع و الغدر بالمحيطين به مثل تهاني وعيسى فحسب بل سيتواصل ذلك مع أسامة صديقه وهذا الأخير لن يختلف في شيء عن عيسى و طارق في التصادم العنيف مع أهله و انغماسه في حياة الليل والتمرد و لكن صداقته للبطل ستنقلب إلى عداء إذ إنه سيدخل القصر محاولا الثأر لابنة خالته تهاني وقد اعترف أسامة بذلك لطارق قائلا:" جئتُ هنا كي أقتلك " 42 غير أن أسامة لن يختلف عن البطل خاصة في فقدان ذاته داخل القصر إذ كانت حياته أيضا صيرورة انهيار فهو سيفشل في مهمة الثأر بل سيتحوّل إلى مدمن على الخمر و إلى " قوادٍ" ثم عشيقٍ لنادر أخو سيد القصر و هكذا وجد نفسه يلبي نزوات أخي السيد تمام مثل طارق الذي كان بدوره رغبةً للسيد و هما وإن كانا فاعليْن جنسيا فقد كانا في الواقع مخِصيّيْن مسلوبيْ الإرادة و لهذا هرب أسامة 43 إلى قبر حبيبته طلبا للموت هربا من الحياة و هو نفس ما قام به طارق حين عاد إلى أسرته باحثا عن ذاته والحياة بروح ميتة " أقبل إبراهيم نحوي عاصفا جمعني في حضنه، لمّ عظامي، أعاد أنفاسي الهاربة مني " 44
و هكذا يمكن القول إن الرواية تشكلت من خلال إبراز العلاقة التي تربط بين شخصيات ثلاث في مستوى أول (طارق- عيسى – أسامة ) و تبدو في المستوى الثاني في علاقة هذا الثالوث مع شخصيات نسائية ثانوية في أغلبها..و لكن المرأة في الرواية رغم أنها كانت أقرب إلى الشيء الممتع منه إلى الكائن البشري فقد كانت هي الراسمة لأقدار الشخوص الذكور فتهاني هي التي فجّرت الصراع بين البطل وأسامة ومرام هي التي تلاعبت بطارق لتحطيم عيسى، لقد كانوا ذكورا مهزومة فاقدة للإرادة والحرية في حين أن المرأة لئن بدتْ أقرب إلى جارية في العصور الغابرة فإنها كانت فاعلة بحبها وانتقامها و أثرها في نفوس الشخوص سلبا وإيجابا...و هذه الصورة لا تختلف عن صورة الرجل والمرأة في السرد العربي القديم ولا سيما في ألف ليلة وليلة فشهريار الرجل القوي ببطشه وقتله استطاعت أن ترّوضه شهرزاد المرأة بالحكايات العجيبة فحوَّلتْه إلى طفل صغير...فالسرد دائما يغازل الأحلام و ينكأ الخيال....
وفي النهاية نجح عبده الخال إلى حد بعيد عبر بناء سردي متماسك من تخييل أزمة جيل كامل من المهمَّشين وجد صعوبة كبيرة في تفهّم تراكم الثروة بشكل مفاجئ فجعل ذلك من الهوة بين الطبقات تتعاظم و أدى إلى هشاشة البناء النفسي للأفراد لشعورهم بالظلم والمهانة والتهميش الأقرب إلى العبودية. هذا التراكم الجائر للثروة لدى شريحة من المجتمع جعل الأخلاق و الشرائع كذبة يتلاعب بها الأقوياء من ذوي السلطة والنفوذ. فالسيد و قصره رمز لطفرة المال الخليجي التي حطمت كل القيم ومسخت المجتمعات الخليجية بأن أخرجتها عن صيرورتها التاريخية إلى مفارقة عجيبة تجمع بين بداوة الاجتماع والقيم من ناحية وحداثة سيولة المال المتفاقمة من ناحية أخرى و في مثل هذا الواقع الاجتماعي لابد أن ينهزم الحب وتتآكل القيم..
إن جدلية القصر والحفرة لا تمزق مجتمعا فحسب بل كانت تمزق ذوات تائهة بين الثروة والثورة بين الرغبة والحب بين حداثة البناء و قدامة القيم وترهّلها.