الأحد ١ كانون الثاني (يناير) ٢٠٠٦
بقلم تيسير الناشف

تهديد الهيمنة والإبداع الفكري

يمقت عرب، وأنا واحد منهم، شأنهم شأن سائر الشعوب، أن يهيمن فكر أجنبي، من قبيل الفكر الغربي، أو حضارة أجنبية، من قبيل الحضارة الغربية، عليهم وعلى ثقافتهم. فمن المهم بالنسبة إلينا أن نحافظ على خصوصيتنا الثقافية. وفي الحقيقة إن تحقيق هذه المحافظة يزداد صعوبة في هذه الأيام بالنظر إلى اتجاه إضفاء الطابع العالمي (العولمة) على الاقتصاد، وهو الاتجاه الذي يضعف الخصوصيات الثقافية. والواقع أن العرب يتهددهم خطر خضوعهم للهيمنة الثقافة الغربية، بل إن هذا الخضوع واقع في نواح معدودة من حياتنا. وللتخلص من هذا الخطر والخضوع لا اعتقد أن الطريق هو إنكار التماثل أو التشابه بين جوانب فكرية عربية وإسلامية، من ناحية واحدة، وجوانب فكرية غربية، من ناحية أخرى. طريق التخلص من هذا التهديد والخضوع هو طريق الإبداع الفكري. ولا يتحقق الإبداع الفكري إلا عن طريق الانطلاق النفسي والفكري، عن طريق الرؤية النقدية النشيطة المتفاعلة مع المحيط الاجتماعي والطبيعي القريب والبعيد والمنفتحة عليه. المفتاح هو الرؤية النقدية النشيطة المتفاعلة المنفتحة.

لتأكيد الذات العربية والخصوصية العربية وللتخلص من تهديد الهيمنة الحضارية الغربية أو لإزالتها لا مناص من طرق طريق الفكر النقدي النشيط المتفاعل مع المحيط. عن طريق الفكر النقدي المبدع المنطلق المنفتح المتفاعل يمكن للعرب أن يؤكدوا ذواتهم وان يحموا خصوصيتهم العربية الإسلامية. عن طريق هذه الرؤية تمكن دراسة الحضارة العربية والحضارة الغربية والعلاقة بينهما. وعن طريق هذه الرؤية يفسح المجال لان يظهر العرب ما لديهم من إبداع يوجه نحو إزالة الأوهام بالتفوق الغربي ونحو تأكيد الخصوصية وتأكيد دور العرب والمسلمين الحضاري في العصر الحاضر.

وأي طريق مقترح لتأكيد الذات والخصوصية وللتخلص من الهيمنة الأجنبية لا يأخذ بالنهج النقدي طريق عابث لا يؤدي إلى تحقيق الهدف. وعدم الأخذ بهذا النهج من شأنه أن يؤكد أن المرء لا يزال غافلا وغير واع، وان المرء لم يتعلم بعد قواعد لعبة التقدم العلمي والحضاري ولم يمسك بعد بمفتاح التفوق العلمي والحضاري.

ومن نافلة القول أن القطيعة الفكرية ليست إبداعا فكريا. القطيعة عن الفكر الغربي أو الحضارة الغربية ليس من شأنها أن تحول دون حضور القوة الغربية ودون استهداف القوة الغربية لنا، وليس من شأنها أن تزيل ضعفنا وان تحافظ على خصوصيتنا. فحتى لو قطع العرب أنفسهم عن الفكر الغربي والحضارة الغربية لأقحمت تلك الحضارة نفسها إقحاما على ثقافتنا، وعلى وجه الخصوص الآن في عهد الشبكة الدولية.

والحاصل على الساحة العربية خلال العقود الماضية لم يكن تعزيز الذات العربية والخصوصية الثقافية العربية ولكن التردي على صعد معدودة: صعد التربية والثقافة والحالة الاجتماعية، وازدياد الضعف العربي على الساحة العالمية وازدياد التبعية العربية الثقافية والاقتصادية والدبلوماسية للنظام الاقتصادي العالمي، وازدياد الاعتماد على المواد الغذائية المستوردة من الخارج.

وخلال العقد الأخير من القرن الماضي حدثت تطورات هامة على الساحة العربية، منها اجتياح جيش صدام حسين للكويت، مما أدى إلى مفاقمة التفكك في العلاقات العربية، وقلة التضامن بين عدد من الدول العربية، وازدياد نفوذ الشركات عبر الوطنية الاقتصادي والمالي والسياسي في المنطقة العربية، واستنزاف الموارد الطبيعية والاقتصادية والمالية العربية وإضعاف كثير من الدول العربية عسكريا واقتصاديا.

هذه التطورات وغيرها عززت الاتجاهات التي تدعو، بحجة الليبرالية، إلى قبول "الشرق أوسطية" والاندماج – التابع يقينا - في النظام الاقتصادي العالمي باسم العولمة على حساب وضع مشاريع إنمائية تستلهم وتراعي الظروف الإقليمية العربية.

وترافق هذه التطورات ازدياد قوة النزعة الاستهلاكية، وتفشي الإفراط في النزعة الفردية الطفيلية وتفشي الفساد الخلقي ونزعة تحقيق الربح المطلق العنان، وقلة الالتفات إلى وضع المشاريع الإنتاجية.

وفي أعقاب ذلك كله غير بعض المثقفين مواقفهم الفكرية. ومن الأمثلة على هذه التغييرات دعوة بعض المثقفين العرب إلى قبول "نظام الشرق الأوسط" والى الاندماج في العولمة دون الالتفات الكافي إلى النتائج السلبية المتمخضة عنها ودون الدعوة الوافية بالغرض إلى طرح أفكار ومشاريع لتفادي تلك النتائج.

ولتحقيق الإبداع الفكري ينبغي تحقيق الانفتاح الفكري. ويتوقف مدى انفتاح الفكر أو مدى انغلاقه على عوامل، منها طبيعة المحيط المباشر وغير المباشر الاجتماعي والثقافي-النفسي والسياسي وطبيعة التنشئة المنزلية والمدرسية. وتتضمن التنشئة المدرسية تعلم المنطق والفلسفة والنهج العلمي، والتنشئة على إيجاد مسافة بين التوجه القيمي والتوجه الفكري. ويتوقف أيضا على إيجاد الوعي لدى الناس بان من الممكن أن يتعايش هذان التوجهان رغم وجود مسافة بينهما وبان وجود هذه المسافة لا يتضمن النيل من التوجه القيمي.

ولتحقيق قدر اكبر من الانفتاح الفكري والنهوض الاجتماعي يجب تسخير آليات علمي الاجتماع والنفس. فهذا الهدف يمكن أن يحقق بطرق وأساليب التنشئة الاجتماعية التي توجد التهيئة الاجتماعية والنفسية وتوجد بنية الموقف. وهذه كلها تندرج في اطار اهتمامات هذين العلمين.

ومما من شأنها أن تسهم في الحفاظ على الخصوصية القومية والثقافية معرفة الواقع الذي يجد الشعب نفسه فيه. وفي مجتمعات كثيرة، منها المجتمع العربي، تشيع عادة لا تساعد على التوصل إلى معرفة الواقع، وهي عادة إعطاء إجابات سريعة جاهزة على أسئلة تتطلب الإجابة المتأنية المتعمقة المدروسة عنها. وفي هذه المجتمعات في أحيان كثيرة يعتبر المجيب رفض جوابه أو التحفظ عنه أو انتقاده رفضا أو انتقادا لصاحب الجواب نفسه وإهانة له. صاحب الجواب هذا لا يترك مساحة أو حيزا بين نفسه وجوابه، بينما الحيز موجود من الناحية الموضوعية، أي أن رفض الجواب لا يعني رفض صاحب الجواب. وبالنظر إلى أن الحيز موجود يجب على صاحب الجواب إلا يعتبر رفض الجواب مساسا به وإهانة له.

وبالنظر إلى أن السبب في نشوء هذا الرفض هو التسرع بإعطاء الإجابة الم يكن من الحري بذلك الشخص أن يتريث في إعطاء الجواب تجنبا لإعطاء جواب متسرع يؤدي بآخرين إلى رفضه أو انتقاده؟ ويمكن أن يكون للتنشئة في المنزل وفي المدرسة الابتدائية والثانوية وفي الجامعة دور كبير في تخليص الناس من صفة التسرع بإعطاء الإجابة وفي جعلهم يميزون بين أنفسهم وإجاباتهم، وبالتالي لا يشعرون بالإهانة لرفض آخرين لجوابهم.

ولعادة إعطاء إجابة جاهزة سريعة غير متروية جانب سلبي آخر. ويتمثل هذا الجانب في أن إصدار شخص لتلك الإجابة التي يظنها صحيحة يشعره بالاستغناء عن إعطاء إجابة أخرى صحيحة، وهذه الإجابة الأولى تشغل في عقل المجيب حيزا من الصعب على جواب آخر أن يشغله بسبب شغل الإجابة الأولى لذلك الحيز. وبالتالي قد لا يبحث عن إجابة أخرى. وفي حالات كثيرة تكون الإجابات مزيجا من عناصر موضوعية وعناصر ذاتية، ومن بيانات صحيحة وبيانات خاطئة.

وبسبب انتشار ثقافة طرح الإجابات المتسرعة والإجابات التي هي مزيج من عناصر صحيحة وخاطئة وعن طريق تبني تلك الإجابات باعتبارها صحيحة وعدم إدراك وجود مسافة بين الإجابة وصاحبها تنشب أحيانا معارك كلامية لا تتوخى التوصل إلى المعرفة ولكنها تسعى إلى دفاع المرء عن فكره لمجرد انه فكره. في هذه الثقافة يصبح صاحب الإجابات أسيرا لإجابات كان تسرعه بإصدارها سببا لهذا الأسر، ويصبح مشاركا في معركة ما كان له أن يشارك فيها لو توخى التريث في الإجابة.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى