تَرْنيماتٌ بَحْريَّةٌ
إلى أبي....
مَنْ عَلَّمَني ِبَّأنَ الحياةَ جَديرَةٌ بِأَنْ نَحْياها..مَهْما كانَتْ طَعَناتهُا....
بَدَأَتِ الحَياةُ تَرْفَعُ سِتَارَها عَنْ يَومٍ جَديدٍ..سَماءٌ بِلَونِها الفِضِّيُ تُعْلِنُ يَقْظَتَها مِنَ النَومِ..وليلٌ أَعْلَنَ انْسِحابَهُ بِهِدوءٍ وسَكينَةٍ..بَحْرٌ يوَدِّعُ اللَّيلَ كَما اسْتَقبَلَهُ..ويَسْتَقْبِلُ النَهارَ كَما وَدَّعَهُ..بِرَهبَةٍ أَزَليَّةٍ..وهُدوءٍ صَيفيٍ..ونَسَماتٍ عَذْبَةٍ..وأَلْحانِ أَمواجٍ ضَعيفَةٍ..
صيَّادٌ..قارِبٌ خَشَبيٌّ..أَدَواتُ صَيدٍ بائِسَةٍ..ورِحْلَةٌ يوميةٌ فَوْقَ صَفْحَةِ البَحْرِ..وعِنْدَما بَدَأَتْ الشَّمْسُ بِإرسالِ أَشِعَتِها الذَهَبيَّةِ عَلَتْ ترنيماتُ الصيَّادِ الذاتيَّةِ على إيقاعِ حَرَكاتِ تَجْذيفاتِهِ تُخاطِبُ كُلَّ الأشياءِ حولَهُ..وفي الحقيقة لا تُخاطِبُ إلا نَفْسَها..
....أَدِلَكْ [1]..حُثَّ الخُطى مَعي..وساعِدْني عَلَى سَحْبِ نَفسِكَ..لنَكْسَبَ الوَقتَ..فَاليَومُ عِنْدي أَمَلٌ كَبيرٌ..لَيْسَ بِكَ ..وإِنَما في البَحْرِ..كَثيرٌ ما بَخِلَ..فيما مَضى..ثُمَّ عادَ..وأَعْطى بِسَخاءٍ..هَيَّا دونَ تَكَاسُلٍ..فأَنا عَجُوزٌ..وأَنْتَ ما زِلْتَ شاباً..قُلْتُ لَكَ إنَّ اليَوْمَ أمَلي..كَبيرٌ جِداً..جِداً..يَكْفينا مِنَ الزَّمَنِ عَشْرَةُ أيامٍ..بِلا صَيدٍ يُذكَرُ..ماجَلَبْنَاهُ..لا يُطْعِمُ أولادي..وَجْبَةَ غَداءٍ واحِدَةٍ..واليومَ مَعَ أَمَلي الكَبيرِ هَذا..أَشْعُرُ بِنَشَاطٍ وقُوَّةٍ يَغْمُرانِ نَفْسي..ومُتَفائِلٌ أنا بِقَدْرِ البَحرِ ومَخلوقاتِهِ..الطَبيعَةُ اليومَ هَيَأَتْني..اسَتْنفَرَتْ قِوايَ..وغَمَرَتني نَشَاطاً وأَمَلاً..رُبَما لِكَي أََعودَ بالصَيدِ الكَثيِرِ..وأَكُونُ قَادِراً..على سَحْبِ أَسْماكٍ ثَقيلَةٍ مِنْ قاعِ هَذا البَحْرُ..آهٍ أَدِلَكْ..شَوقي بِحَجْمِ هذا البَحْرُ..لِتِلْكَ المَخْلوقاتِ الظَريفة..في هَذِهِ الأعماقِ الُموحِشَةِ..إنَّها غاليةٌ لَدَيَّ..بَلْ إنَّها ذَهَبٌ أَدِلَكْ..ذَهَبٌ ثَمينٌ..لا أحدَ يَعرِفُ قِيمَتَها..إلا مَنْ عَايَشَها دَهَراً..وأنا عَايَشْتُها عُمُري كُلَّهُ أَدِلَكْ..عُمُري كُلَّهُ..بَعْثَرْتُهُ بَينَ هَذِهِ المياهُ الماسيَّةُ..وتِلْكَ الشَواطِئُ الذَّهَبيةُ..بَيْنَ أُغنياتٍ بَحْرِيَّةٍ..تُنَاجي البَحْرَ بَعُذُوبَةٍ وشَجَنْ..وأُخْرى تُنَاجي شُطآَنَ الوطنِ..عنَدَما كُنَّا نَخْرُجُ..في رَحَلاتِ صَيْدٍ طَويلَةٍ..قَالَتْ زَوجَتي في الأَمْسِ :
– لِماذا لا تَجِدُ لَكَ عَمَلاً آَخَرَ نَعيشُ مِنْهُ..غَيرَ صَيْدِ السَمَكْ..؟..
لَو إنَّكَ مَكَاني مَاذا كُنْتَ سَتُجِيُبها أَدِلَكْ..؟..ماذا سَتَقولُ لَها..؟..وكَيفَ سَتَشرَحُ لَها..؟..نَظَرْتُ نَحْوَها..وَدَدّتُ لو أُغَنيَ لَها..إحدَى الأُغنياتِ البَحْريةِ..عَلَّها تَعْرِفُ سِرَّ عِشْقي للبَحرِ..لَكِنَّني لَمْ أَفْعَلْ..ولَمْ أُجِبهَا بِشيءٍ غَيْرَ إنِّي..هَزَزْتُ رَأسي نافياً..فَكَيفَ لِمِثلِ هذا الَمخلوقِ الغَريبِ..أَنْ يَفْهَمَ عَقْلَ الرَّجُلِ وتَفْكِيرَهُ..؟..كَيف..؟..سَأَلتُها بَعْدَ بُرْهَةٍ :
– ومَاذا أَعْمَلُ..؟..
لَمْ تُجِبْ غَيْرَ أَنهَّا قَالَتْ لي باقتضابٍ :
– أَيَ شَيءٍ..
وصَمَتَتْ..تُلقي النصائِحَ..ولا تَعرِفُ الرأيَ السَّديدَ..أَجَبْتُها :
– إني خُلِقْتُ في البَحْرِ صيَّاداً..ولا أَعرِفُ غَيْرَ صَيْدِ السَّمَك عَمَلاً..ثُمَّ إنَّها أَزَمَةٌ..وسَتَمُرُ..عَشْرَةُ أَيَّامٍ..مِنْ نُدْرَةِ الصَّيدِ..لَيسَتْ بالكَثيرَةِ مُقَارَنَةً..بِمَا مَرَرْنا بِهِ فيما مَضَى..
تَصوَّر أَدِلَكْ إنها صَرَخَتْ في وَجهي قائِلَةً :
– يَكفينا مُقَارَنَةً..بأيامِكَ الماضيةِ..هَذِهِ الأيَّامُ..تَخْتَلِفُ عَنْ أَيامِكُمْ..فيما مَضَى..ألا تَرى سُوءَ حالَتِنا..وبُؤسِنا..وفَقْرِنا..؟..
نَعَمْ أَدِلَكْ أرى..وأَعي..وأَعرِفُ بأَّنَ الحياةَ تَزْدادُ طَلَباً..وتَصْرُخُ بالمزيدِ..والمزيدِ..ومِنْ ثُمَّ المَزيدِ..لَكٍنْ كَيفَ لي أَنْ أَعْتادَ وَضْعاً..غَيرَ الذي عِشْتُهُ سَنَواتٍ طَويلَةٍ..بَلْ عُمُري كُلَّهُ..كَيفْ..؟..أَرى سُوءَ الوَضَعِ..وأَرى البَحْرَ وقَدْ خَفَّ عَطَائُهُ..لَكِّنَ الأَمَلَ بِهِ كَبيرٌ جِداً..يَتَوَقَّدُ في داخِلي كالجَمْرِ حَرارَةً..كُلَّما أَمُدُ نَظَري فَوقَ..هَذِهِ الصَفْحَةِ الزرقاءَ..وكُلَّما أُعانِقُ هَذِهِ النَسَماتِ الرَقيقَةِ..أُحَدِّثُكَ عَنِ الأمَلِ كَثيراً..لأَّنَهُ مُنْذُ أيامٍ قَصَّ عَلَينا صَيَّادٌ..قِصَّةَ رَجُلٍ في بِلادٍ بَعيدَةٍ جِداً..لا أدري ما الاسمُ الذي أَطْلَقَهُ عَلَيها..وإنَّ ذلِكَ الرجلُ وهو صيَّادٌ مِثْلَنا..بَقيَ ثَمانينَ يوماً لَمْ يَصْطَدْ شَيئاً..تَصَّورْ أَدِلَكْ إنَّهُ تَحَمَّلَ السُخرياتِ..والكَلِماتِ المُيَّئِسة ولَمْ يُثْنِهِ كُلُ ذَلِكَ عَنْ عَزْمِهِ في الإبحارِكُلَّ يومٍ في البَحْر..ولَمْ يَقْتُلْ كُلَّ ذَلِكَ ثِقَتَهُ بَنَفسِهِ وأَمَلَهُ وصَبْرَهُ..حتَّى خَرَجَ يَوماً إلى البَحْرِ..واصْطَادَ سَمَكَةً تَكْبُرُكَ رُبما بِمَرَتَينِ..سَحَبَتْهُ إلى عُرضِ البَحْرِ..وعندَما تَمَكَّنَ مِنها بَقي..يَسْحَبُهَا عِدَةَ أيَّامٍ حَتى الشاطِئِ..أَتَعلَمُ نِهايَةَ ماحَدَثَ لَهُ..؟..وَصَلَتْ السَّمَكَةُ مَعَهُ هَيكَلاً عَظمياً إلى الشاطِئِ..طَوَالَ طَريقِ العَودَةِ كانَتْ تَأكُلُ مِنها الأسماكُ والقُرُوشِ..ومَخْلُوقاتِ البَحْرِ لكِّنَهُ..أَدِلَكْ نالَ إعْجَابَ الجَميعِ..وعادَتْ ثِقَةُ الصيَّادينَ بِهِ.. وتَعَزَّزتْ ثِقَتُهُ بنفسِهِ..وأصبَحَ حَديثَ العامةِ هُناكَ..وقالَ عِندَئِذٍ مَقُولَتُهُ الجميلة :
– (( قَدْ تَبْدو مُحَطَّماً لَكِنَّكَ لَمْ تُهزَمْ )).. [2]
أنا فَرِحْتُ لِما حَدَثَ مَعَ ذَلِكَ الصَيَّاد..وتَمَنَيتُ أَنْ يَحدُثَ مَعي..كالذي حَدَثَ مَعَهُ..ورُحْتُ أَحْلُمُ بِذَلِكَ سَاعاتٍ طِوالٍ..وأَتَخَيَّلُ نَفْسي مَاخِراً عِبابَ البَحْرِ..بِمِثلِ تِلكَ السَمَكةِ..وأَنْ أُقيمَ احتِفالاً بِهَذا عَلَى الشاطِئِ حَتَى الصَبَاحِ..فَشَّدَني هَذا بِقوَّةٍ..وَقَرَرتُ أَنْ أَبْعَثَ بإعجابي لِذَلِكَ الصَّياد..وأُهَنِئَهُ على بُطُولَتِهِ..وأَسْتَمِدُ مِنْهُ العَزْمَ والصَبْرَ والأَمَلَ..عَلِّي أَجِدُ عِنْدَهُ سَلوايَ بِخيباتي المُتَكَرِرَةِ..وبَلْسَماً مِنْ تَجْرِبَتِهِ يَهِبُني إيَّاهُ لأَطْمُرَ جِراحَ روحي..وعِنْدَما أخبرتُ الذي حَدَّثَنا بِذَلِكَ وطّلّبتُ مِنْهُ اسمِ ذَلِكَ الصَّياد..وعِنوانَهُ بالتفصيلِ ضَحِكَ مِني..مِلئَ شِدْقَيْهِ ولَمْ يَترُكَ أحداً مِنَ الصَّيادينَ إلا وأَخْبَرَهُ عَمَّا أُريدُ..التَفوا حَولي وسَأَلوني ضاحِكينَ وساخِرينَ :
– مَنْ تُريدُ أّنْ تُقابِلَ يا هَذا..؟..
لم أَفْهَمْ بِدايَةً ما الذي أَضْحَكَهُمْ..إلى هذا الحَدِّ..و سَخِطْتُ عَلَيهم لأَنَّهُمْ ..لا يُقَّدِرونَ مَنْ لَهُمْ مَواقِفَ بُطوليَّةٍ في الحياةِ..واتَهَمتُهُمْ بالحَسَدِ والغَباءِ ولَمْ أَكُنْ أَعرِفُ..بأَّني الغَبيُّ بَينَهُمْ لأَّنَ..ما قَصَهُ عَلَينا ذَلِكَ الصَّيادُ لَمْ تَكُنْ إلا قِصَّةً..كَتَبَها رَجُلٌ مِنْ بِلادٍ بَعيدةٍ..تَقَعُ خَلْفَ هَذا البَحْرِ..مُنْذُ سَنَواتٍ طَويلَةٍ..ولَمْ تَكُنْ إلا خَيالاً أَدِلَكْ..يا لا جَهْلي..اختَلَطَ الواقِعُ بالخيالِ عِندي..لَمْ أكُنْ أَحْسَبُ بأَنَّ الإنْسانَ ضَعيفٌ أَيْضاً..وهوَ الذي كُنْتُ َأعتَبِرَهُ..أَقوى مَنْ عَلَى الأرضِ مِنْ أَحْياءٍ بَلْ وأَشْرَسُها وأَعْنَفُها..لَمْ أَحسِبهُ تَلُمُ..بِهِ واقِعَةٌ فَيَلجَأُ لِلَبحْثِ عَنْ مُنقِذَهُ مِنها في قِصَصٍ وخَيالاتٍ يَقُصُها الغَيرُ..عَلَى أَيِّ حَالٍ أَدِلَكْ فَقَدْ تَعَلَّمتُ مِنْ تِلكَ القِصَّةِ الرَّائِعَةِ أَنْ لا أَيأَسَ وأَنْ لا أَفقِدَ الثِقَةَ بنَفْسي وأَنْ أَبقى مُتَسَلِحاً بالأَمَلِ..حتى وإنْ كانَ مَصدَرُ عزيمتي هَذِهِ مِنْ وَحي تَجارِبَ غَيري مِنَ النَّاسِ..وأَدْرَكتُ إنَّ الإنْسانَ الضَعيفَ هَذا..كائِنٌ يَملِكُ قوَّتَينِ عَنيفَتينِ هُما الصَّبرُ والأَمَلُ..إذا أَحْسَنَ اسْتِغْلالُهما وَصَلَ مُبتَغاهُ..لِذَلِكَ اليومَ تَراني نَشيطاً ومُمتَلِئاً أَمَلاً..وصَبْراً عَلَى الأيَّامِ..فَساعِدْني عَلَى اجِتيازِ ما بَقيَ لَدَينا مِنْ مَسافَةٍ..ولا تَتَكَاسَلْ..واحْذَرْ أَنْ تُفْزِعَ أَحِبائي في قاعِ البَحْرِ تَحتَكَ..بَلْ ابعَثْ في قُلُوبِها الصَّغيرَةِ الطُمَأنينَةَ والسكينَةَ..ولا تَتَمايَلْ كَثيراً لِكَي لا تَظُنَكَ القِرْشَ المُفتَرِسَ..بهدوءٍ واسترخاءٍ ازحَفْ فَوقَ هَذِهِ المياهِ الماسيةِ..واحْذَرِ التَباهيَ والخُيلاءَ..ولا تَظُنُ نَفْسَكَ سَفِينَةً كَبيرَةً..كالتي نَرَاها في عُرْضِ هذا البَحْرُ..فَمَا أَنْتَ إلا قارِبٌ حَقيرٌ لِصَّيادٍ صَغيرٍ جِداً..جِداً..وانظُرْ إلى البَحْرِ حَولَكَ بِصِغَرٍ وَإعجابٍ..هَلْ تَكِنُ لَهُ الحُبَ مِثلي..؟..غَبيٌ في سُؤالي هذا..كَيفَ لا وهو الوَطَنُ لَكَ..؟..أَنْتَ أيضاً تَعْرِفُ عِشْقَ الوطَنِ مِثْلُ البَشَرِ أَدِلَكْ..تَرْفُضُ الخُروجَ مِنهُ..بَلْ تَموتُ إذا ابتَعَدتَ عَنهُ..وأنا يَموتُ في داخلي كُلَّ شَيءٍ جَميلٍ إذا تَرَكتُ..وَطَني ومَرَاتِعَ طُفُولَتي وشَبَابي..ساعاتٍ أَرَاكَ أَفضَلُ مِني أنا الإنسانُ الذي صَنَعَكَ..لأِنَّكَ لا َتأِنُ ولا تَشْكو مِثْلَنا..لا يُعجِبُنا أيُ حَالٍ ولا أَيَ وَضعٍ..ودائِماً رَفْضُ الواقِعِ يُلازِمُنا..يَحرِقُنا مِنَ الداخِلِ..ويُذْبِلُ زَهَراتِ الحَياةِ فينا..ونَبقَى طَوالَ العُمرِ في سَعيٍ مُستَمِّرٍ جَشِعٍ..نُطارِدُ الحياةَ ونَحنُ نَمْسِكُ قَيدها..لا نَعرِفُ تَحديدَ مَصيرٍ ولا مُستَقَرٍ فيها..حَقاً إنَنَّا أَغرَبُ مَنْ يَعيشُ..فَوقَ هَذِهِ الأرضُ أَدِلَكْ..غَريبٌ جِداً الإنسانُ..بيَدَيهِ كُنوزَ كُلَّ هَذِه الأرضُ..ولا يَعرِفُ لِنَفْسِهِ راحَةَ بَالٍ..ولا هُدوءاً آمِناً..ويَبقى فيها يَسعى الليلَ والنهارَ دونَ قناعَةٍ واكتفاءٍ..
هَيَّا حُثَّ الخُطى فالنَهارُ يَطْرُقُ أَبوابَ السَّماءِ..واللَّيلُ مِنْ نوافِذِها هارِبٌ..انظُر إلى الفَجْرِ الحليبي الخَلاَّب..تَحَسَسْ معي هَذِهِ النَسَماتُ المائيَّةِ الرَقيقةِ..أَلَيسَ هَذا رائِعاً وجَميلاً..؟..أَلَيسَ هَذا شاعريٌ لِدَرَجَةٍ لا تُوصَفُ..؟..سَلَبَنا الشقاءُ التَمَتُعَ بِجَمَالِ الكَونِ حَولنَا..كُلَّ يَومٍ أَرى الفَجْرَ والغُروبَ على البَحْرِ لَكني لَمْ أَقِفْ مَبْهوراً بِهِما رُبَما مُنذُ سِنينَ..مَتى يَحِنْ وَقْتُ النُزولِ عَنْ رَكْبِ الحياةِ..والانخِراطُ بِها مُتَأَمِلاً مُتَلَذِذاً..؟..لِماذا نَشْقى ونَتْعَبُ..؟..ولِماذا لا نَرضى بما قُسِمَ لَنا..؟..العَمَلُ جَوهَرُ حَياةِ الإنسانِ..حسناَ..فلماذا الحياة لا تُكافِئُ كُلٌ حَسْبَ جُهْدِهِ ما دُمْنا لا نَرفُضُ العَمَلَ ونَفني العُمرَ بالجُهدِ والتَعَبِ..؟..(( لماذا )) هَذِهِ يوجَدُ مِنها عنديَ الكَثيرُ..ولا أَجِدُ جَواباً واحِداً لَها في جُعبَتي..لِذَلِكَ أَدِلَكْ سَوفَ تَسْمَعُ اليومَ مِني الكثيرَ فَلا تَمَلُ سَماعي..ولا تَقُلْ عَني ذَهَبَ الشَقَاءُ بِعَقلِهِ وأَصبَحَ يَهْذُرَ..لا..بَلْ أُريدُ أَنْ أَتَحَدَثَ فَلا أَجِدُ غَيرُكَ أمامي..حَتى زَوجَتي فَقَدَتْ مُرونَتِها على فَهْمي..وأَشعُرُ بأَّني قَدْ عُدُتُ طِفلاً يَحتاجُ العَطفَ والحَنانَ بَلْ والرِعايَةِ..وكأَّنَ خَمسونَ عاماً أَحمِلُها تَلاشَتْ كُلُها وذابَتْ في هَذِهِ المياهُ الزَرقاءُ..لِذَلِكَ أُناجيكَ فَأَنتَ تُلازِمُني طِيلَةَ يَومي فَلا تَسْأَمْ..ولا تَتَبَرَّمْ مِنْ كَهْلٍ بِحاجةِ لأَنْ يَتَكَلَّمَ..قيلَ مَرَةً أمامي إنَّ الإنْسانَ..يَتَعَلَقُ بأي شَيءٍ يُلازِمَهُ كُلَّ يَومٍ..ويُصْبِحُ مَعَ الأيامِ جِزءاً مِنْهُ..لِذَلِكَ أُناجيكَ بكَلماتي..وأَرميَ لَكَ ما بِنَفسي مِنْ مَشَاعِرَ مُتَضارِبَةٍ..دَفينةٍ في أَعْماقي..فَتَحَمَّلْ كَلاميَ..واصبِرْ..وعِنْدَما نَصِلُ خُذْ راحَتَكَ..واستَرخِ فَوْقَ المياهِ الزرقاءَ..لأَنَّكَ رُبَما تَعُودُ مُثْقَلاً بالأَسماكِ اللذيذَةِ..ويَكون لَديكَ عَمَلٌ شَاقٌ سَتَعْمَلُهُ..فَلَمْ يَبْقَ غَيرُ القَليلِ لِنَصِلَ..في ذَلِكَ المكانُ كانَ الصَيدُ في الأيامِ السابِقَةِ وَفيرٌ جِداً..ورُبمَا أَجِدَهُ اليومَ كَذَلِكَ..بَلْ وآَمَلُ..وأتَمنى..وهُناكَ لَكَ الحقُ بِأَنْ تَأخُذَ راحتَكَ..مُسْتَرخياً فَوقَ المياهِ الرَقيقَةِ..تَتَمَتَعُ كَما تَشاءُ...***
وأَنْهَتِ الحَياةُ يَومَها..تَمَسَّكَتِ الشَّمْسُ في الأُفُقِ..شاحِبَةُ صَفراءَ..تُلْقي آخِرَ نَظَرَاتِها بِفَزَعٍ..وتَهْمِسُ للبَحرِ : ابتَلِعني وآويني لِلغَدِ عِنْدَكْ..فَلا تَلْقى مِنْهُ غَيرُ رَهْبَةٍ أَزَليةٍ..وهُدوءٍ صَيفيِّ..ونَسَماتٍ عَذْبَةٍ..وأَلحانِ أَمواجٍ ضَعيفَةٍ..رُوَيداً رُوَيداً يُطْبِقُ الظلامُ..وتَخْتَفي آخِرُ أَصواتِ النَهارِ..ولا يَبْقى فَوقَ تِلكَ المياهُ غَيرُ صَيَّادٍ وقارِبٌ خَشَبيٌ وأدواتُ صَيدٍ بائِسةٍ..وتَختَلِطُ مَعَ أَلحانِ أَمواجِ البَحْرِ تَرنيماتُ صَيَّادٍ تُخاطِبُ كُلَّ الأشياءِ حَولَها..وفي الحقيقَةِ..لَمْ تَزَلْ تُخاطِبُ نَفْسَها..
..مَضَى اليومُ كَسَابِقِهِ أَدِلَكْ..لاصَيدٌ..ولامَورِدٌ..كُنْتُ طَوالَ يَومي إذا تَحَرَّكَتْ السِنَّارَةُ قَليلاً أَتَخَيَّلُ تِلْكَ السَمَكَةِ الكَبيَرةِ..التي صَادَها ذِلِكَ الرَجُلُ في قِصَتِهِ..فَيَرْتَعِشُ قَلبي..وأَنْهَضُ واقِفاً لأَسْحَبَها..فَأَصْطَدِمُ بأَحلاميَ الخاويةِ..لا صَيدٌ أَدِلَكْ اليومَ ولا مَورِدٌ..أَشْعُرُ بالبَحْرِ يَسْخَرُ مِني..وها هو يَخْذِلُني لِيومٍ آخَرَ..أَسأَلُهُ :
– لِماذا تَبْخَلُ وأَنْتَ الغَنيُ..؟..لِماذا لَمْ تُعطِني ولَو القَليلَ مِما عِنْدَكْ..؟..لِماذا..؟..لِماذا..؟..
ويَبْقى صامِتاً دونَ جَوابٍ تُداعِبُ أَمواجُهُ صَفحَتَهُ الزَرقاءَ..أَشْعُرُ الساعَةَ بِوَحْشَةٍ كَبيرَةٍ وكَأَّنَ هَذا البَحْرُ أَوَلَ مَرَةٍ أَراهُ وأَقِفُ فَوقَهُ..بَلْ أَشْعُرُ بالخَوفِ مِنهُ..وأَتَمَنى الفَرارُ دونَ عَودَةٍ..لاصَيدٌ أَدِلَكْ اليومَ ولامورِدٌ..فَهَلْ أَعودُ غَداَ..؟..تُراوِدُني هَمَساتٌ داخِليَةٌ بأَنَني لَنْ أَعودَ..وسَوفَ أَخْضَعُ لِرغبَةِ زَوجَتي بالبَحثِ عَنْ عَمَلٍ آخَرَ..فأيُّ عَمَلٍ يَقبَلُني أَدِلَكْ وأنا الذي لا أَعْرِفُ في الحياةِ غَيرَ صَيدِ السَمَك..؟..ذَهَبَتْ سِنينُ عُمريَ في هذا العَمَلِ..كَثيرٌ مِنَ الصَّيادينَ يتُقِنونَ مِهْنَةً أُخرى تُساعِدَهْمْ إذا شَحَّ البَحْرُ بِعَطَائِهِ لَكِنَ أنا..حَياتي حَبيسَةُ هذا البَحْرِ..وكَأَنَهُ قُمْقُمَ سُليمانَ وأنا فيهِ العَبْدُ المُتَمَرِدُ..حُكِمَ عَليَّ أَنْ أَبْقَى هُنا ولِلأَبَدِ..طَوالَ حَياتي لَمْ أُفَكِرْ أَنْ أَكونَ غَيرُ صَيَّادِ سَمَكٍ صَغيرٍ..صَغيرٌ بِكُلِ شَيءٍ..عَمَلُهُ
..بَيتُهُ..أَدَواتُهُ..مَورِدُهُ..تَمُّرُ أَيامُهُ مُتَشابِهَةٌ..قَبْلَ الفَّجرِ يَنْطَلِقُ في البَحْرِ ويَعودُ عِنْدَ الغروبِ..ما يَحْصَلُ عَليهِ يُساعِدَهُ وعائِلَتَهُ على اسِتمرارِ الحياةِ بهمْ..فَهَلْ تَخْتَلِفُ حَياتيَ عَنْ حَياةِ أي مَخْلوقٍ يَعيشُ وَسَطَ هَذِهِ المياهُ أَدِلَكْ..؟..كُلُهُا تَسْعى لِمَورِدِ يَومِها وعَيشِها وبَقَائِها مِثلي أنا..وكُلُها تَأكُلُ لِتَعيشَ وَتعيشُ لِتَأكُلَ..مِثلي أَنا..لا تَظُنُ إني حَزينٌ أَدِلَكْ بَلْ أنا مُنْدَهِشٌ الآنَ..وأتَسْاءَلُ :
– لِماذا الحَياةُ تُديرُ ظَهرَهَا لِلبَعضِ وتُقْبِلُ عَلى آَخَرينَ..؟..
لَو إنَّ الحياةَ شَخْصاً لَذَهَبْتُ إلَيها وسَأَلْتُها..بَلْ رَجَوتُها بِلَهفَةٍ أَنْ تَكونَ كالأُمِ الحَنونِ الرَؤومِ العادِلَةِ التي تُوزِعُ حَنانَها عَلى أَبنائِها بالتَساويَ..لَسْتُ حَزيناً الآَنَ كَما كُنْتُ في أياميَ الماضيةِ عِنْدَما كُنْتُ أَعودُ صَفَرَ اليَدَينِ..بَلْ يُراوِدُني إحساسٌ بِاللامُبالاةِ..مُسْتَهْزِئاً بِعَواقِبِ الأُمورِ..وأَبْتَسِمُ لِلقَدَرِ السَّاخِرِ بِسُخريَةٍ أَكْبَرَ..رُبَما لأَِّنَ الإنسانَ إذا تَكَرَرَتْ صَدَماتُهُ يُصْبِحَ مُتآلِفاً مَعَها ويَعْتادُها ويَسْخَرُ مِنْها بَعْدَ فَتْرَةٍ طَويلَةٍ..و يَقِفُ أَمامَهَا مُتَعَجِباً في دَاخِلِهِ سُؤالٌ واحِدٌ هوَ ..(( لِماذا ذَلِكَ..؟ ))..لا يَعْرِفُ لِمَنْ يَسْأَلُهُ..ولا يَعرِفُ مَنْ عِنْدَهُ الجوابُ ولا يُحَدِدُ سُؤالَهُ وإِنَما يَبْقى يُرَدِدُ في أَعْمَاقِهِ (( لِماذا..لِماذا..))..أَقولُ رَبَّما......أَدِلَكْ مُنْذُ سَنَواتٍ قَليلَةِ بَدَأْتُ أَعْتَقِدُ بِأَّنَ مُعْجِزَةً ما سَوْفَ تَحْدُثُ مَعي..عَمَلٌ غَيْرُ طَبيعيٌ سَوْفَ يُغَيرُ مَجْرى الحياةَ حَولي..ويُغَيِّرُ مَسَارَهَا ومِساريَ..فَكَّرْتُ بِهَذا طَويلاً..بَلْ بِالأَصَحِ حَلِمْتُ بِهِ..وانْتَظَرْتُ تِلْكَ المُعْجِزَةِ..وبَقيَ هَذا الإحساسُ بِداخِلي يُراوِدُني في ساعاتِ يَومي وأَحلامِ نَومي..إذا حَزِنْتُ أَقولُ الفَرَحُ قَريبٌ جِداً..وإذا فَشِلْتُ قُلْتُ النَّجَاحُ قَريبٌ أيضاً..وإذا سَخِرَتْ الحياةُ مِني أَقولُ سَيَأتي يَوْمٌ وأَسْخَرَ مِنْها..سَأَلْتُ يَوماً أَحَدَ الصَيَّادينَ عَنْ هَذا فَأَجَابَني :
– إِنَّهُ رَفْضُ الواقِعِ الَذي تَعيشُهُ يَجْعَلُكَ تَتَوقَّعُ أَنْ يَتَغَيَّرً في أي لَحْظَةٍ..وما تَتَمَناهُ هو أَنْ يَكونَ هَذا التَغَييرُ فَجْأَةً دونَ سابِقِ مُقَدِماتٍ وهَذا لا يَحْدُثُ إلا بِمُعْجِزَةٍ تَحْدُثُ فَجْأَةً وتُغَيِّرُ حَيَاتَكَ كُلِها..
فَكَّرْتُ في هَذا الكَلاَمِ كَثيراً..أَحَقاً حَثُّ الإنسانُ لِلمُسْتَقْبَلِ يُغَيِّرُ بَعْضاً مِنْ حَياتِهِ..؟..وَهَلْ المُسْتَقْبَلُ يُجيبُ نِداءَ أَحَدُنا إذا تَكَرَّرَ..؟..وَهَلْ هَذا العَصْرُ عَصْرُ مُعْجِزاتٍ..؟..إني أَحْلُمُ بِكِلِ شَيءٍ جَميلٍ في الحياةِ..وتَتَوَقَّدُ أَحْلاميَ..وتَضيقُ بِها نَفْسي..وأَحْياناً تَكْبُرُ وتَكْبُرُ لِتَبْتَلِعَ هَذا البَحْرُ..وأَسْتَعْجِلُ المُسْتَقْبَلَ لاهِفاً ِلأَرى مَا قَدْ يَحْمِلُهُ لي..فَهَلْ الأيامُ تُخَبِأُ لي شَيئاً بَعْدَ انقِضاءِ عُمُرٍ لا لِلأَحلامِ مَكَانُ فِيهِ..؟..هَلْ أُصْبِحُ يَوماً أَشْهَرَ صَيَّادٍ..؟..أَغْنى صَيَّادٍ..؟..أَمْتَلِكُ عِدَةَ قَوارِبَ صَيْدٍ أُديرُها مِنْ مَكاني عَلى الشاطِئِ الذَهَبي..؟..بَلْ...يالا أَحْلاميَ هَذِهِ..يَحْدُثُ كُلَّ ذِلِكَ مَعي في لَحَظاتٍ..؟..في أَذْيالِ العُمْرِ ..؟..أَيُ مُعْجِزَةٍ هَذِهِ ..؟..ماشَكْلُها..؟..ما لَونُها..؟..لِماذا لا أَصْنَعُها بيَدَيَ مَثَلاً..؟..أَكْثَرُ شَيءٍ أَسْتَطيعُ فِعْلَهُ هو أَنْ أَرْميَ لِهَذا البَحْرِ نَفْسي كَهَديَةٍ..هُنا يَكونُ الإحْساسُ قَدْ تَحَقَقَ وحَدَثَ التَغَيُيرُ الكَبيرُ والمُفاجِئُ في حَياتيَ..فَيْطْوي البَحْرُ بَيْنَ مياهِهِ صَفَحَاتِ حَياةِ صَيَّادٍ طَويلَةٍ..مُمِلَّةٍ..قَذِرَةٍ بِكُلِ مافيها..أَسْأَلُكَ أيُها البَحْرُ :
– هَلْ تَرضى أَنْ يَكونَ صَديقُكَ لُقْمَةً سائِغَةً لَكَ..؟..
إذا فَعَلْتُذَلِكَ فَرُبَما تَأْتيَ إحْدى حورياتِ البَحْرِ وتُنْقِذَني..تَذْهَبُ بي إلى ساحِرَةِ البَحْرِ و تُحَوِلُني إلى سَمَكَةٍ..فَأَنْطَلِقُ حُرَّاً في أَعْماقِ هَذا البَحْرُ..لا أَعيشُ إلا ليَوميَ فَقَطْ دونَ مُسْتَقْبَلٍ ودونَ ماضي يُضْنيانِ تَفْكيري وفؤادي..لا قُيودُ تَأْسِرُني..ولا حَياةُ تَسْخَرُ مِني..ولا قَدَرٌ يَضْرِبُ بِعَشْوائِيَةٍ.. لَكِنْ..ماذا أَجْني إنْ فَعَلْتُ ذَلِكَ..؟..لَنْ تَرتَفِعَ أَمْواجُهُ غَضَباً..ولَنْ تَبْكيَ أَحْياؤُهُ أَسَفاً..ولَنْ تَبْرُقَ وتَرْعِدَ السَمَاءُ حُزْناً..ولَنْ تَغَرِّدَ طُيورُ السَمَاءِ أَلْحاناً حَزينَةً..بَلْ سَأَقْضيَ نَحْبي كَأَيَّ مَخْلوقٍ في هَذا الكَونِ..قَابَلَ أَجَلَهُ جوعاً أو غَيضَاً أو ظُلْماً وبَقيَ مَنسياً في حُجُراتِ النِسيانِ..وسَتَسْتَمِرُ الحياةُ بَعْدَهُ وكَأَنَهُ لَمْ يَكُنْ..وإذا لَمْ أمُتْ وتَحَوَّلْتُ إلى حوريَّةِ البَحْرِ..؟..اَأكونُ سَعيداً..؟..لا أَدِلَكْ..لا أُريدُ أَنْ أُغَيِّرَ طَبيعَتي كَإنِسانٍ..وحَتى لَو في أَحْلامِ يَقَظَةٍ خاويَةٍ..ولا أُريدُ أُنَ أَبْقى غَيْرُ إنْسانٍ..رُغْمَ كُلَّ شًيءٍ يُعاني مِنْهُ..وَرُغْمَ ما تَفوحُ مِنْ حَياتِهِ مِنْ رَوائِحَ عُفُونَةٍ ونَتانَةٍ..في الحُلُمِ مُباحٌ كُلَّ شَيءٍ إلا أَنْ يَتَخَيَّلُ المَرْءُ نَفْسَهُ غَيرَ إنسانٍ فَهَذا لمَ ْيَحدُثَ ولَنْ يَحْدُثَ مَعْ أَحَدٌ..رُغْمَ إدراكُهُ لِما يَنْطَوي عَليهِ هَذا الحُلُمُ مِنْ رَوعَةٍ إذا تَحَقَقَ..فَالحُلُمُ أيضاً لَهُ حُدودٌ يَقِفُ عِنْدَها مِثْلُ أَيُ شَيءٍ مُنْتهيٍ..الأَساطيرُ حَوْلَ حوريَّةِ البَحْرِ كَثيرَةٌ أَدِلَكْ ومِنْها ما تَقولُ إِنَّ حوريَةَ البَحْرِ هَذِهِ كانَتْ فَتاةٌ قَدْ فاقَتْ بِدَمامَتِها الوَصْفَ..واشْتَهَرَتْ بِذاتِ الوَجْهِ القَبيحِ..قالَ لَها أَحَدُ الطُيورِ يَوماً ساخِراً :
– أَنْتِ أَقْبَحُ مَنْ شاهَدْتُ مِنْ مَخْلوقاتٍ فَوقَ هَذِهِ البَسيطَةِ..
نَظَرَتْ نَحوَ نَفْسِها في مياهِ البَحْرِ..فَأَصَاَبها الذُعُْر والحُزْنُ وكَأَنهَا تَرى نَفْسَها ِلأَوَلِ مَرَةٍ..وكَرِهَتْ نَفْسَها وكُلَّ شَيءٍ حَولَها..واعْتَزَلَتِ النَّاسَ..وتَحَّجَرَ قَلْبُها وفَقَدَ رِقَتَهُ..وتَمَنَتْ أَنْ تَتَحَوَّلَ إلى أَي مَخْلوقٍ آَخَرَ وأَنْ لاتَبْقى إِنْسانَةً..ورَجَتْ وأَلَحَّتْ وبَكَتْ مِنْ أَجْلِ تَحْقيقِ أُمْنيَتَها تِلكْ..لِذَلِكَ حَولتَها ساحِرَةُ البَحْرِ يَوماً إلى حوريَّةٍ عِنْدَما كانَتْ تَسْبَحُ في البَحْرِ..وفَرَضَتْ عَلَيها أَنْ تَبْقى نِصْفَ بَشَرٍ ونِصْفَ سَمَكَةٍ وذاتَ وَجْهٍ لَمْ يُرَ مِثْلَهُ بِيْنَ البَشَرِ جَمَالاً..وأَبْقَتْ قَلْبَها قَلْبُ إِنْسانٍ يَنْبُضُ بالحُبِ والمَوَدَةِ عَلَّها تَعْرِفُ ما رَوْعَةَ أَنْ يَكونَ المَرءُ إِنْساناً ولَهُ قَلْبٌ..بِهِ يُحِبُ و يَكْرَهُ و يَشْعُرُ بالآخَرينَ ويَحْزَنُ مِنْ أَجْلِهِمْ ويَفْرَحُ لَهُمْ ويَعْشَقُ طَبيعَتَهُ ويُقَدِرُ وجودَهُ بَيْنَهُمْ..ومُنْذُ ذَلِكَ الحينِ تَجوبُ أَعْماقِ البِحارِ حائِرَةً حَزينَةً آَسِفَةً..وتَبْحَثُ عَنْ مُنْقَذٍ يُعيدُ لَها طَبيعَتِهَا الأُولى..فَكانتْ تَظْهَرُ أَمامَ الصَيَّادينَ وتَخْتَفي كَالسَرابِ..ومازالَتْ تُراقِبُهُمْ مِنْ بَعيدٍ بِعيونٍ حَزينَةٍ باكيَةٍ عَلَى إِنْسانيَتِها الضَّائِعَةِ مِنْها..ولَمْ تَقْتَرِبْ مِنْ مُجْتَمَعِ البَشَرِ مُنْذُ ذَلِكَ التاريخِ..وبَقيَ لَدَيها عَالَمُ البَشَرِ مُجَرَدَ حُلُمٍ كانَ فيما مَضَى حَقيقَةً..لِذَلِكَ لا أُريدُ أَنْ أَرْميَ بِنَفْسي وَسَطَ البَحْرِ..ولا أُريدُ المَوتَ بِهَذِهِ الطَريقَةِ..و لا أُريدُ أَنْ أَكونَ غَيْرُ إِنْسانٍ يَتَجاذَبُهُ الأَمَلُ واليأْسُ والحُزْنُ والفَرَحُ في ساعاتِ يَوْمِهِ..وتَتَقاذَفُهُ الحياةُ يَميناً ويَساراً..ويَعيشُ بِداخِلِهِ شَيٌء يُسَمَّى ( الأَمَلُ ) بِكُلِ شَيٍء حَتى في الحياةِ ذاتِها..نَعَمْ أَدِلَكْ ما حَدَّثْتُكَ بِهِ صَباحاً عَنْ ما تَعَلَّمْتُهُ مِنْ قِصَّةِ ذَلِكَ الصَيَّادُ لَمْ أَنْسَهُ بَلْ بَقيَ مَزروعاً في رَأْسي ويَقِظاً في وجْداني..يُداعِبُ فؤادي مُنْذُ الصَبَاحِ بِرقَةِ وعُذوبَةٍ حالِمَةٍ..ويَرسُمُ أمامَ عينيَّ دُروباً شاسِعَةً..أَرى تِلْكَ المُعْجِزةِ مُقْبِلَةٍ عَلَيَّ كَما أَرى هَذا البَحْرُ الأَزَليَّ أَمامي الآنَ..وأَرى حَولي الحياةُ جَميلَةٌ إذا عَرِفْنا العَيْشَ فيها..أُنْظُرْ إلى الشَّمسِ وتَعَلَّمْ مِنها..رُغْمَ سَطْوَتُها نَهاراً هاهي تمَوتُ رويداً رويداً..وتَظُنُ لِلْوَهْلَةِ الأولى بِأَنَها لَنْ تُشْرِقَ غَداً..وغَداً تَراها كَيْومِها السَّابِقِ تَبْعَثُ الحياةَ في كُلِّ شَيءٍ تَحْتَها..لابُدَّ لِلحياةِ أَنْ تَسْتَمِرَ أَدِلَكْ..تَسْتَمِرُ بِمَخْلوقاتِها..وأَحيائِها..وأَيْضاً أُناسِها..وأَنا غَداً سآتيَ مِنْ جَديدٍ وأَرميَ أَدواتيَ في البَحْرِ مَرَةً أُخْرى..مُساهِماً بِعَمَليَ الصغيرِ هَذا باسْتِمْراريةِ الحياةِ..فَرُبَما يَصْدُقُ إحساسيَ وأَصيدُ سَمَكَةَ أَحلاميَ كَتِلْكَ القِصَّةِ..عِنْدَها يَحْدُثُ التَغَيُّيُر الكَبيرُ والمُفاجِئْ في حَياتي وتَتَحَقَقُ المُعْجِزَةُ المُنْتَظَرَةُ..وإلا سَبقى كَما أَنا..سَعيداَ بِما أَنا عَلَيهِ..
هَيَّا أَدِلَكْ..حُثَّ الخُطى..فَأنا عَجُوزٌ وأَنْتَ ما زِلْتَ شاباً..اللَّيلُ يَطْرُقُ أَبوابَ السَماءِ والنَّهارُ مِنْ نَوافِذِها هارِبٌ..ساعِدْني على سَحْبِ نَفْسِكَ فَوْقَ هَذِهِ المياهُ..وأَوصِلني إلى الشاطِىِء..أَشْعُرُ بِشَوْقٍ كَبيرٍ نَحْوَ كُلِّ شَيءٍ هُناكَ..وَطَني وبَيْتي وأَوْلادي وزَوجَتي وأَصْدِقائي..حَتَى حَياتي البائِسَةِ..فَالبؤْسُ نَرْضاهُ وِساماً لَنا أَدِلَكْ ما دُمْنا نَعْشَقُ أَنْ نَبْقى أُناساً ونُصِّرُ عَلَى ذَلِكَ..وغَداً إذا عُدْتُ صَفَرَ اليَدَينِ َسَأرُدُّ عَلَى زَوجَتي وأَولادي كَما سَأَرُدُ عَلَيهِمْ الآنَ بابتِسامَةٍ مُعْتَذِرَةٍ عَنْي وعَنِ البَحْرِ وعَنِ القَدَرِ وعَنِ الحياةِ كُلِها..فالحياةُ رُغْمَ تَنَاقُضاتِها نُحُبُها أَدِلَكْ..نُحُبُها وحُبُها يَجْعَلُنا نَقولُ إنَّها تَسْتَحِقُ مِنَّا التَضْحيَةِ والمُجازَفَةِ..هَيَّا أَدِلَكْ..هَيَّا..هَيَّا..***
وَتَخْلُدُ الحياةُ لِلْنَومِ فَوْقَ وَجْهِ البَحْرِ..وتَطْوي يَوماً آخَرَ مِنْ أَيامِها..ويَبْقى عَلَى الشَواطِىِء الذَهَبيَّةِ أُناسٌ يَتَذَكَرونَ يَوماً بَحْرياً حافِلاً عَمَلاً و أَحْلاماً ومَشاعِرَ مُتَضارِبَةِ..ويَحْلُمونَ بيَوْمٍ آَخَرَ أَكْثَرُ إِشْراقاً وهَناءً..وهُناكَ مِنْ بَعْضِ المَنازِلَ تَنْداحُ إِحْدى الأُغْنياتِ البَحْريَّةِ العَذْبَةِ تُخاطِبُ كُلَّ شَيءٍ حَولَها : البَحْرُ..الحياةُ..القَدَرُ..الوَطَنُ..حَتْى الإنْسانُ الغَريبُ..بِأَلْحانٍ شَجيَّةٍ عَذْبَةٍ تُوقِدُ في الصِدورِ البائِسَةِ أَمَلاً وصَبْراً وعِشْقاً لِلحياةِ البَسيطَةِ مِنْ حَولِها...
مشاركة منتدى
27 أيار (مايو) 2006, 01:21, بقلم عروة
برافو جواد
بحر العين ما بينتسى
عروة