الأربعاء ٢٥ أيار (مايو) ٢٠٢٢
بقلم زهير الخويلدي

جان بودريار ومجتمع الاستهلاك

"إذا لم يعد المجتمع الاستهلاكي ينتج الأسطورة، فذلك لأنه هو نفسه أسطورته الخاصة."

يُعد المجتمع الاستهلاكي لجان بودريار مساهمة أساسية في علم الاجتماع والفلسفة المعاصرين، على قدم المساواة مع تقسيم العمل من طرف دوركايم أو الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية عند ماكس فيبر.

"المجتمع الاستهلاكي" هو نوع المجتمع الذي يقوم فيه النظام الاقتصادي على الاستهلاك الشامل، وهو نوع المجتمع الذي تؤدي فيه الزيادة في الإنتاج إلى تكاثر المنتجات التي سيتم استهلاكها وبالتالي خلق احتياجات ورغبات جديدة. يستخدم مصطلح "المجتمع الاستهلاكي" للإشارة إلى مجتمع يتم فيه تشجيع المستهلكين على استهلاك السلع والخدمات بكثرة. ظهر في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي في أعمال الاقتصادي الأمريكي جون كينيث جالبريث (1908-2006) للإبلاغ عن ظهور انتقادات لطريقة الحياة الغربية.

وفي كتابه "مجتمع الاستهلاكي" (1970)، يعتبر عالم الاجتماع الفرنسي جان بودريار أن الاستهلاك في المجتمعات الغربية هو عنصر هيكلي للعلاقات الاجتماعية. على مستوى الفرد، لم تعد وسيلة لتلبية الاحتياجات بل وسيلة للتمييز، والمجتمع الاستهلاكي ناتج عن الحاجة إلى النمو الاقتصادي الذي تولده الرأسمالية ونتيجتها الطبيعية، وهي تراكم رأس المال. يتطلب البحث عن إنتاج أكبر ومتنوع ومبتكر بسبب المنافسة، من أجل زيادة الأرباح، استهلاكًا أوسع وأسرع من أي وقت مضى. والنتيجة هي أسلوب حياة مدفوع بالاستهلاك، مصحوبًا بالاستغلال غير المقيد لموارد الأرض والبشر، لا سيما في البلدان الأكثر حرمانًا. بالنسبة لبودريار، الاستهلاك هو السمة الرئيسية للمجتمعات الغربية، "الاستجابة العالمية التي يقوم عليها نظامنا الثقافي بأكمله". أطروحة بودريار بسيطة: لقد أصبح الاستهلاك وسيلة للتمييز، وليس وسيلة للرضا. يعيش الإنسان في الأشياء التي يستهلكها ومن خلالها. والأفضل من ذلك أن الأشياء هي التي تستهلكنا. كنتيجة طبيعية لهذه الأطروحة الأساسية، يجادل بودريار بأن تمييز العلاقات الاجتماعية، تلك الخاصة بالجسد والأفراد، كان له الأسبقية على الذات. العالم الحقيقي اختفى حسب رأيه، واستبدلت بعلامات الواقع، مما يعطي الوهم للعالم الحقيقي. إذا كان الإنسان الحديث قد بنى نفسه بفضل الأشياء التي ابتكرها (راجع ديكارت "ليصبح سيد الطبيعة ومالكها")، فإن الانسان في المجتمع الاستهلاكي يعيش في الوفرة، وفرة من المنتجات والأشياء التي ينتهي بها الأمر بامتلاكها. في عبادة الوفرة هذه، والتي تعتبر المتاجر الأمريكية أو الشامات هي النماذج الأصلية لها، يجب على الأفراد أن يجدوا إشباعهم هناك، الخلاص الوحيد الذي توفره الحداثة. يعيش المجتمع الاستهلاكي في حركة ديالكتيكية متناقضة: خلق الأشياء لتحقيق ذاتها، ثم تدميرها في الوجود. يؤدي هذا إلى زيادة اعتماد الإنسان على المادة ("يحتاج المجتمع الاستهلاكي إلى وجود أشياءه، وبصورة أدق يحتاج إلى تدميرها").

مقارنة بالفلسفة الكلاسيكية (من كانط إلى هوسرل)، حيث يشكل الذات الموضوع، يفترض فكر بودريار أنه اليوم، فإن الموضوع هو الذي يجعل الذات موجودة. لذلك، مرة أخرى، إنها نوع من الثورة الكوبرنيكية، بالعكس، ثورتنا متوازنة بشأن الاستهلاك وإدانته". "كل الإعلانات ليس لها معنى، إنها تحمل معاني فقط. هذه الدلالات (والظروف التي تستدعيها) ليست شخصية أبدًا، فهي جميعها متمايزة وهامشية وتوليفية. أي أنها تتعلق بالإنتاج الصناعي للاختلافات، والتي من خلالها سيتم تعريف نظام الاستهلاك بشكل أكثر قوة.

ان "الدخل وشراء المكانة والإرهاق يشكل حلقة مفرغة ومذعورة، الجولة الجهنمية من الاستهلاك، على أساس تمجيد ما يسمى بالاحتياجات"النفسية"، والتي تختلف عن الاحتياجات" الفسيولوجية "من حيث أنها تستند على ما يبدو إلى" الدخل التقديري "وحرية الاختيار، وبالتالي تصبح قابلة للتلاعب حسب الرغبة"، "الجماهير هي القصور الذاتي، قوة المحايد"، "يعيش المستهلك كحرية، كطموح، كخيار سلوكياته المميزة، لا يرى لهم كقيود على التمايز والطاعة لقانون".

ان "احتياجات الطبقات المتوسطة والدنيا هي دائمًا، مثل الأشياء، عرضة للتأخير والتأخر الزمني والتأخر الثقافي مقارنة باحتياجات الطبقات العليا. هذا ليس من أقل أشكال الفصل العنصري في مجتمع "ديمقراطي".

ان الإرهاب غير أخلاقي. حدث مركز التجارة العالمي، هذا التحدي الرمزي، غير أخلاقي، ويستجيب لعولمة هي نفسها غير أخلاقية. نعتقد بسذاجة أن تقدم الخير، وصعوده إلى السلطة في جميع المجالات (العلم والتكنولوجيا والديمقراطية وحقوق الإنسان)، يتوافق مع هزيمة الشر.

"كل الإعلانات ليس لها معنى، إنها تحمل معاني فقط. هذه المعاني (والظروف التي تستدعيها) ليست شخصية أبدًا، فهي جميعها متمايزة وهامشية وتوليفية. أي أنها تتعلق بالإنتاج الصناعي للاختلافات، والتي من خلالها، أعتقد، سيتم تعريف نظام الاستهلاك بشكل أقوى.

"في مجتمعاتنا حيث يأخذ الاستهلاك مكان الأخلاق، يصبح الجسد موضوعًا ، ورأسمالًا خاضعًا لواجب التأكيد. وحتى إذا كان الإعلان يلجأ إلى التمثيلات الإيروتيكية، فهو في الواقع رقابة على المعنى العميق للتخيلات. هذه الأخيرة تختنق بمجموعة من العلامات الجنسية المقننة، قوة المجتمع الاستهلاكي هائلة.

إنها مدمرة وخلاقة في نفس الوقت: ما يتم تدميره ماديًا غالبًا ما يتم إعادة صياغته بشكل مصطنع في شكل رسائل أو رموز أو علامات: يتم استبدال العلاقة الإنسانية بمضيفات مبتسمات مسئولات عن "تسييل" العلاقات الاجتماعية. في المناطق الحضرية يتم إعادة إنشاء الطبيعة في شكل المساحات الخضراء ... يقوم المجتمع الاستهلاكي على أسطورته الخاصة: "إذا لم يعد المجتمع الاستهلاكي ينتج الأساطير ، فذلك لأنه هو نفسه أسطورة خاصة به. الشيطان الذي جلب الذهب والثروة (على حساب الروح) تم استبداله بوفرة نقية وبسيطة ولا اتفاقية مع الشيطان عقد الكثرة. يبدو أن لا أحد قد فهم أن الخير والشر يرتفعان في السلطة في نفس الوقت، ووفقًا للحركة نفسها. لا يستلزم انتصار أحدهما محو الآخر، بل على العكس تمامًا ". ان تفسير النمو هو أكثر الخداع الجماعي غير العادي للمجتمعات الحديثة. من عملية "السحر الأبيض" على الأرقام، والتي تخفي في الواقع السحر الأسود للسحر الجماعي. نحن نتحدث عن الجمباز السخيف لأوهام المحاسبة والحسابات القومية. لا شيء يدخل هناك سوى العوامل المرئية والقابلة للقياس وفقًا لمعايير العقلانية الاقتصادية - هذا هو مبدأ هذا السحر. على هذا النحو، لا يدخل العمل المنزلي للمرأة ولا البحث ولا الثقافة - من ناحية أخرى، قد تظهر أشياء معينة لا علاقة لها بها، لمجرد أنها قابلة للقياس. علاوة على ذلك، فإن هذه الحسابات تشترك في هذا مع الحلم بأنهم لا يعرفون العلامة السلبية وأنهم يضيفون كل شيء، ومضايقات وعناصر إيجابية، في أقصى درجات اللامنطقية (ولكن بريئة على الإطلاق) ".

لكن المجتمع الاستهلاكي لم يفهم شيئًا عن الحداثة. يجب أن نعود إلى التنوير، والتفكير في تراجع النمو باعتباره الطريقة الوحيدة المرغوبة للحياة. لكن الشيء الوحيد الذي تريده الجماهير هو التلفاز، والدعاية والاعلام. لقد أصبح الاستهلاك أخلاق عالمنا. إنها عملية تدمير أسس الإنسان، أي التوازن الذي حافظ عليه الفكر الأوروبي، منذ الإغريق، بين الجذور الأسطورية وعالم اللوغوس. و"كمجتمع الشرق إن الأعمار متوازنة على الاستهلاك وعلى الشيطان، لذا فنحن نوازن بين الاستهلاك ونقضه". لكن ماذا عن اهلاك مجتمع الاستهلاك للقيمة الإنتاجية للعمل؟

المصدر

Jean Baudrillard - La Société de consommation, 1970


مشاركة منتدى

  • ارتبط الافراط في الاستهلاك بالحداثة الغربية، وظل محصور اعلى الطبقة البورجوازية، لكن بفضل التقدم العلمي والتقني السريع ،والاحتجاجات التي كان يقوم بها الثوريون ، انتقلت الديمقراطية من المجتمع الاقتصادي السياسي الى المستوى الاجتماعي ، لتشمل الفئات العاملة وبتالي توسيع من دائرة الاستهلاك . لكن الاستهلاك المتنامي المرتبط بالزيادة في الإنتاج، يدعو الى البحث عن أسواق وموارد جديدة، الشيء الدي سبب في عدة أزمات، ومن تم ابراز اشكال حداثية جديدة لم تعد تؤمن بالمشروع الحداثي الدي يدعي الكونية والعالمية. فانتهى الاصطدام بين مصالح الأنظمة التوليتارية التي تولدت من رحم الحداثة كالفاشية والنازية والستالينية، والنظام الراسمالي، بحربين عالميتين.
    لكن اثار الحرب العالمية الثانية زرعت الشك في عقلية جيل الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين، فانتقضوا على كل الإرث الثقافي و انكروا كل مشروع مستقبلي، بحيث اصبح الحاضر هو المبدأ والغاية، والحرية الغير المقيدة والاستمتاع بالحاضر، الشيء الدي أدى ظهور المجتمع المعاصر او المجتمع الاستهلاكي وكما نعرفه اليوم.

    فرض التاجر البورجوازي في القرن التاسع عشر البورجوازي أيديولوجيته. واصبح الحداثي هو من يتطلع الى المزيد من الحرية والزيادة في الثروة . وحده العقل هو الحداثة واقتصاد السوق هو الغاية. والربح هو المعيار الوحيد الذي تقاس به الامور. حل الرجل الاقتصادي محل الفيلسوف والمفكر السياسي. وكما هو معلوم لقد جرت العادة ،فكل نظام او جماعة تصعد الى الحكم، لا يقبل الا بمن يخدم مصلحته المادية ،ويرسخ مفهومه للتاريخ والمستقبل. فالحداثة من هذا المنظور هي التطورات التي تجعل من السوق والديمقراطية قواعد قانونية والعقل هو المبدأ والمبتغى والنموذج.
    لم تقبل البورجوازية الركوع لأية قاعدة او قانون غير القانون الدي سنته و المراسيم التي شرعت لها. ولا تعترف الا بالحقيقة التي تستشكلها هي، من خلال تصورها الخاص. طردت الالاه المسيحي من الفضاء ال العام وخصصت له مكان ضيق في المجال الخاص. وشيدت مجتمع بدون الالاه ، وكان الله غير موجود. اصبح الانسان بالتعريف هو الانسان الحر العاقل ، سيد الطبيعة. المسؤول عن كل افعاله ونشاطاته.
    فهدا التصور لديمقراطية السوق (( الحرية والثروة)) وجد سنده في الخطاب الشهير الذي القاه بنيامين كونسطانس امام البرلمان، قبل نهاية العقد الثاني من القرن التاسع عشر. يدافع بنامين عن النموذج الليبرالي ويميز بين نوعين من التمثيل الديمقراطي، التمثيل المباشر (( اليوناني -الروماني القديم ))و الغير المباشر(( الحذاثي)). ويعتبران الأنظمة السياسية القديمة، ، مثل أثينا وسبارتا وروما، لا تتوافق مع الأنظمة الغربية الحديثة. ذلك ان ديمقراطية القدماء ونموذج المواطنة في الإمبراطورية الرومانية مختلف ،فالمواطنون يشاركون في القرارات التي تتعلق بالحرب والسلم، وفي بناء وصياغة القوانين، لكن في نفس الوقت نجد الحرية مقيدة وجد محدودة ،دالك ان الأعراف والتقاليد السائدة ،تحد من حرية الفرد، فالمجتمع القديم يعتمد بالأساس على العبودية.
    غيران الحرية الحداثية هي المطلب و الحاجة الأولى ، والاستقلالية هي أولى الأولويات بالنسبة للحداثيين. تتبعها حرية العمل والحرية الاقتصادية وحق الملكية. وحرية التجمع(( حرية الراي)) وحرية الصحافة والحرية المدنية المرتبطة بالحق السياسي والحق في التصويت والحق في مراقبة الحكام والمسؤولين، ممثلي الشعب. فالأنظمة الحديثة تعتمد على التمثيلية. فالنظام التمثيلي الحداثي يختلف عن النموذج اليوناني – الروماني، بحيث ان الحرية الحديثة تساعد على تنمية التجارة ومن تم الازدهار الفردي لا البحث عن حروب كما كان يفعل الاقدمون. فكل فرد يصوت لمصلحته فقط ولا يدافع الا عن مصلحته .فالنظام الليبرالي يحفز العمل على النمو الاقتصادي والسياسي الشيء الذي يتعارض مع السلطة المستبدة التي تمارس الحكم باسم المصلحة العامة. ففشل الثورة الفرنسية يرجع الى تطبيق مبادئ الديمقراطية القديمة. فالفرد باسم المصلحة العامة يتنازل عن الحرية الفردية، ومن تم تصبح السلطة الممارسة على الشعب استبدادية. اما النظام الليبرالي يضمن الامن والاستقرار والحق في الملكية الخاصة والثروة الفردية الشيء الذي يؤذي الى الثروة الجماعية .
    يعرف بنيامين الحرية الفردية كالتالي .(( ان الغاية من الحداثة هي العمل على توفير الامن للاستمتاع والاستلذاد(( الاستهلاك))، في المجال الخاص ،فالحرية هي الامن والسلم الذي تضمنه المؤسسات. ولتفادي الاستبداد بالسلطة ، يجب الحد من سلطة المؤسسات السياسية ..(( فكل سلطة غير نابعة من الارادة العامة فهي غير شرعية. فادا تعدى المجتمع هدا الخط، و اخترق الحدود المرسومة له. تنتهي السيادة القانونية . كان كونسطانس ينظر للفترة التي كان يعيشها، فترة المابعد الثورة الفرنسية والانقلاب النابولوني، فترة الرعب والاستبداد، وشعر بالخطر الذي قد يهدد المستقبل من خلال الاستبداد بالسلطة. ان عدم الحد من السلطة قد يجعل من الدولة الديمقراطية نظريا ،حكومة اسوء من الملكيات التي تدعي الحق الالاهي.(( فالقانون هو اسمى وارقي تعبير للإرادة العامة. ويجب ان ينتصر على كل قوة أخرى .وادا تركنا السلطة تحتكر الفضاء الاجتماعي نحكم على الشعب بأكمله بالهلوكست . ذالك ان الحكام يجدون دائما مبررات وحجج لتصرفاتهم وسلوكهم التعسفي.. فهدا المنطق هو الدي جعل من فرنسا سجن واسع الجدران طيلة قرون.
    ربط كونسطانس بين السوق والديمقراطية (( فالتجارة تبعث الحب في الحرية و التعلق بالاستقلالية)). فلإنسان الحداثي لا يهتم بالمجال الاقتصادي ، وحسب بل يجب عليه ان لا يتخلى عن الحقوق السياسية . هذا بالإضافة الى حرية التعبير (( فالحواجز من مدنية او سياسية وقضائية غير دي أهمية ادا لم تتمتع الصحافة بحرية التعبير)).
    واضح ان الحداثة العقلانية(( ذيمقراطية السوق)) كانت منذ بدايتها، تسعى باسم الحرية الى الرفع من النمو الاقتصادي، والبحث عن أسواق ، أي البحث عن الثروة وبالتالي الاستهلاك.

  • بشر المشروع الحداثي بمستقبل العلم والتقنية ،وأشاد بالازدهار والرخاء والسعادة الدي يعود للإنسانية جمعاء. وكانت الاكتشافات والاختراعات التي عرفها الربع الاول من الفرن التاسع عبارة عن ثورة، ثورة تقنية ، فرضت نفسها على الحياة اليومية، جعلت من المشروع المستقبلي للحداثة يتمتع بنوع من المصداقية والشرعية. تعمم استعمال الالة البخارية في جميع مظاهر الحياة ،في المصانع والنقل المشترك والقطارو السفن. واخير اصبح الانسان يتقدم بسرعة اكثر من تلك التي تعتمد على الحصان. فالصانع التقليدي اصبح عامل في المعمل وتحول بعص التجار الى صناعيين، وقبل بعض الارستقراطيين العقاريين الانتقال من الملكية العقارية الى ملكية وسائل الإنتاج وارتفع النمو الاقتصادي بتقسيم العمل و اصبح المعمل هو عنوان الحداثة . فالمهاجرين من القرى والبوادي من رجال ونساء وأطفال انحشروا في المعامل الكبرى بالمدن. وظهرت الة التصوير غيرت بشكل جدري نظرة الانسان على الواقع. تلاشى الارتباط بالدين. فالنساء الميسورات أصبحت تعبر عن وضعيتهن الاجتماعية بمسايرة المودة. واصبح الادب الواقعي والفن التشكيلي الانطباعي يفكر في التعبير عن المودة المستقبلية.
    ارادت الطبقة البورجوازية ان تجعل من الحداثة العقلانية ، مشروع شامل وعالمي ينتصر فيه نور العقل على ظلامية الجهل ، كارل ماركس نفسه استهوته الحداثة البورجوازية ولم ينتقدها الا من حيث الاستيلاب والاستغلال وتقسيم الوعي الى قسمين المواطن الحر نظريا ، المستغل المستعبد عمليا. اصبح الايمان بالتقدم التفني انجيل جديد. لم يعد احد يشكك في محاسن التقدم التفني والنمو الصناعي. فالتقدم سوف يعمم ديمقراطية السوق. فالعلماني اضطر الى البحث عن مضمون ومعنى جديد للأخلاق ورؤية حديثة للتاريخ كما كان الحال بالنسبة للكنيسة في القرون الوسطى. فاستعار مفهوم الايمان من المسيحية واصبح التقدم هو الانجيل الحي والقدر المحتوم للإنسانية.. واعتبر اوغست كومت الوضعاني ان العلم هو دين الإنسانية.
    استمرت التقنية في شق طريقها نحو التقدم، وفي أواخر القرن التاسع خطت خطوات عملاقة، فظهور المحرك والسيارة والهاتف والساعة والغرلموفون.كل هذا زاد من الوعود التي كانت تعدها البورجوازية. فالانطباع العام يوحي بان ديمقراطية السوق تحمل المشعل للتقدم الإيجابي.

    وساهم الادب في نشر الافاق المستقبلية لحداثة العقل عن طريق الروايات التي نسميها اليوم بالخيال العلمي. فصل جول فيرن الكاتب الفرنسي في كل بعد من الابعاد التقنية ،من طائرة وتلفاز ونقل المشترك واكتشاف الفضاء. بدات الديمقراطية تتجه بالتدريج نحو الشعب. تحسن مستوى العيش في المدن التي اصبح حجمها يتضخم بفعل الهجرة القروية. وتعلمنة الاخلاق. وظهر بعد اخر من الحداثة مرتبط بفكرة التسلية. فالحداثي هو الانسان الحر في اسثمار وقته فيما يحلو له. الى غاية تلك الفترة لم يكن لمفهوم التسلية أي مضمون او معنى. ذلك كل العطل كانت دينية واقات العمل غير محددة.
    غير ان ثمار الحداثة لم تستفيد منها الا فئة قليلة. استنج باحث امريكي من خلال دراسته للمجتمع الأمريكي في نهاية الفرن التاسع عشر، ان الشعار الذي ترفعه الحداثة . المشروع المستقبلي الحداثي الذي يتغنى بالتقدم العلمي والتقني و يدعي السير بالإنسانية في سبيل والازدهار والرفاه والرخاء ،كذب وخداع محظ. ان الطبقة المتوسطة هي المستفيد الوحيد من الخيرات التي يجنيها النمو الاقتصادي. فالتسلية و ا ستغلال أوقات الفراغ في الاستمتاع والاستلذاذ، لن تصل الى الطبقة الشغيلة، فأوقات العمل الغير المحددة ،من طلوع الشمس الى غروبها اضق الى ذالك ان العمال لم يكن لديهم الحق لا في العطل او التقاعد . فمعظم الناس يعيشون في القهر والاستغلال والعبودية ،بينما الفائدة تعود الى الطبقة المتوسطة التي تتباهي بالاستهلاك. استهلاك من فوق الضرورة ومن غير الحاجة. فالحديث عن التسلية أكذوبة لا يمكن تصديقها .
    لقد ظلت حذاثة القرن التاسع عشر ، ديمقراطية السوق ونظامها الليبرالي موضوع النقد والاتهام و التشكيك في مشروعها الذي يبشر بالخير والسعادة للجميع. وكانت أصوات ترتفع هنا وهناك من اشتراكيين واشتراكيين تحرريين (برودون)) واناركيين وغيرهم يطالبون بتعميم الديمقراطية دون التشكيك في العلم والتقدم. و بعد صراع مرير بين الاشتراكيين ممثلي الطبقة الشغيلة المهضومة الحقوق ،انتهى الامر الى الاعتراف ببعض الحقوف . وهدا لا يرجع الى حسن نية البورجوازيين بل يرجع الى الطفرة التقنية التي عرقها الربع الأخير من القرن التاسع عشر من اختراع الطائرة والميترو والغواصة والمحرك بعض الاجهزة المنزلية.

    غير ان البحث عن المزيد من الثروة والاستهلاك أدى الى منافسة الشرسة بين القوى الاوربية. فمع حلول القرن العشرين توالت الازمات، فأزمة بعد اخرى. وكانت ازمة الف وتسع مائة وسبعة ابرزها وحاولت ديمقراطية السوق ان تجد حلا يرضي الجميع للخروج من هدا المأزق الدي سقطت فيه. لكن سرعان ما ان انفلتت من هده الازمة الاقتصادية، و الا لتسقط في ازمة شاملة كاملة عميقة الا وهي الحرب العالمية الأولى. انتهت الحرب، لكن لم يمر الوقت طويلا بعذ الحرب العالمية الاولي وهاهي في ازمة أخرى اقتصادية عالمية خانقة ، ازمة سنة الف وتسعة مائة وعشرون. ازمت ولدت الانظمة الفاشية والنازية والستالينية التي لم تعد تؤمن بالمشروع الحداثي الدي يدعى الكونية واالشمولية. ومن تم الحرب العالمية الثانية.
    فالتهافت حول المصالح و المزيد من الربح ،عن طريف البحث عن موارد وأسواق جذيذة أي الإنتاج و الاستهلاك كان هو السبب في كل هده الكوارث التي عرفتها حداثة العقل. غير ان الحرب العالمية الثانية كانت قمة الحداثة ،بحيث اعتبرت هده الحرب من وجهة المفكرين عنوان الحداثة ودروتها ،انتجت افتك الأسلحة واعتاها. فالحرب ابطلت كل مقولات البورجوازي وفندت الخطاب الحداثي الدي كانت تعظ به ديمقراطية السوق. لم يعد احد يؤمن بالخطاب الحداثي الدي يبشر بالتقدم والخير والرخاء والسعادة. ومن هنا الشك والتشاؤم.
    ان الجو السوداوي القاتم الذي كان يخيم على عقو ل الغربيين في فترة ما بعد الحرب العالمية والدي تجسد في نصوص مفكري ما يسمى المابعد الحداثة، كان لابد ان يؤثر في جيل نهاية الخمسينيات من الفرن العشرين. فالجرائم التي ارتكبت في حق الإنسانية من مجازرو ابادات جماعية ، أعربت عن فساد الحداثة الإنتاجية الصناعية. لقد اصبح واضحا ان العقلانية لا تبشر بالخير، بل قد تؤدي الى ما هو اسوا، أي انتحار انساني جماعي. لم يعد الانسان يؤمن بالخطاب العلمي والتقدم التقني ،الذي كانت تبشر به الحداثة في بداية القرن العشرين. اصبح التشاؤم هو سيد الوقف ، لاحد اصبح يؤمن بالمستقبل. بل اصبح واضحا ان الإنسانية قد تنتحر. فتيار ما بعد الحداثة الذي كان ينظر الى الحداثة الغربية من منظور السخرية والاستهزاء اصبح يبشر بنهاية الإنسانية.
    ولما كان التفكير في المستقبل مجهول، دالك ان قوانينه تخضع لعوامل سياسية او اجتماعية او اقتصادية يصعب التكهن بها، اصبح الايمان باللحظة ،اللحظة الانية العابرة هي القانون الوحيد الدي يجب الاعتماد عليه. ومن تم الرغبة الغير المقيدة في الحرية. فالحرية التي نادى بها شباب الغرب في فترة الستينات كانت الإعلان عن ميلاد ، مرحلة جديدة من تاريخ حداثة العقل .
    عبر الشباب الغربي عن استيائه وسخطه على الوضع الذي كان يعيشه ، من خلال التمرد عن كل القيم الموروثة. كان الشباب في حالة غليان و يتربص الفرص للهجوم على كل قيم ومبادئ الماضي. فالحفلات التي تنظم هنا وهناك ، مكنتهم للانفلات من قبضة الاوصياء على القواعد الأخلاقية الموروثة، للتعبير عن شغفهم بالحرية الغير المقيدة. فلاجهزة من راذيو وذيسكو أصبحت من اهم الوسائل التي ساعدت على الهروب من مراقبة الإباء والامهات. وكان الانحلال الأخلاقي احسن تعبير عن القطيعة مع الماضي والتزاماته.
    ظهرت موسيقى جديدة. فبعد الركون رول الدي ظهر في فترة الخمسينيات، برزت فرق موسيقية كالبيتلز والرولين ستون التي انغمت وارقصت كل شباب العالم الغربي. ومما ساهم في ثورة الشباب على الكبار حرب الفيتنام. فكانت هده الحرب ذريعة للإعلان عن انتفاضة عامة تعبر عن شغفها في الحرية الغير المقيذة. فالحركات الاحتجاجية التي ظهرت في أمريكا واروبا سنة الف وتسعة مائة وستون كانت كلها ، تطالب بالحرية ورفض كل القوانين والأعراف والالتزامات . و انضم فيلسوف الوجودية جون بول سارتر الى ثورة الشباب الطلابية بفرنسا الف وتسعمائة وثمانية وستون. وكان مهرجان ودسوتك الدي حج اليه ما يزيد عن خمسمئة مائة الف شاب سنة تسعة مائة وستين دروة التعبير عن المطالبة بالحرية. فهدا النموذج من الحداثة المستبد الذي فرص نفسه هو ما يسمى بالمعاصرة. فمفهوم المعاصرة هو الذي ازاح مفهوم الحداثة ونصب مكانه.
    لم يعد الشباب يفكر في المستقبل، ولا يملك أي تصور او مشروع مستقبلي ،بل اصبح الشغل الشاغل الدي يشغل باله هو الحاضر. ان المهم هو الوقت الحاضر واللحظة الانية و الاستمتاع والتلدد بها . فالايمان بفكرة والاعتقاد براي او التشبث بقيمة او الإخلاص او الوفاء لم تكن من ضمن الاهتمامات والأولويات التي يؤمن بها جيل الستينيات. . فالأولويات هو كل ما هوحاضر و جديد سواء من حيث الملابس او السلوكيات. اصبح هدا النمودح هو النسخة الجديدة من ديمقراطية السوق، الحداثة العقلانية.
    فرض الشباب الغربي أسلوبه ونمطه في الحياة، ولم يبقى امام المسؤولين السياسيين والمقاولين الا الاعتراف بالامر الواقع، والركوع لهدا القانون المستبد الذي لا يعترف الا باللحظة. الرغبىة في كل شيء وبسرعة. فإشباع الرغبة في الحين هو القانون الوحيد والساري المفعول الدي اصبح يحكم عقلية الشباب. فالقرارات كل القرارات السياسية او الاقتصادية،أصبحت تخضع لمستلزمات ومتطلبات اللحظة الراهنة الانية. واصبح دور النمو الاقتصادي هو العمل على اثارة وتأجيج رغبة المستهلك. فالمواد المنتجة المصنعة من ملابسة او اجهزة منزلية، تتزك قبل نهاية صلاحيتها.
    فإشباع الرغبات او ارضائها جعل المنتجين وأصحاب الخدمات يجتهدون وبلا هوادة من تحسين الجودة في الإنتاج والخدمة السريعة. فالمعاصرة هي الرغبة في الحصول على الجديد من اجل الجديد. كان من قبل الانسان يكد ويجتهد للحصول على المعرفة او الثروة اوالسعادة. لكن اليوم اصبح مبدا المعاصرة لاشيء الا الجديد ولا مدح الا أخير صيحة من الجديد. وكان اللحظة خالدة توحي العيش في عالم الخلود.

  • فبعد تلبية الرغبات المادية للكبار من رجال ونساء، راحت المعاصرة تبحث عن إرضاء حاجيات فئة أخرى . فالأطفال الدين الذي لم يستشكلون بعد ، رؤية واضحة عن مشروع مستقبلي ،اصبحوا بدورهم محط الاهتمام الفاعلين الاقتصاديين . استهدفت المعاصرة عالم الأطفال عن طريق التسلية. فلإرضاء حاجياتهم واشباع رغباتهم ،استثمرت التلفاز والعاب الفيديو ثم الشبكات الاجتماعية. يقضي بعض الأطفال اليوم معظم اوقاتهم في هده الفضاءات, الشيء الذي بدا ينعكس سلبا على مسارهم التعليمي. بحيث ان الاعراض المرضية، من عدم التركيز ، والاوحادية النرجسية في مجتمع يقدم قيم مغلوطة كتلك التي نجد ها في أفلام الخيال، أصبحت هي نموذجهم. اضف الى ذلك افلام الرعب، فهدا وداك لاشك ان له عواقب وخيمة تعجل بفساد عقول الاطفال .
    استطاعت المعاصرة ان تجعل من الأطفال راشدين ومن الراشدين أطفال. تلبي حاجياتهم وبدون قيود. عالم الحقوق وبدون واجبات أي بدون قواعد تأطر سلوكياتهم وتصرفاتهم . تشعل نار الرغبة مهما كان اصلها وشكلها.و لم يعد احد يحترم مستلزمات وواجبات الحياة. اصبح الكبار والصغار يعيشون في عالم، ينتظرون منج ،وكانهم في انتظار مهدي منتظر او منقد من الظلال، يصحح أخطائهم ويغفر لهم عن خطاياهم.
    لا شيء يهم سوى الجديد ، الجديد هو الباعث الوحيد للمتعة اللحظية ، واللذة الانية العابرة .فاللحظة هي الأصل والمبتغى والمبدأ والنموذج، الدي يسود عالم المعاصرة. فالحداثة في نسختها المعاصرة و صورتها التجارية الاستهلاكية ،طالت كل الفضاءات. نجدها في المسارح ومعارض المودة والحفلات ووسائل الاعلام . فكل هده الفضاءات تغذي الواحدة الأخرى. تدعى كل واحد منها التمايز والاختلاف، لكن كلها تقتات ، من الجديد، من المنتوجات التي تتسابق على التبريح بها والترويج لها. كلها تتسلل بطريقة او أخرى الى عقلية المستهلك وتحاول ان تثير اهتمامه وتشد باله.
    فوصلة اشهارية بعد اخرى ، تخلق الحرمان و يحاول المستهلك مسح الخيبة التي تغتمره بالطمع في شراء منتوج جديد.. فتجديد الرغبات يمحي الحرمان. بالمثل فالمتابعين للاشهار يبحثون عن الجديد، الذي يقترحه الصحافيين. فالعلامات الكبرى تحاول ان تعرف بمنتوجها اما عن طريف العلاقات العمومية او الحملات الاشهارية. فلإشهار يمون وسائل الاعلام واصبح اليوم جزء من الكاستينغ في السينما لتنشيط المعلومات, فاستبدادية الجديد التي يفرضها الاشهار تتخلل القارئ الشغوف في هدم اصنام الماضي (( المنتوجات المقتناة من قبل ))لاستهلاك الجديد. فديكتاتورية المدة القصيرة يفرضها المستهلك.
    فالرغبة في الجديد ورفض الولاء و الإخلاص والوفاء لكل منتج انتجت المودة. فالمودة فالمودة هي عنوان المعاصرة. فالمعارض لإبراز الجديد تنتظم وفق اجندة و على مدار السنة. تقدم فيها الملابس و المنتوجات الجديدة . فالمدة التي تفصل دورة عن أخرى جد فصيرة. تصل الى بضع أسابيع واحيانا بضعة أيام.
    فسرعان ما يظهر المنتوج المعرض، تبدا قيمته في الانهيار، بحيث ان كل واحد من المصممين يحاول ان يخلق أسلوب خاص به والدي يتغير باستمرار. فاذا كانت الاناقة تتجلى في المظهر المنسق الذي يعتمد على دوق وأسلوب سليم، فالمعاصرة تعبر عن المغايرة والاختلاف واثارة الانتباه مهما كانت الثياب و الإكسسوارات. ظهرت متاحف المودة وراحت دور الخياطة تبحث في الأرشيف عن موديلات من المجموعات القديمة . فعالم التجديد هو الدي دفع الى البحث في الأرشيف القديم.
    فبعد انهيار حائط برلين ونهاية النظام السوفياتي اصبح النموذج الغربي ، يعرف نوعا من الانتشار في العالم. فعلى الرغم من ان العالم الغربي بدا في التراجع الاقتصادي النسبي ، أصبحت مليارات من الناس تتابع من خلال الشاشات عن طريق الأقمار الاصطناعية، النمط الغربي وطريقته في الاستهلاك والانحلال الأخلاقي. أسلوب في الحياة تفرضه ديمقراطية السوق. اصبح الكل يتطلع الى التغريب. الكل يريد ان يتزيا بالزي الغربي والحصول على وسائل الترفيه ،ونفس العمل ونفس السكن والعيش في نفس المدن و التحلي بنفس الاخلاق. ولبلوغ هدا الهدف ،الكل يقبل بمستلزمات عقلانية الإنتاج. اصبح النموذج الحداثي يغزو العالم. النموذج االذي بشرت به الحداثة مع بذاية القرن التاسع عشر. الحرية والثروة بل المزيد من الثروة اكثر من الحرية.
    اصبح الانسان الحداثي هو من يستجيب لمصالح د يمقراطية السوق. أي الاعتراف بحقوق الانسان و حقوق المرأة. فالدولة الحداثية من هدا المنظور هي الدولة التي تحث على المبادرة الحرة في خلف المشاريع و العمل على الابتكار. فالحداثي هو من يعترف بالمرأة ويجعل حقوفها على فدم المساوات مع الرجل. ويسمح للأطفال ولوج عالم التسلية من العاب الفيديو، ويتزيا بنفس الزي الغربي. فالدولة الحداثية هي كل الدول العقلانية التي تحارب الظلم والفساد والاجرام وتعمل على سيادة ة دولة الحق والقانون. فالعالم يسير نحو التغريب ولا احد يعترض طريق . فالديكتاتوريات تسقط الواحد تلو الأخرى في شرق اوربا وامريكا اللاتينية وافريقيا و اسيا. فقط العالم العالم العربي الدي لايزال يقاوم. اما الدول الإسلامية التي تبدي نوع المقاومة، اختلقت الحداثة العقلانية، مفهوم الامن القومي، مفهوم تجتمع فيه كل المضامين التي تتماشى مع المصالح الغربية. يتضمن االحرية الليبرالية والديمقراطية ، التراث العالمي ، حقوق الانسان. فالدولة الغير الراغبة في مسايرة ديمقراطية السوق، قد تتزعزع سيادنها وينهار استقرارها ان لم تستجيب لثقافة الحداثة.
    وهكذا فالتصور البورجوازي الذي فرض رايه بداية من القرن التاسع عشر والدي وجد سنده في حطاب بنيامين كنسطانس. و منطق الحداثة ومسلسله الذي يتجلى في البحث عن الحرية والثروة كان هو السبب في ظهور المجتمع الاستهلاكي وكما نعرفه اليوم. فهي نتيجة منطقية حتمية منتظرة ،تنبا بها جورج اورويل، معتبرا ان العالم في المستقبل تصبح فيه العبودية هي الحرية والحرب هي السلم والجهل هو العلم. ثم تحدث رولاند بارت عن الاشهار والاحلام التي يصنعها من اجل تاجيج الرغبة في كتاب الميثولوجيا. وهكدا فنقد بودريار ينخرط في نقس النقد الذي يصف الأحوال الاجتماعية الحاضرة او المستقبلية، نقد ينحصر في اطار القوقعة الغربية أي البارديغم الذي ينحصر فيه الانسان الغربي والذي لا يخطر على باله ان هناك تصورات أخرى لللانسان والكون والعالم. لكن هناك استثناء ، مفكر استطاع ان يخرج عن هدا الباريدغم الغربين ويتعلق الامر بنيتتشه، تعالوا نستمع الى ما تنبا به نيتشه.

  • اكتشف نيتشه استاد الفيلولوجيا الألماني في خلوته بين الجبال السويسرية ، مستقبل الغرب وتنبا بكل الكوارث التي سببتها الحداثة العقلانية المرتبطة بالحرية الغير المقيدة. ارتأى نيتشه ان المعنى الحقيقي للحداثة في عصرة هي ا لرغبة في اللاشيء (( العدمية)). فالعدمية أدت بالعالم الغربي من اقصاء الالاه من الافق. ومن تم تبخيس كل القيم.(( قتلناه انت وانا )). ((نحن جميعا قتلة)). كتب في كتاب المعرفة المرحة. انتجت الحداثة الغربية اخر الانسان. كائن يريد التمتع بالحقوق وبدون القيام بواجبات او اية مسؤولية مدنية. لم يريد الانسان الحداثي الايمان بالله لكن الايمان فقط بالأشياء المادية. غير ان كل من يريد ان يعيش بعيدا عن نظرة الالاه(( انسان منحط)). انسان يريد الانتقام من الالام التي تفرضها عليه الحياة ،بالتعلق بالعلم ولأمل فيه.
    فالحداثة العلمانية أحبطت العالم.(( لكن كيف وصلنا الى هده الحالة؟)). ((كيف افرغنا البحر من مياهه؟ من اعطانا الحق لمسح الأفق باكمله. مادا فعلنا لطرد الشمس من الأرض؟ (( المعرفة المرحة)). يرى نيتشه ان الإنسانية تسير نحو الهلاك. تدعي الحداثة قيم المستقبل ومشروعه، لكنها تجسد كل قيم الانحطاط. فهيمنة الحداثة وعقلا نيتها ،تتميز بهيمنة الشك ، الشك الدي أدى الى النسبية المدمرة و بالتالي انكار كل فكرة تتعلق بالحقيقة.((( ان موقفنا الفلسفي وقناعتنا الفكرية، تختلف عن كل ما عرفته القرون السابقة، نحن لا نملك الحقيقية)). فبعد انكار كل فكرة تتعلق بالحقيقية، لم يبقى للحداثيين من مشروع الا حب الذات وعبادتها. فالكذب هو ميزتهم الخاصة، يمدحون الذات ويمجدونها ويعبرون عن هدا التاليه للدات في حب الوطن.
    ن
    . .(( وهدا هو ما تحاول المانيا ان تتباهى به اليوم، وتعتبرها ميزة أخلاقية تخصهم هم وحدهم )). يعتبر نيتشه ان الحداثة الغربية وقيمها ،قيم تنبع من غرائز القطيع. فديمقراطية القطيع ليبرالية او اشتراكية ليست الحل ،دالك ان عقلية الجمهور تقتل الخلق و الابداع. انه لمن الحلم او الوهم ان نثق بالتقدم العقلاني. فالبحث العلمي مبادرة جماعية غبية بطيئة، يعمل الباحث كالنملة بهدف الحصول على شيء تافه (( يلقىي الباحث ببطنه على الأرض والنتيجة هزيلة )). وبدون عبقرية. فإنسان العلم الطيع الخاضع الراكع ينتمي الى جماعة من الباحثين ، فهذا قمة التعبير عن انحطاط جماعي للإنسانية. فهدا المستوى المنحط يسميه أصحاب العقول المسطحة من الاشتراكيين (( انسان المستقبل)) الانسان المثالي. فهدا السقوط والتقزيم للإنسان هو الذي حول الانسان الى حيوان من جملة القطيع. الواقع نحن لسنا ليبراليين ولا نعمل من اجل التقدم. اد لابد من ثورة(( نحن اطفال المستقبل كيف يمكن ان نقبل البقاء في مثل هدا الوضع )). (( المعرفة المرحة)). اد لابد من القضاء على كل ممارسة سياسية. كتب في هكذا تكلم زراد يشت. ((أعطيت بالإدبار للسياسيين عندما ادركت معنى ما يفهمونه من الحكم)). التلاعب والاتجار في السلطة. يجب أيضا الانهاء مع الصحافيين الفاعلين الاساسيين في تطوير مسيرة هده الحداثة الغربية المدمرة.(( هؤلا ء انتاج صنع من حرية التعبير عن طريق الديمفراطية والتي تجسد صوت الجمهور.
    يرى نيتشه ان الشعب الوحيد الدي استطاع الانفلات من هدا التطور السريع ومقاومة الحداثة هم اليهود (( يتغيرون عندما تدعو الضرورة الى دالك. مثلهم مثل كل امبراطورية ، ليست كتلك التي ولدت بالأمس (( الغربية))، تحتاج لما يكفيها من الوقت ، أي التطور البطيء الممكن،. (( ما وراء الخير والشر)). يتغيرون تبعا للحاجة و وفق الضرورة الخاصة بهم. ويرجع ذلك الى عقيدتهم وايمانهم بدينهم . الشيء الدي يجعلهم لا يخجلون من الافصاح عن دينهم امام الأفكار الحداثية.،. ايمان لم يفقد من مصداقيته كالإيمان بالالاه المسيحي. (( المعرفة المرحة)). فاليهود ورفضهم لمفهوم الحداثة يبقون هم هم الفاعلين الأساسيين في عالم الانحطاط. فاليهود هم الشعب الخالد و الأكثر انبهارا في تاريخ الإنسانية )).(( الدجال)). شعب عرف كيف ان يتأقلم ويتعايش مع جميع حركات الانحطاط. . فاليهود أوربيين جيدين ورثة اوروبا اغنياء ومزدهرين تدين لهم اوربا بالكثير . يلاحظ ان نيتشه يحكم على الانسان الفرد العاقل الحر، صلب المشروع الحداثي. وبالتالي على كل نتائجه وحتى على علم النفس .(( ليس هناك من حلم اكثر قرائة العالم الداخلي)).
    .

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى