الثلاثاء ٢٨ نيسان (أبريل) ٢٠٢٠
بقلم مفلح طبعوني

جداريّة إبراهيم طه

تجمّعت مزايا الحاجة لتنطلق إلى ساحات العمل والرزق وتحيي الركود الذابل على طراحته التي يتقلّب عليها مع جوعه.

عادت الأمّ مع السلّتيْن، سلّة التين وسلّة الصبر، ليتحرّك ولداها من فراشهما نحو عكّا للبحث عن رزقهما، عادت الأمّ تحمل ثمار

الفرح الذي لملمته من على التينة والصبرة.

الفاصلة ما بين البيت والشارع، كانت أكواز الصبر التي تدمع عسلًا وحبّات التين تحرس العسل من حرارة الشمس التي باشرت في سقوطها على رؤوس البشر.

حمل إبراهيم وأخوه السلَّتين مع كتاب "النحو الواضح" الجزء الثاني، المرحلة الأولى وشمعوا الخيط نحو عكّا مع جداريّة لم تتفتّح ألوانها رغم قوّتها ... عرّجا على البروة حيث تُرك الحصان وحيدًا وقدّما له الطعام من أرض المنطقة ثمّ تابعا مسيرة الكدّ والكفاح.

أكّدت الجداريّة بأنَّ الحصان حصان دار "الدرويش" لم يُترك وحيدًا و إنّما تُرك طليقًا.
وأشارت على أنّ الحصان أصرّ على البقاء في منطقة "الليّات" لأنّه ولد فيها و أحبّ طقسها وطعامها.

 وما هو الدليل؟!

 لا دليل عندي إلّا إذا عاد التاريخ وأعادت النكبة القديمة نكبتها من جديد.

يا إبراهيم هذا الطريق إلى عكّا لا تصعد إلى الشمال!

من صفات بلاد السمن و العسل الذي وُعد بها بنو إسرائيل التأمّر حتّى على الذات للكسب و الاستغلال، وتقول الأسطورة على لسان الجداريّة: أنّ محطّات سيرتها تتكوّن منها التناقضات، فالنبي يقتل و العاديّ يخون عندما يشعر بانتفاخ القوّة والبحر يخاف من العصوات فينشقّ لتسير في شقّه متوالية القوافل.

لم يترك الحصان وحيدًا وإنّما تُرك طليقًا.

تابعوا السير نحو عكّا، عند "تلِّ الفخّار" استراحوا من التعب و الفقر المكابر وتواصلت الجداريّة مع صفحات التاريخ لتروي لهم همومه التي اندلقت خزيًا على جبين "نابليون" الذي عاد مهزومًا من حيث أتى، و شمخت عكّا بسورها كالأشجار الباسقة الخضراء وروّضت هدير البحر ونقشت على أسوارها: "من هنا مرّ الفرنسيّون مهزومين وعادوا من حيث أتوْا".

تابعوا مسيرة كفاف خبزنا نحو عكّا وعند المقبرة الإسلاميّة ا- النبي صالح - وقفوا وأنشدوا ...

"من سجن عكّا وطلعت جنازة
محمّد جمجوم وفؤاد حجازي
جازي عليهم يا شعبي جازي
المندوب السامي وربعه عموما"

دخلا هو وأخوه مع السلّتيْن ومساعدة الجداريّة والنحو واضح، من بوابة البرج بوابة البرج التي تعوّد زوّار عكّا الغرباء الدخول منها لقربها من مناطقهم، وصلوا ساحة "عبّود"، تمركزوا بموقع يكشف "الساحة" بمساحتها الكاملة مع مداخلها الجانبية، باعا التين والصبر بسرعة، و كالعادة أخدتهما الجداريّة لجولة في عكّا القديمة، فزاروا حارة الفاخورة في الجزء الغربي من عكا القديمة، ومن قرب قصر العجم ساروا شرقا في شارع يفضي لساحة عبود، في الواجهة اليمنى من الساحة يقع قصر جورج حوا، وفي الواجهة الغربية من الساحة يقع قصر العجم. وبعد عبور ساحة عبود شرقا تقع على يسارنا كنيسة الروم، وهي مبنى مستقل، يعني تحيطه الشوارع من كل الاتجاهات، وغير متصل بمباني أخرى وهذا أمر نادر في عكا. وتحت ساباطات مظلّة تسير بهم جنوبا وشرقا فيصلوا إلى السوق البلدي، وقبل نهايته يميننا جامع الرمل، وبعد بوابته بعدة امتار يصلوا الى سوق العتم، وبعده وصلوا إلى البوابة الشرقية لجامع الجزار ،اما مدخله الشمالي ففيه زخرف وهيبة وأجمل ما فيه سبيل الطاسات، وهو آية في الجمال والدقة والتناسق.

اما السوق الإبيض الذي يفضي من المدخل البري لعكا (البوابة) الى جامع الجزار، وتطل ساحة الليمان على واجهات السوق الابيض الجنوبية.

من المدخل الشرقي للسوق الأبيض وبعده جنوبا الى خان الشاوردة وفي جزئه الجنوب الشرقي يقع البرج، وهو مبنى عسكري تاريخي، وعند الميناء، وإلى جانبه
يقع جامع سنان باشا، وبالقرب من ساحة الميناء (الجرينة) يقع خان العمدان، وفوق مدخله الشمالي بنيت الساعة زمن عبد الحميد .

وفي نهاية الجولة زاروا "خان التجار" و"خان العمدان" و "الميناء" وعرّجا على "خان الفرنج" و "حمّام الباشا"، ومن ثمّ توجّهوا إلى "الغربيّ" حيث شارع الشعراء العشّاق: أبو سلمى ودرويش.

عادا إلى البلد مع بعض المشتريات الضروريّة البسيطة بلا بذخ.

أغلب جداريّات شعبنا النقيّة وما أكثرها! دافعت عن شرف اللغة وكرامتها بعزّة وكبرياء، في بداية النكبة وبعدها، وكلّ ما قام به المعتدي من دمار وتهجير، ومن سرقة الكتب ونهب الثقافة الحضاريّة وكلّ ما ينشر من الإبداع، والأهمّ السطو على الذاكرة والرواية.

رغم كثافة الممارسات القمعيّة ما قبل النكبة لم تتمكّن كلّ الاعتداءات من صمود أبناء شعبنا، وخصوصًا أمثال إبراهيم طه، رغم الظلم ورغم التدمير، ومع القليل القليل من أسباب البقاء والاستمرار في الحياة، تمكّن أبناء شعبنا من الانطلاق كريح طيّبة تمرّدت على الأسوار العاتية أو كغيمة محمّلة بماء الزرع وقلبت موازين النكبة لصالح الأرض وترابها وتينها وصبرها، وفشلت كلّ محاولات التدجين، وارتبك الفاعل أمام المفعول به في جملة الصمود والتحدّي وبدا كمجرور بحبل ذلّ ظاهر.

في بدايات النكبة كان الفجور أقوى من الاتّزان والفساد أرقى من الالتزام والقرابين التي قدّمها شعبنا على مذابح المعتدين كانت كثيرة وقاسية.

تتفرّغ في مركز الجداريّة ابتسامة حزينة من مزركشات وجهها لتعود في حضور الارتباك إلى ماضيها الجميل مع من فقدت بدون إنذار أو استئذان، تنادي بصوتها الحنون المهجّرين وراء الجبال.

جداريّة يتقوقع في وسط شمالها طالب خجول يبحث عمّا تبقّى عليه من الدرس، جداريّة ترمّم وتوقف مفاهيم النكبة وتداعياتها اللغويّة من أحرف جرّ لها حتّى انشغالها.
جداريّة لا تجلس لتتربّع حول طاولة مستديرة صنعت من ساندويشات مناجر المستوطنات.

جداريّة تنقش خطواتها في طريق العودة منذ الفجر حتّى منتصف الليل. جداريّة تحافظ على طهارتها وإنسانيّتها مهما تكالبت الذئاب وتكاثر الذباب.

جداريّة أسقطت أوراق التوت عن الذين تمّ تأكيد صرفهم ولمّا ينصرفوا. جداريّة انفجرت بلغتها على عقول المتلقّين وأحاسيسهم.

جداريّة ثوريّة بسكينتها والتزامها الوطنيّ غير المشروط.

جداريّة تنام مع يقظتها لتتمكّن من فهم تصاعد تداعيات الأحداث الطارئة ولترتّب فقرات صفحاتها الخالدة بألوان أفكارها الساطعة وظلال أشجارها الوارفة.

جداريّة سكنت مقاعد الدراسة مع الآخرين الجاهزين للانطلاق نحو جداول المعرفة التي تنساب في عروق البحث.

جداريّة عائدة.
وما بين عكّا وبينها
هبوط الفضاء المصادر
وأنفاس العائدين من التعب
كأحزان مراهقة خانها الرحيل
وأوهام حضور الغياب
من مجاهل الطريق
وإبراهيم طه
صبر سيميائيّات الوطن
وانفراجات طفولة الرحيق
دهشة الاغتراب
تعترض دبّابة وصلتها
على ظهر بعير سعوديّ بائس
مع مراهقة أمريكيّة ذات شبق
وبيت لحم تعانق جبرا
القدس يتيمة
وحرّاس الصيد حولها مرتبكون
وإبراهيم طه
كان يبيع التين بين أسوار عكا
يتابع الآن حديث طالبة عن غربة "وليد مسعود"
يحوم حول فاطمة النفاع

جداريّة تتلفَّع بالتراث، وتتسامر مع اليقظة، وتغربل كوابيسها بمُنخل الحلم الجميل لتقدّمها طعامًا لهدير البحر في يوم ذي مسغبة.

جداريّة جعلت من "تلّة الفخّار" ملعبًا لأطفال بلادها وأفنت همومهم بثنايا ضاحكة انفجرت أفواه أساريرها بفرح وكلام وبثّت الإبداع.

جداريّة تفرش اليابسة من الماء إلى الماء، وقد تسير عليه تيمّنًا بالمصلوب على صارية القيامة.

وإبراهيم طه يحبّ اللوز المرّ
ينطر العائد إلى حيفا عند البوّابة الغرائبيّة.

تعترف وتؤكّد جداريّة إبراهيم طه اللغويّة على أنّ لغتنا العربيّة لغة تتفاهم مع جذور أشجارها وتغذّي أغصانها مع أحمالها من جذور بقائها.

قدّمت جداريّة إبراهيم طه الكثير للغتنا وعملت جاهدة للحفاظ عليها من الآخر والقوانين المتعسّفة وتمكّنت من رفع مستواها الحضاريّ وبلورتها بعلميّة يتعالق فيها التفكير السليم والفكر النيّر، وتقرّبت من اللغات العلميّة لتستفيد بالتثاقف من تمازجها وتكاملها، وعزلت كلّ محاولات بثّ مفاهيم العدميّة والإعدام والعدم. فالثقافات الإنسانيّة لم تتصارع أبدًا بل تكاملت دائمًا، أمّا ثقافة الحيوان والشيطان فلا شأن للجداريّة بها.
واللغة بدون حضنها وبدون همسها تظلّ مغايرة، ولا تلامس الواقع مهما كان! تقلقك حيرتها وانكماشها الذاتيّ بسبب المفارقات غير المربوطة بأبجديّتها، وإنّما يكبّلها الحصار ويبعدها عن حالات القدرة على الخلق والإبداع ليروّضها كنمر في يوم عاشر ويدجّنها كأرنب جبان في كلّ الأيّام.

جداريّة تتعاطف وتتمازج مع المتلقّي فتحمله إلى أعلى السماك وتتماهى معه لدرجة الاتّحاد الروحيّ، ممّا يزيد في طاقته التفاعليّة للانخراط بتفاعلات خلايا العقول المتحاورة وتطوير الفهم والتلقّي، وتتقرّب منه لتختمر فيه مادّة معرفيّة طيّعة.

جداريّة تقرّب المتلقّي من الطاولة المستديرة التي تشعّ بالفكر المنفتح، المتفاعل مع نجاح الاختبارات في الأواني المستطرقة ومع التفكير العقلانيّ، الصحيح في زمن نحن فيه بمسيس الحاجة لنقشع ثالوثًا دنسًا: الظلم والظلام والظلاميّة.

جداريّة تدفع صاحبها لتواضعه إلى التحليق في سماء الإبداع فتأخذ المتلقّي معه على أجنحة من نسيم ومتعة وحبّ، بعلاقة روحيّة وراحة نفسيّة تتشابك أمواج أثيرها بينه وبين الجداريّة لفهم الأمور بأريحيّة وكرم مجانيّ، يساعدان على رفع نسبة التقارب وسموّ قيمة التفاهم.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى