

جدليّة الحضور والغياب، والوعي بالذات في الكون
قراءة في قصيدة لمادونا عسكر «النّاي لم يعد حزيناً» بقلم الأستاذ الحبيب بالحاج سالم.
* القصيدة: النّاي لم يعد حزيناً.
[1]
* القراءة:
1) حضور الحبيب
2) حضور الذّات
الحضور ضد الغياب، نسخ ونفي له من حيث هو مسافة مكانيّة وزمانيّة. ولهذا ينبغي الانطلاق من دلالة الغياب في وعي الشّاعرة ووجدانها العقائديّ ليتجلّى معنى الحضور أو تتجلّى معانيه في أكمل الصّور الممكنة.
هذا الغياب في السّياق الرّوحيّ والثّقافيّ الّذي تتفاعل فيه الشّاعرة مع محيطها وعالمها وكونها الواسع، هو نفي لحضور قديم، أصيل، سابق للتّكوين، حين كانت في قلب الله. ثمّ كان الغياب، والانشطار الرّهيب والنّزول من الفردوس إلى أرض الغربة والتّيه والانفصال عن الحبيب الأوّل. لتبدأ مسيرة شوق وألم من أجل استعادة ذاك الحضور الأوّل، وإن في غير موطنه. وفي هذا، وله، تصوّر آخر، يكمّله وينيره، وهو أنّ الحبيب لا يترك محبوبه غريباً فريداً تائهاً بلا دليل، بل يأتيه، وإليه يتنازل وينزل، ليخلّصه ويعيده إلى جنته المفقودة.
وهكذا يكون الوجود وفق هذا التّصوّر رحلة استعادة واستدعاء، حتّى يكون حضور الحبيب في العالم، في الطّبيعة، في الذّات. منها وإليها يأتي، يحضر فيظهر، من الأقاصي، أقاصي الأرض، أقاصي الأكوان، أقاصي الأنا.
وفي الخطّ الموازي، وإن شئت الملتحم بخط هذه الرّحلة الاستعاديّة الشّاقّة، تكون رحلة القول أو التّحويل الرّمزيّ العلاميّ للحضور حتّى يكون لغة، وينبني معنى، إلينا ينتقل ويرحل، فنتلقّاه، ونصيب منه ما أمكنتنا أدواتنا.
ولئن كان لمفهوم الحضور حضور في نصوص أخرى، فإنّه هنا، لا يوصف حدثاً بل حالاً وحلولاً متواتراً، ينتظر فيكون. وهذه الحال هي ما عليه مدار القول وصفاً / إشارة، وكشفاً /إنارة، ومعنى يتشكّل فلا يكتمل، لأنّه أسمى من أن تقوله العبارة. وهذا معلوم في مذهب الشّاعرة الرّوحيّ والشّعريّ.
ولهذا نعدّ مفهوم الحضور مفهوماً جامعاً من حيث أنّ كلّ المفاهيم التي تتأسّس عليها تجربة الشّاعرة تنضوي فيه وتقود إليه، مثلما أنّ التّجربة ذاتها، تؤول إليه، وإيّاه تتّخذ محجّاً ومقصداً. وعنه تنتشر، وإليه ترتدّ مفاهيم أخرى كالظّهور والتّجلّي والحلول والنّزول والقدوم والفيض والإشراق والاتّحاد...
وما النّصّ إلاّ وصف له وتقليب على وجوه وصور، لعلّ بعضه ينجلي للفهم وينكشف، ليكون حضورين:
– حضور الحبيب في العالم وفي القلب
– حضور الذّات في العالم وفي الحبيب
أ) من الحضور في الكون والطّبيعة إلى الحضور في القلب.
هكذا يأتي وصف الحضور انتشاراً نزوليّاً فيضيّاً، ليتجلّى في الطّبيعة ومعها منذ المقطع الأوّل، وينتهي في القلب في نهاية القصيدة. وفي هذا تحديد لقطبي التّفاعل في النص وفي تجربة الشاعرة، وهما القلب والكون، واحتواء كليهما للآخر إلى حدّ الانصهار والتّماهي.
ويمثّل المقطع الأوّل " المقدّمات" التي تنجرّ عنها وتنبني عليها المقاطع الّتي تعقبها. فجاء ظرف الزّمان المنزّل حدث الحضور منزلة الحال، لتواتره وانتظامه:
" كلّما تنفّس السَّحَر وجودهُ..."
مؤكّدا تقدّم التّجربة ونضجها وكمالها، وما الحضور سوى التّجلّي الأظهر لهذا الكمال.
أمّا المقدّمة الثّانية فهي رجوع النصّ والتّجربة كلّها إلى مصدر أساسيّ، هو عين الشّاعرة ترى ما يراه القلب:
" رأيتك قادماً مع قوافل الأنوار..."
وهكذا يكون الحضور حدثاً/حالاً رؤيويّاً نورانيّاً سحريّاً سحَريّاً، موعداً للّقاء والمناجاة والبوح والعناق الرّوحيّ الذي لا يتاح إلاّ للعارفين والقلبيّين، المبصرين ما لا نبصر، والمدركين ما لا ندرك، والعالمين ما لا نعلم. ينتظرون القدوم حين ينام الورى، ويصغون، فيسمعون وقع الخطى يقترب، ويتشمّمون عطر الحبيب يسبق ليعلن الحلول الوشيك:
" يتقدّمك عبيركَ،يمهّد لوقع خطواتك، يعلمني بقدسيّة التّجلّي..."
أمّا المقدّمة الثّالثة لهذا النص الإشراقي فهي الزّمن مقترناً بالسّحر والنّور. فالسّحر، وإن كان زمن التّجلّي، كما استقرّ في وجدان العارفين والعاشقين، فإنّه هنا الوجه النّورانيّ (أو تباشيره) للحبيب يفيض على العالم، فهو نور مع الأنوار، بل نور الأنوار، تنبثق عنه، وتكون فيضاً له، ويكون فيها، ويكون هي إذ تبدّد الظّلمات في الكون ومن القلب..:
"رأيتك قادماً مع قوافل الأنوارْ..."
أمّا المقدّمة الرّابعة، وهي الأولى لأنّها أم المقدّمات، والمقدّمة على كلّ شيء، فهي مبدأ التّكوين وخلق العالم المنبثّ في النّصّ انبثاثاً. خلق يعاد أبداً، وكلّ سَحَر، كما كان أوّل مرّة. فلحظة القدوم. لحظة السّحر، هي لحظة خلق كالخلق الأوّل حين كان نور بعد أن كان ظلام:
" تنفّس السَّحَر وجودهُ...قادماً مع قوافل الأنوارْ...قدسيّة التّجلّي..."
فكأنّ كلّ سحر هو حلول يحاكي الخلق الأوّل تشهده الشاعرة وقد اشتاقت وحنّت روحها العاشقة إلى عهدها القديم، بقلب الحبيب.
ب) الحضور فجر العالم، فجر القلب.
هذا المقطع هو بداية التشكّل الشّعريّ للحضور، لعلّه ينبني وينتقل معنى يتحوّل كالحضور ذاته، من الخفاء إلى التّجلّي، ومن "الغموض" إلى الوضوح، كالتّحوّل من اللّيل انعداماً للوجود والمعنى، إلى الفجر بداية نور ونواة معنى.
" لِنَعْرِفْ فَلْنَتَتَبَّعْ لِنَعْرِفَ الرَّبَّ. خُرُوجُهُ يَقِينٌ كَالْفَجْرِ. يَأْتِي إِلَيْنَا كَالْمَطَرِ. كَمَطَرٍ مُتَأَخِّرٍ يَسْقِي الأَرْضَ." (سفر هوشع 6: 3)...
ذاك هو الفجر صورة للحضور عند الشّاعرة القدّيسة، نور سماويّ نازل، ينقذف في القلب فيغمره طهرا وسكينة ويقينا وابتهاجاً. ويتماهى في ذلك النور والماء والعطر، وتتمازج معاني التّطّهر والخلق والتّقدّس والتّعمّد. كالعابدات هي أو الرّاهبات في الأديرة والهياكل والأنهار المقدّسة، تحفن النور ماء وبه تستحمّ، وتكون الأطهر والأجمل...
" حضورك يقظة الفجر من أحلام الغربةرحلة النّور المنسدل من فوق والمنسكب على أكفّ قلبيتلتقط قطرات نورك وتمرّغ بها حنايا روحي..."
ج) الحضور حُؤول، غياب عن العالم...
كأنّ الحضور في هذا المقطع ينتقل من الكون في القلب إلى الأثر في الكيان رؤية للعالم بعد ما لحقه من حُؤول:
" حضورك تجلٍّ من حرير
يبدّل معالم وجهي.."
وبذلك تفقد ما به كان يُستدلّ عليها، وبه تُعرف، وإليه تنتسب، وبه تعقل وتفهم وتحسّ وتتأثّر وتنفعل، وترى.. ووجهها بعد الحضور غيره قبله، فكأنّها اليوم وليدة بهويّة نورانيّة، وعلم جديد ناسخ لعلم الأمس، علم العالم:
" فلا أعود أتعرّف على نقرات المطرعند نافذتي...ولا أفهم لغة السّواقي المرتعشةوالهاربة نحو الأنهارْ..."
د) الحضور صوت ناي، لم يعد حزيناً.
وامتداداً للتحوّل والتبدّل كما جاء في السّطور السّابقة، توسّع الشّاعرة في وصف حالها الجديدة وما يسبغه عليها الحضور من فرح روحيّ وابتهاج عميق، فتدخل في حوار تثاقفيّ تفاعليّ طريف مع جلال الدين الرومي وحكاية نايه، وما كان فيه، وظلّ، من حزن:
" أنصت إلى الناي يحكي حكايتهومن ألم الفراق يبث شكايته:مذ قطعت من الغاب، والرجال والنساء لأنيني يبكونأريد صدراً مِزَقاً مِزَقاً برَّحه الفراقلأبوح له بألم الاشتياق..فكل من قطع عن أصلهدائماً يحن إلى زمان وصله..وهكذا غدوت مطرباً في المحافلأشدو للسعداء، وأنوح للبائسينوكلٌ يظن أنني له رفيق..."
وتتماهى قصة شوقه وقصة شوقها، ويتماهى حزن نايه وحزن نايها، إلا أنّ نايها أصبح يشدو سعادتها، ويرافقها في الاحتفاء بالحضور يملأ الكيان سروراً وابتهاجاً لم يطلهما مولانا :
" ظهورك خفايا الألحانتحاكي أنفاس نايٍ متعبٍ من الحزنْوترسم بسمة في طيّهفتتفجّر منه الضّحكاتْ..."
ه) الحضور، إمساك بالمطلق، مفارقة العالم ونسبيّاته.
ثم يستقرّ النّصّ في ما يعقب من مقاطع، في إطار تنويع الصّور القائمة على مبدإ التّقابل بين النّسبيّ والمطلق، والجزئيّ والعامّ، والأرضيّ الدّنيويّ والسّماويّ الإلهيّ، والمتحوّل الفاني الزّائل والثّابت الباقي الدّائم..ويعدّ هذا من محاور شعرها الأساسيّة وثوابت قيمها ومقولاتها..
" تدور الأرض/ وأنت ثابتيمكث اللّيل..ثم يرحل/أنت هناتستقرّ الشّمس..ثم تتلاشى/ أنت هنايسافر الهواء / وأنت هنا..يغفل عنّي الوجود وأنسى ملامحهُ/ فأحلّ فيك وتقطن فيَّ..."
ويبقى في قراءة النّصّ مستوى ثان لعلّه أهمّ وأسبق وأولى، وهو حضور الذّات في العالم وفي الكون، وهو ما يسكت عنه منطوق النّصّ، ولكنّه ماثل فيه، ويمثّل طبقة دلاليّة ذات شأن عظيم، لأنّها هي القاعدة التي انبنى عليها النص باعتباره ( في المستوى الأوّل والمباشر) صورة لحضور الحبيب في العالم وفي الذّات. ولكنّ هذا الحضور ما كان ليكون لولا أنّ قوة ما قد دعت واشتاقت وتاقت وتكبّدت ما تكبّدت من انتظار واحتراق وضنى وآلام وأشواك. فأحضرت بالقلب ومنه أحضرت، فكان الحضور. ولا كمال للنّصّ إلا إحضاراً إلا إحضاراً وحضوراً، ذاتاً وموضوعاً، فذاتاً فذاتاً، ولا موضوع بعد الحضور.