الاثنين ١٣ أيلول (سبتمبر) ٢٠١٠
بقلم أحمد الخميسي

جمال الغيطاني وأصدقاء العمر

كنت أرتب كتبي كلها مؤخرا فوجدت بينها كتابا بعنوان حكايات لهانز كريستيان أندرسن، فتحته، وقرأت على صفحته الأولى عبارة بخط يدي: « انتقلت ملكية هذا الكتاب من جمال الغيطاني إلي أحمد الخميسي في التاسعة من مساء 16 فبراير 1964»!. لابد أنني تعرفت إلي جمال مبكرا جدا، حتى أنني أذكر أنني كنت أدرس مقررات السنة الثالية من المرحلة الإعدادية مع أخيه اسماعيل في بيتهم، أي أن علاقتي به تعود إلي قبل حصولي على شهادة الإعدادية! أي أن صداقتنا تمتد لنحو نصف القرن! ولم تكن صداقة اعتيادية، فقد دخلت فيها مرحلة الصبا، واختلاط الأهل، والمشي في الشوارع، والتسكع عند سور الأزبكية، والقروض الصغيرة التي لا ترد، حتى نشرنا معا لأول مرة في عدد واحد قصتين في مجلة القصة لدي ثروت أباظة. وأذكر أن الكاتب الراحل نظر إلينا مندهشا من جرأة هذين الولدين اللذين اقتحما عليه مكتبه ووضع كل منهما أمامه قصة وطالبه بنشرها!

العجيب أن الكاتب الكبير عاملنا برفق وحب وقرأ القصتين في حضورنا وأفادنا بملاحظاته بل ونشرهما، فاعتبرنا أننا بذلك من كبار الكتاب واحتفلنا بالمناسبة! وظل خيط الصبا والشباب يربط بيننا بقوة كصلة الدم الذي لا يصبح ماء، رغم مرور السنوات الطويلة بهمومها حتى عدت للقاهرة فعرض على جمال ان اكتب لأخبار الأدب وقال لي: اكتب ما تريد. لم نكن نلتق كثيرا مؤخرا بحكم مشاغل الدنيا وزحمتها، لكن كما يقول المثل الشعبي «لا البعد جفا، ولا القرب وفاء». ومرض جمال الغيطاني مرة وانا في الخارج فاهتززت بعمق، وتصورت ان قوة غشيمة تحاول ان تنتزع مني افضل سنوات عمري. الان يعالج الغيطاني في أمريكا ويتماثل للشفاء بعد عملية قلب، ويتخطي المرض بصلابة الرجل الصعيدي وبشعوره بأن محبة أصدقائه وأسرته العميقة تحيط به وتدفع عنه كل داء. الان، اشعر مجددا ان جمال كان ومازال إحدى هدايا العمر، بعد أن أمسي الأصدقاء القلائل الذين قطعوا معي مشوارا طويلا في الزمن، وفي القلق، وفي الأمل، هم كل شيء يقول المثل الشعبي: «الخيل الأصيل يشد في الأواخر»، الصداقة أيضا تظهر صلابة معدنها حينما يقارب الشوط على الانتهاء ويكون عليها بكل السبل أن تفوز بالمعنى الذي يصبح الوجود معه: منطقيا وإنسانيا وآمنا ومطمئنا.

قليلون في حياتي من تعتقت صداقتهم كالخمر من الزمن، قليلون من أراهم هدية العمر: جمال الغيطاني، وأبو بكر يوسف، وحسام حبشي، ومحمد المخزنجي. أصغرنا حسام حبشي لأنه لم يتم الستين بعد، وأكبرنا أبو بكر الذي تجاوز السبعين بقليل. حسام حبشي وأبو بكر من الصداقات التي نمت في الصقيع الروسي، وقاومت الثلوج، وتفتحت رغم كل شيء، المخزنجي أيضا تعود علاقتي العزيزة به إلي فترة وجوده في الاتحاد السوفيتي، وهي صداقات تمتد ما بين ثلاثين إلي أربعين عاما كاملة، ساعدتني كل صداقة منها بطريقتها الخاصة في التشبث بأن العالم خير، وإنساني، وصالح لحياة البشر.

أحيانا يبدو لي أولئك الأصدقاء مثل بيوت مختلفة أستريح في كل منها وقتما أشاء، حسام حبشي مثل بيت على نهر حيث يمكن أن أمد ساقي في الماء وأستريح، وأسرح، وآكل، ونتذكر كل النكات التي نعرفها ونضحك لها من جديد فأشعر أني مع أخي. أبو بكر يوسف يبدو لي مثل بيت في قلب مدينة عريقة، حافلة بالأفكار والنقاش والكتب، من دون أن يفقد البيت خفق قلبه الذكي العامر بالمحبة للآخرين والعالم. المخزنجي بيت معلق بخيط بين الأرض والسماء، يهرب إلي السحاب، معتذرا لأنه ليس كائنا أرضيا مئة بالمئة، فأقبل بخيالاته المجنحة. كل منهم عزيز جدا بطريقة خاصة وعبر زمن طويل جدا. أما جمال فيبدو لي كأنه بيت من طفولتي، وصباي، وشبابي، كأنه البيت الأول، وحين يمرض جمال تجري نحوه كل مشاعري بالمحبة والدعاء، ندعو له من صميم القلب أنا وأصدقاء عمري، معا، بنفس واحد، أن يعود إلينا سالما، معافي، قويا، ومبدعا.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى