الأحد ٢٣ نيسان (أبريل) ٢٠٢٣
بقلم نبيه القاسم

جنّة وهيب نديم وهبة المتَخَيّلة

مُنذ اللَّحظةِ التي طُرِد فيها آدمُ وحواءُ من الجنّة ظلَّ الأمل يرافقُهما في رحمته تعالى، وأنّ عودتَهُما إلى الجنّة مجرّدُ وقت، ويعود كلّ شيء إلى ما كان.

لكنّ السنوات والعقود والقرون تمرُّ والأملُ لا يتحقّقُ، وحزن الإنسان يزداد، وخوفه يكبرُ، فيحاولُ إِيجادَ السّبُلِ البديلة لتُوفّرَ له الأمانَ والطمأنينة. ووجد أخيرًا في الدّيانات السّماويّةِ ما يُعيد له الأملَ برحمة الرّب، هذه الدّيانات السّماويّة التي أمَّلَتْهُ بالجنّة الموعودة، ولكنّ الوصولَ إليها ليس بالأمر السّهل، حيث على الإنسان أنْ يلتزمَ بالكثير من القيود المكبّلةِ التي قد تَعافُها نفسُه.

وظلّ هناك مَن يسعى ويعملُ لخلق الجنّة التي يَرْتئيها الأفضلَ للإنسان المعذّب في حياته على الأرض.
فبنى أفلاطونُ جمهوريّتَه، وبعده قام القديسُ أوغسطين بتخيّل الجنّة التي يُريد، ثم كانت مدينةُ الفارابي الفاضلة، ويوتوبيا توماس مور. وقام أبو العلاء المعري بتجاوز الواقع وانتقل بخياله ليخترقَ حدودَ الجنّة والنار، ويلتقي بالعديد من سكانها في كتابه "رسالة الغفران" وتبعَه في ذلك دانتي في "الكوميديا الإلهية".

"الجنّة" لوهيب وهبة، ليست مجرّدَ رحلة يقوم بها ويعود، كما في رسالة الغفران للمعري والكوميديا الإلهية لدانتي، وليست مدينةً فاضلة يُخْتارُ حكامُها وتُسَنُّ تشريعاتُها ويُفرَزُ سكانُها كما في جمهورية أفلاطون ومدينة الفارابي الفاضلة، وإنّما هي سَبْقٌ في تَرسيم الجنّة، وتحديدِ مَعالمها، ورَصْد جغرافيّتها. جنّة قائمة يسودها العدلُ والأمان. المحبّةُ ميّزةُ أهلها، والعدلُ نبراسُ مُديريها، كلّ شيء يسير فيها برَوِيّة وتَبصّر ويقين، لا يُظلَمُ أحدٌ، ولا يُهمَل، كلُّ واحد يأخذُ ما يستحقّ.

رحلةُ وهيب إلى الجنّة... هدفُها هدايةُ الآخرين الرّاغبين القادرين على اتّباع الشّروط للوصول إليها، جنّة ليستْ كالَّتي وعدَتْ بها الدّياناتُ السماويّة. جنّة لا يدخلها أحدٌ بوَساطة، ولا يفوزُ بها آخرُ لعَلاقة. وإنّما هي لمَن "كانوا في الأرض البِرَّ والخيرَ والنّورَ والحبَّ. كانوا نُصْرةَ المظلوم ومُحاكمةَ الظالم. الذين سُرِقتْ أَرضُهمُ، حُرِثَ زرعُهمُ، أُكلَ رزقُهمُ، هُدِّمَتْ بيوتُهم، قُتِلَ أولادُهمُ، نساؤُهمُ، شيوخُهم، سُرقَ أغلى مَا يملكونَ، سُرِقَ الوَطن... وصبروا وعملوا الصَّالحاتِ. هم الَّذين عادوا إلى المكان الموعود، إنّ اللهَ لا يُخلفُ المِيعاد." (ص57)

وهيب وهبه ينطلقُ في رَسمه للجنّة من مُعتقده التّوحيديّ، حيث أنّ الإنسان قد عَبَرَ كلَّ الأدوار منذ أبدع الرّبُّ الكونَ بقوله: كُن فكان. ورافق الرُّسلَ والأنبياءَ في نَشر الدّيانات السّماويّة، وآمن بما دَعَت إليه من تَوحيد الخالق الواحد الأحَد. ساعيا لبلوغ النهاية ولقاءِ ربّه في دَوْر الكَشْف. مُلتزمًا بتوقيع العَهْد على نفسِهِ بإطاعة الرَّبِّ.

حدّد دَوْرُ الكَشْف أهميّةَ ما قام به الرّسلُ والأنبياء الذين أتَوْا مُحَمَّلينَ بالرِّسالاتِ السَّماويّة لهداية البشر إلى اتّباع طريق الخير، وعبادةِ الرَّبِّ. لكنّ فشلَهم في تثبيت الإيمان لدى كلِّ متَّبعيهم، وارتدادَ الكثيرين، واستشراءَ الشَّرّ بين النَّاس، وتحكّمَ القويّ الغنيّ بالضّعيف الفقير، والابتعادَ عن الإيمان بالرّبّ الواحد الأحد، وعبادةَ المال، والسّعيَ وراء السلطة وملذّات الدنيا، كانت البرهانَ على أنّ ما هو قائم لا يمكنُ أن يستمر.

في دور الكشف حيث تجسَّد اللهُ على الأرض تحدَّدتِ الشروطُ لبلوغ المرتَجى، ووضحَتِ السُّبُلُ الَّتي يجبُ السَّير فيها، وطُلِبَ من كلِّ مُستجيبٍ أن يكتبَ ويوقّعَ العَهدَ الَّذي يُلزمُ فيه نفسَه. في دور الكشف أخذ سيّدُ الزَّمان والمكان، ومعه الأربعة حدود الطَّاهرين البرَرَة مسؤولية الوصول بكل مستجيبٍ صادق إلى جنّة الله الموْعودة.

حتَّى تصلَ الجنّةَ، عليكَ اجتياز البوَّابة الخضراء حيث سيّد الزَّمان والمكان، ولتصلَ إليها يمكنُ ذلك عن طريق أيٍّ من البوّابات الأربع الَّتي يتكفّل بها الحدودُ الأربعةُ. وإذْ تدخلُ البوابةَ الخضراءَ يعني أنّك فزتَ بالجنَّة حيث هناك "لا توقيت، لا زمن، لا أسماء للأيام، ولا تواريخ. العقل إمام الزَّمان وسيّد المكان، وتاج الحضرة. كل شيء يتحرّك بأمر العقل، بفعل العقل" (ص42)

ويعود وهيب من رحلته إلى الجنَّة بعد تنقّله في أرجائها ورَسم معالمها ووصف حياة سكانها، ليكونَ الهادي والمرشد لكل مَن يرتقي به الإيمان لبلوغ الجنَّة، يعود وهو يحمل الحكمة نورًا يهتدي بها، "فالدُّنيا الفانية لا تتمّ لمؤمن، ولا تدوم سعادةٌ لإنسان، الأرض امتحان الخالق للمخلوق، وكل الأرض وما عليها متاع الزّوال، والنعمة هي الجنّة" (ص83-84)

هذه هي جنّة وهيب وهبة التي فصّل في ترسيمها ووَصْفِها، حيث لا يدخلُها أحدٌ بغير رضا وقبولِ سيّد الزَّمان والمكان والأربعة حدود الَّذين أشارَ إليهم بالألوان الخمسة.

تلك هي مقدمة الطبعة الخامسة لمسرحة القصيدة العربية (الجنة) الصادرة عن دار الربيع المصرية 2023 - بقلم - رائد النقد الفلسطيني - الدكتور: نبيه القاسم.

صدرت الطبعة الرابعة والخامسة بالعربية والإنجليزية - الترجمة للشاعر المصري: حسن حجازي حسن.
المراجعة والتدقيق: الدكتور: صفا فرحات - الغلاف يمنة حسن حجازي الطبعة الخامسة 2023.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى