الخميس ٨ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠٠٧

جوزف كونراد رمته عزلته الباكرة والمنفى في «قلب الظلمة»

جاد الحاج - الحياة

لمناسبة مرور مئة وخمسين سنة على ولادته، صدرت أخيراً في لندن سيرة حياة جوزف كونراد، البولوني الأصل الذي انتقل قلباً وقالباً الى الثقافة الإنكليزية وجاءت أعماله الروائية حجر زاوية في عمارة الرواية الحديثة. وضع السيرة الباحث الكندي جون ستيب، اكثر الاختصاصيين معرفة بأعمال وحياة كونراد، صدرت له سابقاً دراسات ومؤلفات أحاطت بمختلف أوجه الظواهر الإبداعية التي تركها مؤلف «قلب الظلمة» وعلى رأسها تأثيره العميق في الأدب المعاصر: تي. إس. إليوت. وليام فولكنر. أرنست همنغواي، نيبول، وغيرهم كثر تأثروا بأعمال كونراد.

الواقع ان التحدي الأصعب الذي واجه ستيب لدى كتابة هذه السيرة يكمن في كيفية إعفاء القارئ من الابتئاس والإحباط اللذين طبعا حياة كونراد من المهد الى اللحد: «يا طفلي الحبيب إسأل نفسك/ وأنت بلا أرض وبلا حب/ بلا وطن وبلا شعب/ وفيما بولندا – امك تدخل الجب» تلك بعض أبيات قصيدة ألقاها والده يوم عمادته. كان ذلك في السنة الخامسة والثمانين للنفوذ القيصري في بولندا. ولعل الروح الوطنية الواضحة في تلك الأبيات ترسخت في جوزف الصغير، فلم تفارقه على رغم هجرته والتحاقه بثقافة الإنكليز. ففي الرابعة من عمره عانى جوزف المنفى الى مستنقعات الشمال الروسي بسبب مواقف والده الحادة تجاه القيصر. هناك قتل الطقس الضاري امه، ولم يصمد والده اكثر من سنوات اربع ليتركه يتيماً وهو في الحادية عشرة.

العزلة طبعت حياة كونراد باكراً. في العام 1874 وهو في السادسة عشرة غادر الى فرنسا مقتلعاً، بالغ الكآبة، حتى انه حاول الانتحار. من هناك الى انكلترا حيث التحق بالبحرية التجارية متصدياً من دون نجاح يذكر لتربيته المتثاقفة وأسلوبه المترفع حيال صلف البحارة العاديين. حتى الزواج لم يشف غربته. الإنكليزية جيسي جورج التي اقترن بها على عجل، كانت من الطبقة العاملة، ولم تستطع فهم أطواره، بل اعتقدت غير مرة انه سيقتلها بقدر ما ظن هو ايضاً انه يحق لها قتله وذلك ظهر في قصصه القصيرة، خصوصاً اشهرها «ايمي فوستر» التي تروي حكاية امرأة بريطانية من الطبقة الدنيا تزوجت من بولوني، وعندما مرض وبدأ يهذي بلغته جرّاء الحمى تركته يموت لأنها لم تفهم ما يقول.

خلال عشرين سنة من العمل في البحرية تآزرت العزلة والحظ العاثر ناهيك عن سوء الأحوال الصحية لتأصيل سوداوية كونية لم يشفع بوطأتها سوى سياق المغامرة والتوق الدفين الى رومانسية تختلط فيها الأجناس وتلاعبها المصادفات على ايقاع عواصف البحر وغرائب الجزر في المجاهل البعيدة: سفن تغرق. قراصنة. مستعمرون قساة، كالبلجيك في الكونغو حيث خرطش السطور الأولى لـ «قلب الظلمة». الى ذلك لم يكتب كونراد بلغته الأم ولا بلغته الثانية، الفرنسية، بل اقتحم مخدع تشوسر ومحبرة شكسبير معلّماً نفسه بنفسه اللغة الإنكليزية، إلا ان حظه ناصبه العداء حتى وقت متأخر من حياته، فحين غرقت «تيتانيك» أغرقت معها مخطوطة لا نسخة عنها كان أرسلها الى ناشر اميركي. حتى قنديله «انتظر» السطر الأخير من روايته القصيرة «نهاية الاحتمال» وانقلب على المخطوطة فأحرقها. وحين أخذ أسرته للمرة الأولى الى بولندا اندلعت الحرب العالمية الأولى.

لذلك جاءت معظم السير عنه، خصوصاً ما كتبه جون ستيب، مجمعة على فكرة الصهر والتحويل، معتبرة ان خلاص كونردا كمن في الكتابة وأنه، غبر مخيال خصب مترع بالتجارب المعيشة، انقذ عقله من الجنون، وبالتالي أعطى الأدب مادة هادرة بالغرائب والعنف وتجليات النفس البشرية. عالمه «الشرقي» الممتد من الصين الى جنوب اندونيسيا والفيليبين لم يأت إكزوتيكياً للتزيين والجذب الحسي، بل جاء محمّلاً بتحليل قاسٍ لمفاعيل الاستعمار ونتائج الديكتاتوريات التي زرعها خدمة لمصالحه، وبالتالي لولادة الثورات والجوع الى الحرية. ويجمع ستيب وغيره ممن درسوا كونراد ان تحليلاته السياسية لا تزال معاصرة حتى اليوم.

لو أخذنا «العميل السري» مثلاً، قصته المتهكمة ذات المحور السياسي الملتبس لرأينا شخصية «الإرهابي» الرائجة راهناً في الطبقة العليا للباص اللندني الأحمر يتأمل الشوارع محتضناً جهاز تفجير في ملابسه، مستعداً لارتكاب مجزرة.

ركز ستيب في هذه السيرة على تفاصيل عائلية امتدت الى ابعد من اسرة كونراد مهتماً بمسائل غير ذات اهمية نسبة الى القارئ الجدي. الا انه كان أَولى في دراساته الأخرى اعمال كونراد الاهتمام الذي تستحقه بدءاً من السنوات القليلة التي أمضاها في فرنسا «ضيفاً» على جماعات البوهيميين في مونمارتر ومونبارناس، حيث تعرّف الى المسرح والأوبرا وهو يتابع دراسة العلوم البحرية حتى حاز إجازة مراقب إبحار للسفن الشاحنة. كان يقطف من العالمين، ما شكل لاحقاً مادة قصصه ورواياته. إلا انه لم يصبح قبطاناً إلا بعد سنوات من العمل في الخطوط البحرية البريطانية.

عناصر أولى

عام 1890 خلال رحلة الى الكونغو تجمعت لديه، كما أسلفنا، العناصر الكفيلة بالظهور لاحقاً في «قلب الظلمة». أما روايته الأولى «حماقة الماير» فظهرت عام 1889 وكانت بداية انتقاله من البحر الى الحبر، لكن شهرته لم تكن بدأت بعد، ذلك ان انتاجه الروائي اللافت اخذ في التبلور بعيد بلوغه الخمسين وصدرت أبرز أعماله بين 1897 و1911: «عبد نرسيس» و «شباب» و «قلب الظلمة» و «لورد جيم» و «نوسترومو» و «العميل السري» و «تحت عيون الغرب». مع ذلك لم تكن حياته المادية بالسهولة التي نتصور، فحتى العام 1914 تاريخ صدور «حظ» كان لا يزال مديناً لناشريه يعيش على وتيرة «خبزنا كفاف يومنا» فلما بدأت أحواله تتحسّن ظهرت عليه علامات الترف وبدأ يقيم الحفلات لأصدقائه وسافر الى بولندا ثم الى الولايات المتحدة حيث فاجأت قلبه المنية عام 1924 عن 67 سنة.

كان أسلوب كونراد صعباً وممتنعاً في الوقت نفسه. وذلك عائد الى ولادة قيصرية في مسألة اللغة، إذ كان يصارع المفردات بضراوة متلمساً ثقافتين مختزنتين لديه: البولندية والفرنسية اللتين تعلمهما منذ صغره. المفارقة ان هذا الصراع ولّد لغة انكليزية جديدة وبات بعض العبارات الواردة في اعماله مأثورة في الرائج والشعبي عبر ضفتي المحيط.

صدرت «قلب الظلمة» عام 1899 أي قبل عام واحد على بداية القرن العشرين، وهي قصة مارلو، قبطان مركب بخاري مرسل من قبل شركته للتفتيش عن كورتز احد موظفيها الذي انقطعت اخباره في الأدغال. المركب مبحر عكس تيار النهر، يتعرض لمشكلات كثيرة ليس اقلها تصاعد الرعب مما تحفل به الأدغال المحيطة. في تلك الأثناء حوّل كورتز نفسه الى «معبود» لدى احدى القبائل بعدما أذهلها بتقنيات الغرب المستحدثة. لكن بدلاً من ترويج تلك التقنيات تراه اعتنق معتقدات القبيلة وتبوأ مركز قيادتها، ويستعمل كونراد ثلاثة مفاتيح دلالية منذ البداية لتصويب القارئ نحو معنى (أو معاني) قلب الظلمة، فمارلو ينطلق من «المحطة الخارجية» الى «المحطة المركزية» متجهاً نحو «المحطة الداخلية». أي انه، على غرار المستعمرين الأجانب، آت من الخارج، يحط في وسط البلاد أو مرافئها ويتقدم نحو دواخلها مبحراً بعكس التيار، اشارة الى مقاومة الأرض وما عليها لذلك الولوج القسري. وفي هذا السياق، تستقيم امامنا مقارنة مروعة بين الاستعمار الاحتلالي وابن عمه الحديث.

في الدرجة الأولى، تبدو «قلب الظلمة» معالجة للخداع والخبث والتناقض الأخلاقي والارتباك الحاصل من تصادم المصالح مع القيم الإنسانية الثابتة: كيف المسلمات الأخلاقية ان تحكم على وضع مجنون في عالم يسوده الجنون اصلاً؟ في «المحطة الخارجية» أي قبل الإبحار، يراقب مارلو أحد المواطنين الأصليين وهو ينقل في دلو مثقوب، ولا يرى في ذلك غرابة بقدر ما لا يرى غرابة في جنون رفيقه الضائع كورتز المصاب بعقدة العظمة والقادر على القتل من دون ان يرف له جفن. ففي قلب الظلمة البشرية كل الاحتمالات واردة. وليس لذلك القلب نهاية جغرافية أو عرقية أو حضارية، انه باختصار لبّ العالم، يكتشفه مارلو محاطاً بالضباب الدامس يلف النهر والأدغال ويدرك من هناك حدوده الممتدة الى انكلترا وبلجيكا وما يسمى بالعالم المتمدن الذي يسمح لنفسه باضطهاد وقمع واستغلال وقتل الآخرين خدمة لمصالحه وتحت شعار التمدين والتطوير والعتق من البداوة.

وهنــا يأتي رمز النهر واضحاً لا لبس فيه، فالنهر، أي القوة الطبيعية للارض، يجعل اختراقه صعباً، وما صراع مارلو مع تياره الدافع الى الوراء سوى التعبير الواضح عن رغبة افريقيا في طرد الدخلاء بعكس سهولة الإبحار مع التيار، أي خروجاً من القارة السوداء. أما مسألة التواصل المستحيل فيعالجها كونراد على مراحل متقطعة عبر استشفاف ما بين السطور أكثر من التلقي الصريح المباشر، مما يجعل عدم وضوح الرؤية وبالتالي تكاثر الشكوك سمة جوهرية من سمات التعامل الأبتر بين المستَعمِر والمستعمَر.

اخيراً، لا بد من التأكيد ان السيرة التي وضعها جون ستيب (دار هاينمن) تصلح مدخلاً لإدراك خلفية كاتب «قلب الظلمة» أكثر مما تفي بغرض الكشف عن أسرار عالمه الأدبي.

جاد الحاج - الحياة

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى