حجازيات الشريف الرضي
الكاتبة:فاطمه صلاحي عز، طالبة جامعة آزاد الاسلامية في كرج
تحت إشراف:الاستاذ الدکتور سيد محمد الحسيني والاستاذ الدکتور عليرضا حيدري
المخلص
من أراد أن يتصوّر الحياة و يصوّرها للناس بارزة السمات فليعمد إلي الشعر و يستخبره لأنّ الشعر لغة الاحساس الصافي و الشعور الخالص يفقد تأثيره و جماله عند المخاطب بمجرّد التصنّع و التكلفّ و الغزل قسم ذو بال من الشعر هذا و قد شغل حيّزاً واسعاً في الادب عبر عصوره المختلفة و يجري الحبّ فيه مجري الدّم في الجسد.
و شهد الأدب العربي في القرن الرابع رغم الاوضاع الاجتماعية و السياسية المضطربة، إزدهار حركة الفكرية فأنّ الاحوال الفكرية كانت في أوج الازدهار في هذه الفترة و لعّل القرن الرابع، تعتبر أزهر فترة طوال تاريخ الفكر العربي. فقد كانت حركة الشعر و التأليف و البحث و التدوين نشيطة و كان الغزل اكثر أزدهاراً في حركة الشعر.
و يحاول هذا المقال أن يعرف نموذجاً راسخاً عن الغزل في الفترة فإنّه يميّز بعاطفه الحب و عاطفة الحنين من خلال دراسة «حجازيات الشريف الرضي». الذي ضرب من ضروب الغزل نسب إلي الحجاز و موضوع شعري وجداني ابتدعه الشريف الرضي. الحجازيات موضوع شعري عُرف بالشريف الرضي و عرف الشريف الرضي به و قد أنشدها في زمر الحج و مكانه أو في الطريق إليه و أو بذكره. و كان الشريف في حجازياته مبدعاً اسلوباً غزلياً جديداً و اتّبع شعراء كثيرون من معاصريه أو من الأجيال القادمة فنّه الغزلي.
الكلمات الدليلية: الغزل،الشريف الرضي، الحجازيات
التمهيد:
شهد الأدب العربي العديد من الشعراء و الشخصيات اللامعة التي برزت و تميزت، فكان لها دورها و تأثيرها في الغزل في سماء الادب العربي و كانت احدي هذه الشخصيات و الشعراء الكبار في العصر العباسي (406-359). الشخصية العالمة و الفاضلة الشريف الرضي. هو كان معروفاً بصدق اللوعة و الصبابّة و لقد شاع في كل مكان أنه كان من المغرمين حتي انهم ضربوا المثل بقصائده الحجازيات فقالوا ما معناه و لا تصقل نفس المتأدب إلا إن حفظ هاشميات الكميت و خمريات أبي نواس و زهديات أبي العتاهيه و تشبيهات أبن المعتز و مدائح البحتري و حجازيات الشريف الرضي. و قد حاولت هذه الدراسة أن تعرف الشريف الرضي و قسماً من اشعاره و ميزاتّها في الشكل و المضمون من خلال «حجازيات الشريف الرضي» إن السببين الرئيسيين باختيار هذا الموضوع للبحث اولاً: لأجل الشخصيه الشريف الرضي الذي تميز بالتقوي و الورع و المنزلة الدينية و الاجتماعية والسياسية بسبب نشأته في أسرته العظيمة و القيّمة. ثانياً: إشتهاره بأشعار الحجازيات التّي إنتشر صيتها بسبب العفّة و الأصالة الّتي تميّز بهاالشاعر و انعكس ذلك فيما بعد علي أشعاره و من ضمنها الحجازيات.
التعريف بالشريف الرضي:
الشريف الرضي أبوالحسن «محمد بن الطاهر ذي مناقب أبي أحمد الحسين بن موسي بن ابراهيم بن موسي الكاظم بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن زين العابدين بن الحسين بن علي بن أبيطالب» [1]، «ولد في بغداد سنة 359ه» [2] و هو «أبدع أبناء الزمان و أنجب سادة العراق، يتحلى مع محتده الشريف و مفخره المنيف بأدب ظاهر و فضل باهر و حظّ من جميع المحاسن وافر» [3]، و نشأ في أسرته العظيمة و القيّمة التي تميزت بالتقوي و الورع و العلم و المنزله الدينية و السياسية و الاجتماعية و زودثقافته من المحيط المفعم بالنقباء والعلماء والادباء، هم أسرة أبيه المشهود لهم بالتقوي و العلم و الإيمان و الأدب، و أسرة أمّه فاطمه بنت الناصر الكبير صاحب الديلم. كان أبوه ذا إرادة قوية و أصالة رأي، عظيم المنزلة عندالخلفاء العباسيين و البويهيين، تولي نقابه الطالبيين و أمارة الحج و ديوان المظالم مرات، و كان فيها مثال العالم التقي العادل. كان أخوه الشريف المرتضي لقبه علم الهدي و ذوالمجدين، و هو كان عالماً من أعلام الفقه و اللغة و الشعر و السياسة.
في سيرة السياسية- شغل الرضي عدة مناصب في طوال حياته هي: نقابة الطالبيين و النظر في أمور الطالبيين، إمارة الحج و النظر في المظالم. و علاقة بالحكماء و السلاطين لإصلاح امور الناس.
في سيرة العلميه- تتلمذ الشريف لعلماء عصره في بغداد و كانت علاقته بهم تتسم بالمحبة و الاحترام و الإعجاب، و قد إشتغل بالعلوم و الفنون في حضرة الاساتذه الكبار نحو الشيخ المفيد، أبي علي الفارسي، أبي سعيد السيرافي، عبدالجبار بن أحمد الشافعي المعتزلي، أبي حفص بن أحمد الكناني ... هذا قليل من كثير ممن تتلمذ عليهم الشريف الرضي،إذ أنه أخذ العلم عن الجميع دون إحراج. فكان شيوخه من مختلف المذاهب الدينية، و لذلك نشأ واسع العقل رحب الصدر غزير المعارف، بعيداً عن التعصب الديني. و بلغ من اهتمام الشريف بالعلم و المتعلمين أنه إتخد لتلاميذه عمارة سماها دارالعلم. و أرصد لها مخزنا فيه جميع حاجاتهم من ماله و لم تكن دارالعلم مدرسه فقط بل كانت مكتبة عامرة تضم ألوف المجلدات.
في سيرته الادبية- كان الشريف الرضي كاتباً مفكّراً فقيهاً عالماً لغوياً و شاعراً، مؤلفاته نجوم ساطعة في ذلك العصر و في كل عصور و هذه المؤلفات المتوفره عندنا: 1- نهج البلاغه 2- الرسائل 3- تلخيص البيان في مجازات القرآن 4- المجازات النبوية 5- حقائق التأويل في متشابه التنزيل و ديوان شعره المفخمة في أغراض المختلفه الشعرية. حظي شعر الشريف باعجاب الشعراء و الأدباء والنقاد قديماً و حديثاً و أثار إهتمام كثير من شخصيات عصره لما فيه من إبداع و روعة و جمال. «إبتدأ يقول الشعر بعد أن جاوز العشر سنين بقليل و هو اليوم أبدع أبناء الزمان و أنجب سادة العراق، ثم هو أشعر الطالبيين، من مضى منهم و من غيرهم على كثرة شعرائهم المفلقين، ولو قلت إنه أشعر قريش لم أبعد عن الصدق، فشعره عالي القدح، ممتنع عن القدح، يجمع إلي السلاسة متانة و إلي السهولة رصانة، و يشتمل علي معان يقرب جناها و يبعد مداها» [4]
و «بشهادة جماعة من أهل العلم و الادب و – هو معهم- أنه أشعر قريش» [5] و «له ديوان شعره كثير يدخل في أربعه مجلدات» [6] و قد إهتم إبنه عدنان بشعره و أبو حكيم الخبري رتب ديوان الشريف علي الأغراض و الفنون المختلفة و عمد الناس بعد أبي حكيم إلي ترتيب قصائد الديوان علي القوافي حسب حروف الهجاء دون النظر إلي الأغراض. و الأغراض التي نجدها في شعر الشريف هي: المدح و الرثاء و الغزل و الفخر و الهجاء و الوصف و الشكوي و العتاب و الحكمة و المثل و المجازيات ضرب من ضروب الغزل الشريف الرضي أنْ إشتهر بها، فإنّها تميّز بعاطفه الحب و عاطفة الحنين و العفة و الأصالة.
وفاته: لقد إنطفأت شعلة حياة الشخصية العظيمة مبّكراً و لقد مات الشريف الرضي و لم يتجاوز السابعة و الأربعين من عمره، فقد ذكرت أكثر المصادر أنه فارق الدنيا «صباح يوم الأحد السادس من شهر محرّم سنة 406 هـ، 26 حزيران 1015 م» [7] و دفن في داره بمحلة الكرخ ثم نُقل إلي كربلاء و دفن عند ضريح الامام الحسين(ع)". [8].
تعريف الحجازيات
مع أن الحجازيات كانت ذا أهمية بالغة عند الذين تناولوا أشعار الشريف الرضي، ولكن لا نجد تعريفاً وتفسيراً واضحاً عنها. يقول حنا الفاخوري إنّ " الحجازيات هي نحو أربعين قصيدة ضمنها الشاعر لوعة صبابته، وقد تفتحت بها عبقرية طريق الحج ومواسم الحج، وهي تحوي ميزات غزله جميعها ". [9]
قد جاء في تاريخ التراث العربي : " قصائد ومقطعات يورد فيها أسماء مواضع بالحجاز" [10]
أما التعريف الأصح عن الحجازيات فهو ما قاله الدكتور مصطفى كامل الشيبي إنّ"الحجازيات مصطلح واضح الدلالة على مضمونه، يجري في الشهرة على نسق مع هاشميات الكميت وخمريات أبي نواس وزهديات أبي العتاهية، ويعني المقطعات الشعرية التي لها وجه اتصال بالحجاز، مباشرة أو بالتأدية إليه، من نظم الشريف الرضي وهي بالمفهوم الحديث (البوم) صور تذكارية على هيئة أشعار تجمع ذكريات زياراته الكثيرة لأرض الحجاز أيام إمارته الطويلة للحج وما قبلها حين كان يرافق أباه، أبا أحمد الموسوي، الأمير الذي سبقه وأورثه الإمارة ". [11].
" الحجازيات من الموضوعات المخترعة في الشعر العربي الاسلامي وإن كان لها وجه اتصال بذكر الاطلال الذي يشكل غرضاً قديماً من أغراض الشعر العربي منذ نشأته الأولى ". [12]
" لكن حجازيات الشريف الرضي تختلف عن ذكر الاطلال التقليدية بعناصر ومظاهر وأفكار وأغراض وتأملات " [13]. لعل أقرب الأشعار الى حجازيات الشريف الرضي هي أشعار شعراء الأمويين والعباسيين التي أنشدت في الحجاز، ومن جهة تتداعى أشعار الشريف الرضي أيضاً. واتسعت السلطة الاسلامية في العصر الأموى اتساعاً كبيراً وسيطرت على ملل وأقليات مختلفة. مراسم الحج وازدياد المسلمين جعلت مكة مركزاً لتجمع المسلمين من البلاد المختلفة وكان يصف الشعراء الحجازيين ما يشاهدون في هذه المناسك.
فشعائر الحج وآداب الحج تعطي للموضوعات الشعرية شكلاً حياً ومتسعاً فيعتقد الشاعر أن النساء في المنازل المختلفة تحدث لشعراء الحجاز الحوادث الغرامية أحياناً.
وجود كعبة والحرم النبوي في الحجاز وإقامة مراسيم الحج السنوية في مكة وأطرافها، جعلت الشعر الحجازي أن يمتاز بخصائص خاصة ، ونستطيع أن نذكر الشعراء الذين ساهموا في شعر الحجازيات .. كالعرجي، عمر بن أبي ربيعة، وعباس ابن الأحنف.و لکن حجازيات الشريف الرضي تختلف عن شعرهم تماماً من جهتي اللفظ و المعني ، فسنشير إليهما في هذا البحث.
الف- الخصائص اللفظية الحجازيات
اللفظ عندالشريف الرضي موضوع جدير بالعناية و الدراسة وإستماعه سباحة في البحر .ففي لفظه يجمع متانة وسهولة في اسلوب دقيق. فالالفاظ عنده تشتمل على الخصائص التالية:
1. ذكر أسماء أماكن الحجاز:
يعتبر ذكر أماكن الحجاز المتعددة من الخصائص الهامة والأساسية في الحجاز، فلذلك سميت الحجازيات بالحجازيات.
وكان الشريف الرضي زائراً عراقياً " فالحاج العراقي يسلك الطريق الى الكوفة من بغداد .. ويمرّ بديار نجد ويقيم في منازلها ... ". [14].
و كان للنجد والحجاز مقام الحب عند الشريف الرضي " ومن هنا وجدنا شاعرنا العظيم يذكر من ملتقيات المحبين فيها: الرقمتين وعقيق الحمى وعالج وجبل القنان وغور السَّنَد واللِوى وغيرها، فاذا بلغنا مكة قصصنا الشريف الى جبل الأل وذي الأراك ونعما الأراك، بعرفة والخيف والصفا والغمر والمحصَّب ومُربخ [ثانياً] عند جبل ثور ويلملم، هذا فوق ما ذكرناه قبل. وفي المدينة تفوح العطور وتتردد الأنفاس من: الأثلة وإضَم والخَبت والأنغم وذي خُشُب وسَلْع وذي سَلَم وسويقة والشقيقة وعقيق الحِمى. وفي نواحي نجوس خلال متلقى الأحبة في قُبا والمصلى ونعمان الغرقد. [15].
وهو لم يذكر أسماء هذه الأماكن للابداع الشعري أو تعيين مقام الحب فقط بل يذكرها لأن هذه الأماكن أصبحت جميلة ومحبوبة أمام عينيه لحضور المحبوب فيها يذكر في أربعة أبيات اشعرية، ست مرات أسماء المواضع التي كانت المحبوبة تسكن فيها:
ألا يا غزالَ الرمل من بطنِ وجرةٍ
إللواجِدِ الظمآنِ منك شروعُ
ألا هل إلى ظل الأثيل تخَلُّص
وهل لثنياتِ الغُوير طلوعُ
وهل بليتَ خيمٌ على أيمنِ الحِمى
وزالت لنا بالأبَرقين رُبوع
ولم أنسَ يوم الجِزعِ حُسناً فَلَستُه
بعيني على أنّ الزيالَ سَريعُ
[16].
تبين هذه الأبيات اشتياقه الى أماكن المحبوب:
اُحبك ما اقامَ مِنى و جمعُ
وما أرسى يَمكَّة أخشباها
وما رفع الحججُ الى المصلى
يجرونَ المطى على وجاها
وما نَحَروا بخيف منى وَكبّوا
على الأذقان مًشعَرةً ذُراها
[17].
وهذه الابيات:
أقول لركب رائحين لعلكم
تحلون من بعدي العقيقَ اليمانيا
خذوا نظرةً مني فلا قوابها الحِمى
ونجداً وكثبان اللوى والمطايا
ومُروا على ابيات حيٍّ برامةٍ
فقولوا لديغ يبتغي اليوم راقيا
عدمتُ دوائي بالعراق فربما
وجدتم بنجدٍ لي طبيباً مُداويا
وقولوا لجيرانٍ على الخيف من منى
تراكم من استبدلتم بجواريا
[18].
2.الألفاظ المستخدمة بذكر المحبوب:
من الخصائص اللفظية الهامة الموجودة في الحجازيات هي استخدام الألفاظ لذكر المحبوبة أو المحبوبات عند الشريف الرضي، كما نعلم كان الشريف الرضي رجلاً فاضلاً ولم يشبب بأسماء أبداً وقد استخدم أسماء رمزية فقط مثل أميمة:
وهل ينعفني اليومَ دعوى براءةٍ
لقلبي ولحظـي ما أميمَ مُريبُ
[19]
وظمياء:
أشـمّ منكَ نسيماً لسـتُ أعرفُه
أظنُ ظمياءَ جرّت فيك أردانا
[20].
أو لمياء:
و مالي يا لمياءُ بالشـعر طائلٌ
سوى أنّ أشعاري عليك نسيبُ
[21].
قد ذكرت هذه الاسماء في أغلب أبياته الشعرية تقريباً وقد شبه الشريف الرضي محبوبته بالغزال أو الظبي كثيراً لهذا السبب قد استخدمت اكثر التشابيه من ألفاظ ظبي وغزال، في الحجازيات وعندنا أمثلة ونماذج لكل منها:
هذا غزالُ قد عطـا
وذاك ظبيٌ قدرنـا
[22].
استخدم لفظ ظبي، ظبية، وغزال، لوصف المحبوبة أو المحبوبات بصورة مفردة أو جمع مراراً وحتى استخدمها للتصغير أيضاً:
هل ناشـد لي بعقيق الحمى
غُزيـلاً مرّ على التـركبِ
[23].
إضافة الى استخدام هذه الألفاظ نرى في الحجازيات ألفاظاً أخرى متصلة ومتعلقة بها كسرب، صيد، سهم، ... أن يورد في شعره ..
وفي ذلك السرب الذي تريانه
أحمّ غضيضُ الناظرين كحيل
[24].
أو هذان البيتان يعتبران من أجمل أبيات الحجازيات:
وظبية من ظباء الأنس عاطلةٍ
تستوقف العينُ بين الخمص والهضم
لو أنها بفناء البيت سانحةً
كصدتها وابتدعتُ الصيد في الحرمِ
[25].
3. ألفاظ الشوق والحنين:
من الألفاظ التي استخدمت في الحجازيات كثيرة، مشتقات من الشوق، والحنين، والهوى، والوجد ....
نرى الى جانب الفاظ الشوق والحنين مجموعة من الألفاظ المرتبطة بالقلب والعين كـ "الحظ، العين، الطرف، القلب، الفؤاد، الصدر...." في الحجازيات لا نستطيع أن نرى الحجازيات دون هذه الألفاظ وهذا الدليل يرجع الى الخصائص المعنوية لدى الشاعر كالعفة والنظر بطرف العين الى المحبوب ووجود الرقباء.
كان الشريف الرضي من الشعراء الذين لا يمكن له أن يقيم اتصالاً دائماً بمحبوبته ولهذا الفراق والهجران في أشعاره سنّة ثابتة و ألفاظ أصلية تربط للفراق كالألم،و الحزن، والسقام و .... مثل:
يا صاحب القلب الصحيح أما إشتفى
ألم الجوى من قلبي المصـدوع
[26].
يتذكر الشاعر محبوبته بعد الهجران والفراق ونشاهد لفظة " ذكر" في حجازياته كثيراً:
ذكرتُ بها ريا الحبيب على النوى
وهيهاتُ ذايا بعد بينهما عندي
وتذكرّ عني مُناخ مطيي
بأعالي منى ومرسى خبائي
[27].
ب- الخصائص المعنوية في الحجازيات
1.العفاف:
من أهم الخصائص المعنوية التي رفعت الحجازيات الى حد الأشعار العذرية هي العفاف والحرمة، تظهر أشعار الشريف، الشخصية المتقية والمحبة والعاشقة في الحجازيات، لماذا تعتبر العفاف الخصوصية البارزة لهذه الأشعار؟ الاجابة ليست صعبة " لقد مرّ بنا طموح الرجل ورغبته في المعالي التي أرقت مضجعه منذ كان فتى، وتوليه أمر النقابة وأمور المساجد في بغداد، بعد أن جاوز العشرين، ثم توليه النيابة عن بغداد والنقابة وإمارة الحج والمظالم قبل الكهولة؛ فإذا ما أضيف الى ذلك نسبه النبوي واعتزازه به، ورغبته في الخلافة، وإعلانه هذه الرغبة والعمل لها، أدركنا الحواجز التي تقف أمامه، وتمنعه عن أن يشارك شعراء بغداد ومجونهم ". [28].
لعله يكون من غير المنصف أن نعد تحسب العوامل الخارجية والمكانة الاجتماعية عامل العفة في الحجازيات للشريف الرضي فقط لأن الروح الرفيعة والفؤاد السليم للشريف الرضي،هو العامل الاساس للعفة في شعره لا مكانته الاجتماعية لأنه " كان للتربية الدينية والأخلاقية وللبيئة التي نشأ فيها أثر كبير في أخلاقيات الشريف واتجاهات غزله، لذلك نراه يركز في قصائده على مظاهر الطهر والعفة والذكرى ". كان يعرف الشريف الرضي أنّ نظرة الرقيب هي عامل لعدم وصوله الى المحبوبة أيضاً:
و لي نظرةٌ لا تملك العينُ أختها
مخـافةَ ينْـثوها عليّ رقيــب
[29].
أو يقول:
عندي رسائلُ شوق لستُ أذكرها
لو لا الرقيبُ لقد بلّــغتها فـاك
[30].
2.ذكر المحبوب:
التفاتاً الى مطالع الحجازيات نشاهد خصوصية معنوية أخرى تشير الى ذكر المحبوب وأماكن اللقاء:
تذكرتُ بين المأزمين الى منى
غزالاً رمى قلبـي وراح سليماً
]] المصدر نفسه،ج1،179]].
تبين هذه الأبيات أنّه مهما يفترق ويبتعد عن عشيقته على رغم البعد والفراق منها ولكن يخفق فؤاده لأجلها ويتسلى بذكرها:
ثم انثنَينا إذا ماهَـزّنا طـرَبُ
على الرحال، تَعَلّلنا بذكــراك
]] المصدر نفسه،ج2،107 ]].
" ومن مفعول (ذكرى الذكرى)، كان الشريف الرضي ينظر الى الآثار والأمكنة بجدلية الرغبة والاشقاق، الرغبة في أن يرى الطول والاشفاق على نفسه من الأسى". [31]
أمن ذكر داربالمصلى الى منى
تعادُ كمـا عيد السـليم المؤرق
[32].
ليست الحجازيات الشريف الرضي مجالا لذكر محبوبته فقط، بل يتمنى الزمن مع محبوبته حتى يعود فيدفع كل ما في سعته لزمن الفقيد:
يا ليلة السفح ألا عدتِ ثانية
سقى زمانك هطال من الديم
ماض مِنَ العيش لو يُفدى بذلتُ له
كرائم المال من خيل ومن نعم
[33].
3.طيف الخيال:
" حين يعتمد الشاعر في بناء شعره على طبع سمع، وبديهة حاضرة، وموروث إبداعي ثر، فلابد من أن يظهر أثر النشاط الخيالي في شعره بجلاء ووضوح، هذا النشاط الذي هو جوهر الابداع – الشعري خاصة – وقد كان الرضي من أهم شعراء الطبع، والبديهة الذين ظهر أثر الخيال في شعرهم ". [34].
ولا يهدء شغف الشريف الرضي الى المحبوب بالتذكر فقط إذن يسكن فؤاده المضطرب بالتوسل إلى التوهم والخيال:
حبذا منكم خيال طـارق
مرّ بالحي ولم يلمم بنا
[35].
وأيضاً:
قالتْ: سيطرُقُكَ الخيــا
لُ مِنَ العتيق على نواها
فعدي بطيفــك مُقلَةً
إنْ غبتِ تطمَعُ في كراها
[36].
فمن عادة العشاق أنهم حينما يفترقون عن المحبوب يتفشون كل مكان عنه وينظرون بكل حدب وصوب، وفكان ييظاهر أمام عينيه طيف المحبوب دائماً ولكن هذا دواء لا يشفي دائماً:
إنّ طيف الخيال زار طروقاً
والمطايا بينَ القنان وشعب
زارني واصلاً على غير وعد
وانثنى هاجراً على غير ذنبِ
كان قلبي إليه رائد عيني
فعلى العين منّةُ للقلب
بت ألهو بناعم الجيد غضّ
وفم بارد المجاجة عذب
بل وجدي، ومَن رأى اليوم قبلي
ناقعاً للغليل مِنْ غير شرب
سامحاً لي على البعاد بنَيْلِ
كان يلويه في زمان القُربِ
كان عندي أنّ الغرور لطرفي
فإذا ذلك الغرورُ لقلبي
[37].
4.الأسف والتهلف:
توجد في غرام وهوى وحب الشريف الرضي حالة خاصة، يشاهد أحبائه في مناسك الحج أو قوافل الحجاج ويعلم جيداً بأنه قبل أن يصل إليهم ويلاقيهم، يحصل الهجران والفراق بينه وبينهم (أي الهجران والبعد والفراق قبل الوصال):
ويا بؤسَ للقـربِ الذي لا نذوقه
سوى ساعة ثمّ البعادُ مدى الدهر
[38].
" خذلكم الشاعر يطوف البيت فتقع عينه على غرائب الحسن، ثم يكشف الواقع غشاوة هواه، إذ يعرف أنها لحظة لن تعود. ومن الذي يضمن للشاعر أن يسمح الزمان اللعوب بأن يرد إليه هو قلبه بعد عام أو عامين ". [39]
لذا ينقسم حب الشريف الرضي الى ثلاثة أطوار منها: نظرة الهيام والوجد، البعد والفراق الأبدي، والتلهف الأبدي:
نَظَرتُك نظرةً بالخيف كانت
جلاءَ العين مني بل قَذاها
ولم يكُ غيرُ موقفنا فطارَت
بكل قبيلةٍ منا نسواها
فواهاً كيف تجمعُنا الليالي
وآهاً من تفرقنا وآها
[40].
" وكثيراً ما كان يفوت شاعرنا اللقاء فلا يسعد به، ولا يتيسر له الاجتماع بمن يحب فيأسف ويتحسر ويذوب ألماً " ، [41]. وهو يقول:
تَزافرَ حبي يوم ذي الأثلِ زَفْرةً
تذوبُ قلوبٌ من لظاها وأدمعُ
[42].
" من هنا نعرف كيف كان الشريف كثير الأسى والحنين، فالذي يشهد مواكب الحسن من مختلف الشعوب في موسم لا يدوم غير أسابيع لا يستطيع تزويد العين والقلب بغير الحسرات". [43]
واها ولـولا أن يلومَ
اللائمونَ لقلتُ آها
[44].
إذن، يعتبر الندم والتهلف على الوصال والهجران الأبدي من الخصائص المتعلقة بحجازيات الشريف الرضي، التي نستطيع مشاهدتها في أكثر حجازياته:
أيها القانص ما أحســ
ـنتَ صيدَ الظبياتِ
فاتكَ السربّ وما زُوّ
دْتَ غيرَ الحسراتِ
[45].
5.الصدق والوفاء :
الصدق والوفاء من خصائص الأخرى في حجازيات الشريف لأنه وفيّ وصادق في حبه، ولا يرى التكلف والتصنع في غرامه وشعره:
أغيبُ فأنسى كل شيء سوى الهوى
وإن فجعتني بالحبيب النوائبُ
ولا زاد يوم البين إلاّ صبابةً
فلا الشوق منسيٌ ولا الدمع ناضبُ
أحنَّ، إذا حنّت ركابي وفي الحشا
بلابلُ لا تعيا بهنّ النجائبُ
فعندي اشتياق ما يحنّ أخو الهوى
وعندي لغوبٌ ما تحنّ الركائبُ
وإنيّ لأرعى من وداد أحبّتي
على بعدٍ ما لا تراعي الأرقابُ
[46].
فهو لا ينسى الهوى، والفراق لا يزيده إلاّ شوقاً، فأنه متعب ولكنه مشتاق، ويراعي وداد أحبته أكثر مما تراعي الأقارب بعضهم البعض والقطعة التالية تدل على وفائه الذاتي:
يا ريم ذا الأجرع يرعى به
ثمار قلبي بدل الرطب
هناك شرب الدمع مع ناظري
يا مشرتي بالبارد العذب
أنت على البعد همومي، إذا
غبتَ وأشجاني على القرب
لا أتبع القلبَ الى غيركم
عيني لكم عينٌ على قلبي
[47].
فنري عمق الصدق الذي يتمتع به الشريف الرضي، فهو يطلب إنساناً يدخل في اثناء سره ليفهم أن الشريف رجل صادق.
6.الرّقّة :
الرّقة من خصائص حجازيات الشريف الرضي، وقد عرف من قديم بهذه الصفة من ذلك قول الباخرزي صاحب دمية القصر: " وله شعره إذا افتخر به أدرك من المجد أقاصيه وقعد بالنجم نواصيه، وإذا نسب انتسب الرقة الى نسيبه ". [48].
ننقل طرفاً من أشعاره تدلّنا علي الرِّقّة التي تبناها في شعره، لذلک اخترنا « ظبية البان » لنقف متفرِّجين علي جمالها و رقيق ألفاظها و دقيق معناها :
يا ظبية البان ترعي في خمائلهِ
ليهنک اليوم أنّ القلب مرعاکِ
الماءُ عندکِ مبذولٌ لشارِبِهِ
و ليسَ يُرويکِ ألاّ مَدمَعي الباکي
هبّت لنا من رياح الغَورِ رائحةٌ
بعد الرُّقادِ عرفناها برياکِ
[49].
"لتکن حجازيات الشريف هي الشاهد علي أنّ ما ضينالم يکن کتلةً من الجمود ، وإنّما کان ماضي أُمّة حيَّة ، تدرک دقائق الأحاسيس " [50]
7.العِرفان
يشکِّل العرفان جانباً واسعاً من الشعر الغزلي الذي تغني به بعض أرباب الذوق و المتطلِّعين إلي الذات الربوبية ، و ربّما ملک هذا الجانب فؤاد شاعر ذاب حُبّاً للمحبوب المطلق فسما به الغزل إلي حَظيرة القدس ، فأنطقَ الحبُّ لسان قلبه و انطلق العارف يعرج في سماء المعني، يشرب من يد الحبيب خمر المعرفة و يسکر برحيق الحبّ .
لاغرولو قلنا إنّ الأدب العربي قبل القرن الرابع الهجري وحتي إلي الهجري و حتي إلي القرن السادس کان لا يعري اهتماماً بهذا الجانب و لا يعرفه کما نفهمه الآن .
فکان العرب يتغزّلون بالجانب المادي من المرأة ، ثمَّ حدث تطوّرٌ و هو الغزل بالجمال في تصوير أخلاق المرأة من غنچ و دلال و خلف الوعد و المَطل إلي غير ذلک ممّا نسيباً، و لم يلتفت أحدٌ منهم إلي تصوير الجمال المعنوي الذي يتواجد في غير المرأة ، دع تلک الأوصاف التي وصفوا بها الطبيعة و مفاتنها من خمائل و زهور و طيور و حمام ،فانّها لاتدخل في اطار بحثنا و إنّما تدخل في حيزٍّ المادّة ، و ربّما تجد عندهم أوصافاً معنوية و عالية إلي درجة السموّ و إلي حدٍّ السماء ، ثم تجدها في سبيل ليلي الواقعية أو بثينة بنت زيد أو عمر و ،فتحليق الشاعر في جوّ الخيال لبتناوش أوصافاً بدبعة و ممتازه في سببل ابنة عمّه أوغبرها من بنات سائرالقبائل لابرفع الروح ألي عالمِ المعني .
ونري تطوّراً أحدثه الشريف الرضي في الشعر العربي من خلال الغزل إذ تسامي بشعره و بغزله عن لمياء بنفسها أو أطلال الحبيب البشري إلي لمياء الرمزية و محبوبه العلويّ و إلي نفحات نجد، حيث يبحث عن مطلوبه في تلک الديار و يصبّ دموع الشوق و تتقطّعُ أنفاسُه حسرات في سبيل ساکني طَيبة ، و مَن هُم ساکِنُوها؟!
إنّ الشريف تغزّل بالأراضي الحجازية و أنشا قصائده الحجازيات ، تلک القصائد التي تناولتها القلوبُ فاقترنت بأبدع ما أنتج الأدب العربي في أزهر عصوره من عيون شعر العرب، فقد قيست بخمريات أبي نؤاس و هاشميات الکُميت و مدائح البحتري و تشبيهات ابن المعتزّ و زهديات أبي العتاهية ، و هذه القصائد کلّها أنشدها وهو منجد علي ظهر الأراضي الحجازية ، فتراه فيها يتحرّق اشتياقاً و يتغزل بأروع ما تغزّل المتغزلون و تابعه علي طريقته شعراء کبار کالمهيار الديلمي تلميذه والحاجري والتلعفّري، فأصبح الغزل بعد الشريف الرضي تغنياً لمحبوبٍ فوق الجسد و المادة و تحليقاً في سماء الحب المطلق ، الذي لا حدَّ له و لا نهاية و قد ضربنا أمثلة للتجاوب الذي حصل عند الحافظ الشيرازي مع الشريف الرضي ، و لا ندّعي أنّ الحافظ الشيرازي تأثّر في غزله بالشريف الرضي کما اننا لا ننکر هذا التاثير ،حيث نري الرجلين تقاربا في طريقتها ، فکاد الکلام يخرج من قلب واحد علي لسانين . و لربّما جاء غزل الشيرازي مماثلاً للشريف الرضي عن تضارب القلوب و تلاقي الارواح في عالم الحب .
8. الاشارة الى مناسك الحج:
من خصائص مراسم الحج تجمع العديد من الناس من اقشارٍ وفرق مختلفة، الشريف الرضي في أحد قصائد الحجازيات " فيشير الى مناسك الحج في منى وليالي الخيف ويستمطر عليها صوب الغمام، هناك يتلقى الظالم والمظلوم والمشكو والشاكي والمحسن والمسيء ". [51].
إذا يَلتقي كلّ ذي دينِ وماطِلـه
منّا ويجتمعُ المشـكو والشاكـي
[52]
من المناسك المتعلقة بالحج " النفر" المختص بيوم الثالث من أيام التشريق ويسرع فيه الحجاج من منى نحو مكة، قد ذُكر هذا العمل مراراً بواسطة الشريف الرضي:
ما ترى النفرَ والتحملَ للبيــ
ـن، فماذا انتظارنـا للبــكاءِ
[53].
أو يقول:
كَــمْ نأى بالنَفـر عَنّـــا
مِــن غَــزالٍ ومَــــهاة
[54].
وأيضاً:
وقالوا غداً ميعادنا النفر عن منى
وما سـرّني أنّ اللقاءَ معَ النفـر
[55].
من الفرائض للحجاج رمي الجمرات، والشريف الرضي كان يصف النساء الحاجّة حين رمي الجمرات مراراً:
مُجتمراتُ رُحــنَ عـــن
رَمـــي الجمــار موهـنا
[56].
أو:
ورامينَ وهناً بالجمار وإنما
رموا بينَ أحشاء المحبين بالجمر
رموا لا يبالونَ الحشى وتروّحوا
خليين والرامي يُصيبُ ولا يدري
[57].
9. الرمزية في الحجازيات:
الرمزية، مذهب شعري يمثل بالرموز ما يوجد من تجانس خفي بين الأشياء و نفوسنا، ولم تکن الرمزية معروفة في تلک العصور. والرمزية تظهر عادة حينما يتطوّر الخيال و تتطوّر الحياة، فيترک الشاعر الصور الساذجة و يظّل يتطلّع إلي صور في نفسه بألفاظ معروفة و مألوفة.
و القرن الرابع الهجري من العصور الأدبية المزدهرة التي قوي بها الخيال و اتسعت علوم الرجال، فنبغ فيه ثلاثة شعراء الکبار و هم: المتنبي و أبو العلاء المعري و الشريف الرضي.
فالشريف الرضي الذي يتمتع بهذا الأدب و العلم الجم، له أن يکون من بناة الرمزية و أن يتحدث في الشعر عن معان يقصدها و يأتي بألفاظ تدل علي معان غير مقصودة، أو يضرب تجانساً بين الأشياء و نفسه ويرمز إلي غايته رمزاً حيث کان يذکر أسماء لم تکن لها مسميات في ذهنه، و من ذلک يقول زکي مبارک:
"إن الأسماء التي وردت في شعر الشريف، لم تکن لها في ذهنه مسميات، أريد أن أصرح بأنه کان يسلک المذاهب الرمزيۀ". [58].
فنريفي شعره کثيراً ما تحدث عن لمياء و أميمۀ و ما إلي ذلک من أسماء منها:
ألا أيها الرکب اليمانون عهدکم
علي ما أري، بالأ برقين قريب
و إن غزالاً جزتم بکناسه
علي النأي عندي المطال حبيب
و لما التقينا دل قلبي علي الجوي
دليلان؛ حسن في العيون و طيب
ولي نظرۀ لاتملک العين اختها
مخافة يثنوها علي رقيب
و هل ينفعني اليوم دعوي براءة ٍ
لقلبي و لحظي، يا اميم، مريب
[59].
و من اميم هذه؟ أهي الحبيبة التي قصر هواه عليها کما للمجنون من ليلي؟ لم تعرف الدنيا هذا و ما کتب المؤر خون کما کتبوا عن مجنون و حبه لليلي العامرية، نسمع الشريف الرضي في الأبيات التاليۀ و تغزله بظمياء:
لقلبي بغوري البلاد لبابة
و إن کنت مسدوداً علي المطالع
لعلي اعطي، و الأماني ضلة،
و ان الليالي معطيات موانع
مبيتي في اثواب ظمياء، ليلة
بوادي الغضا و العاذلون هواجع
[60].
فرمز بظمياء بدل أميم، ثم نراه يتغزل بالعامرية، و العامرية هي ليلي:
وقفت بربع العامرية وقفة
فعز اشتياقي و الطلول مواضع
و کم ليلة بتنا علي غير ريبة
علينا عيون للنهي و مسامع
[61].
فلم تکن اميم بنفسها و لم تکن ظمياء تري بالعين و يسمع حديثها کسائر النساء و يري مکانها و لم تکن ليلي و لا آلها ممن لهم وجود في الخارج و إنما خلقهم الشاعر رموزاً يتغزل بهم و يريد غيرهم.
و ماهو ذو الأثل و وادي الأراک ورامة في الأبيات التالية:
تذکرت إيا ما بذي الأثل بعدما
تقضي أواني في الصبا و أوانها
يطيب أنفاس الرياح ترابها
و يخضل من دمع النسائم بانها
[62]
و قوله في وادي الأراک:
خليلي! هل لي لو ظفرت بنية
إلي الجزع من وادي الأراک سبيل
و هل أنا في الرکب اليمانين دالج
وأيدي المطايا بالرجال تميل
[63].
فکلّ هذه الأسماء المواضع – کما ذکرنا سالفاً- اسماء رمزية من صنعة الخيال المرهف قاصداً محبوباً و احداً.
10. البداوة في الحجازيات:
تعتبر البداوة من الخصائص البارزة في أشعار الشريف الرضي التي تتجلى في حجازياته بوضوح كامل.
وما يعطي اللون والرائحة البداوة بالحجازيات، يصدر عن روح الشريف الرضي و اشتياقه الى تراث البداوة ووقوفه على الأشعار واللغات القدماء وأيضاً الحوادث التي ترتبطه الى الحجاز والبداوتها، " فتساعده رقة الهواء، وإتساع الفضاء، وحرية القول، ومشاهدة العرب الصميميين من أهل تلك الديار، على طبع قصائده بطابع الرقة والبداوة مضافاً إلى ما فيه قبل ذلك ". [64].
11.المرأة في الحجازيات:
نظرة الشريف الرضي الى المرأة تختلف عن الآخرين تماماً عن الذين ينظرون الى المرأة كمتاع للذة والمتعة فقط، ويتوجهون الى الجانب المادي من الحب فقط، وتختلف نظرة الى المرأة من الشعراء العذريين أيضاً الذين يميلون الى ذكر الهم والغم فقط ولا يهتمون الى مشاعر وأحاسيس المرأة أبداً " وتغزل فكوى القلوب بنار العشق، وأعلى محل المرأة ووصف جمالها ووصف فطابق وصفه خصال موصوفه ". [65].
" المرأة في حس الشريف، إنسانة تحب، بمقدار ما تُحب، أو هي أكثر شغفاً، وأغنى روحاً :
لكِ الله من مطولة القلبِ بالهوى
قتيلة شوقٍ والحبيبُ غريبُ
يقولون مشغوفُ الفؤاد مروّع
ومشغوفة تدعو به فيُجيبُ
هاهي العذرية تطلّ على حقيقتها في علاقة الرجل بالمرأة، والمرأة بالرجل ". [66].
وفي حجازياته نجد الوصف الحسي للعيون الساحرة والنظرة القتالة فقط:
عارضاً فإن كان فتىً
بالعيونِ النجلِ يقضي فأنا
إنْ مَنْ شاط على ألحاظها
ضعفُ مَن شاط على طول القَنَا
[67].
وفي الاختصار أن " ذلك هو شأنه مع المرأة : تحبه ويحبها، ويتذكرها وتتذكره ويأنس بحديثها، ويفرح بجمالها جسداً وروحاً ويود عن الأشياء من حوله. ولا شيء غير ذلك ". [68].
12. طريقة الحب في الحجازيات:
" كان للشريف الرضي مذهب في العشق، وفي أنشطته سياسية وفكرية كثيرة تتوفر امكانية صياغة المذهب، أما في العشق، فإن صياغة مذهب للعشق عمل مذهل ... وكان الشريف الرضي لوحده تجربة متكاملة، فقد اندفع في العشق الى النقطة البعيدة الى حبة القلب، وما أبعدها ". [69].
"في شعر الشريف الرضي لا إرتسمت أحوال ومقامات للحب، توحد فيها الروحي بالحسي، والالهي بالارضي، فجاء في شعره القبض والسبط والهيبة والأنس، والجمع والفرق، الغيبة والحضور، والصحو السكر، والستر والتجلي، إنما في سياق تجربة واقعية مشهودة ". [70].
طريقة الشريف الرضي في الحب فريدة وهو كان متبايناً عن شعراء العذريون لأنه لا يتغزل بامرأة واحد مثلهم ويعشق الى محبوبات كثيرة، يكون وأي جميلة محبوبته ولكن هذا الأمر لا يعني أن يجعله في زمرة شعراء الإباحية التي يصفون المحبوبات بالوصف الحسي وحتى يذكرون أسمائها دون خجل.
الشريف الرضي عنده محبوبات كثيرة، هل يقدر أجاب جواباً متقناً لهذا الأمر ؟ نعم
عشقتُ ومالي يعلَم الله حاجـة
سوى نظري والعاشقون ضروب
[71].
هو يعتقد أنّ العشاق مختلفين، بعضهم يعشق امرأة واحدة، وبعضه يعشق عدة نساء، بالحب الحسية، وأيضاً وشخص كمثله يعشق الى المرأة يعني يعشق الى الجنس الجمال. حب الشريف الرضي كان نظرة جملة وأعلى من الحب العذريون.
حبه يختلف الى حب المتصوفة " إنّ المتصوفة أرادوا الوصول الى الله تعالى من خلال الكلمة الاشارة، الرمز، لكن الشريف الرضي كان يعرف الخالق ويقدسه من خلال الحياة، أي من خلال حكمة الخالق في خلقه " [72]. كما قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع):
" الحمدلله المتجلى لخلقه بخلقه " [73]، وأيضاً قال عليه السلام: " ما رأيتُ شيئاً إلا ورأيت الله قبله وبعده ومعه ". [74].
و" الحجازيات هي لقاء المحبة الإلهية مع المحبة الإنسانية فيصيرالحب سموأ و تديناَجميلاَ ففي الطريق إلي محبة الخالق يلتقِي بمحبة المخلوق، وهذا شأن عظيم و قديم إن الجمال خلق أبدعه الله ، فعشقته النفوس وقصدته وحنت إليه، وهذا ما يتجلي في حجازيات الرضي " . [75].
النتيجه
1-الحجازيات هي قصائد و مقطوعات غزلية ذكر فيها الشريف الرضي مواضع الحجاز أو أنشدها في الحجاز و إن لم يذكر فيها الحجاز ، ولذلك سميت بالحجازيات ، و تعتبر الحجازيات من روائع الادب العربي القديم .
2-و للحجازيات ميزات خاصة ، إما لفظاً كذكر مواضع الحجاز أو الفاظ في ذكر الأحباب و تشبيههم بالظباء و .... و إما معناً كالعفة و العرفان و الرقة والرمزية و ... .
3-كان الشريف الرضي في حجازياته مبدعاً أسلوباً غزلياً جديداً نكاد لانراه إلا في شعر بعض الشعراء الحجازيين كعمربن أبي ربيعة و غير حجازيين كالعبّاس بن الأحنف و لكن حجازيات الشريف تختلف من شعرهما تماماً . واتبع شعراء كثيرون من معاصريه أومن الأجيال القادمة فنّه الغزلي كتلميذه مهيار الديلمي و أستفاد الشعراء الصوفيون و في طليعتهم إبن الفارض من أسلوب الحجازيات في أشعارهم الصوفية و معانيهم العرفانية إذن نري مواضع الحجاز في شعر إبن فارض مثلاً رموزاً لمنازل المعرفة السماوية .
4-نظرة الشريف إلي الحب ، نظرة متباينة و هو يعشق المرأة يعني إلي الجنس الجمال و الحجازيات هي لقاء المحبة الإلهية مع المحبة الإنسانية فيصيرالحب سمواً و تديناً جميلاً ففي الطريق إلي محبة الخالق يلتقي بمحبة المخلوق ، ولأنّ الجمال خلقه الله ، فعشقته النفوس و جمالها و هذا ما يتجلي في حجازيات الرضي.
فهرس المصادر و المراجع
1-إبن خلكان، أحمد بن محمد أبي بكر، وفيات الأعيان، القاهرة، طبعة دارالثقافة، بلاتا.
2-الأميني، عبدالحسين أحمد النجفي، الغدير، تحقيق مركز الغدير للدراسات الاسلامية، مطبعة فروردين قم، ايران، 1416 ه ق.
3-الأميني، محمد هادي، حياة الشريف الرضي، ط1، طهران، مطبعة شمشاد،1408ه ق.
4- الباخرزي، أبوالحسن، دمية القصر و عصرة أهل العصر، تحقيق الدكتور سامي مكي العافي، ط 2، الكويت، دارالعروبة للنشروالتوزيع، 1985 م.
5-الثعالبي، عبدالمللك، يتيمة الدهرفي محاسن أهل العصر، بيروت، دارالفكر، ط 2، 1973 م.
6-جاسم، عزيزالسيد، الاغتراب في حياة و شعر الشريف الرضي،دارالأندلس، بيروت، الطبعة الادلي، 1986 م.
7-الحلو، محمد عبدالفتاح، الشريف الرضي، حياتة و دراستة شعره، هجرللطباعة و النشروالتوزيع و الاعلان، ط 1، 1986 م.
8-حنا الفاخوري، تاريخ الادب العربي، طهران، منشورات طوس، 1378 ش.
9-الخطيب البغدادي، أبوبكر احمد، تاريخ بغداد، ط 1، القاهرة، مطبعة السعادة، بلاتا.
10-سزگين، فؤاد، تاريخ التراث العربي، نشر مكتبة آية الله العظمي المرعشي النجفي العامة، قم، ايران، الطبعة الثانية، 1412 ه ق.
11-شراره، عبداللطيف، شعراؤنا القدامي، الشريف الرضي، دراسة و مختارات، الشركة العالمية للكتاب، ط 1، 1992 م.
12-الشريف الرضي، الديوان، منشورات مطبعة وزارة الارشاد الاسلامي. الطبعة الاولي في ايران، 1406 ه ق.
13-الشريف الرضي، نهج البلاغة، بنياد النهج البلاغة، قم، 1422، ه ق.
14-الشيبي، مصطفي کامل، الشريف الرضي دراسات في ذاکره الافيه، ط 1 ، 1985م
15-عمران، عبداللطيف، شعرالشريف الرضي و منطلقاته الفكرية، ط 1، دمشق، دارالينابيع، 2000 م.
16-مبارك، زكي، عبقرية الشريف الرضي، ط 2، بيروت، المطبعة المصرية للطباعة و النشر، بلاتا.
17-نورالدين، حسن جعفر، الشريف الرضي حياتة و شعره، ط 1، بيروت، دارالكتب العملية، 1990 م.
ملاحظة
Fatema salahi ez
Graduate Student of Islamic Azad University, Karaj, Iran
.
Department of Arabic language And Literature,Karaj Branch, Islamic Azad University, Karaj, Iran