الاثنين ١ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠٠٤
مهمة الأدب الفلسطيني أن يقول إننا كائنات بشرية لها قلب وأحلام صغيرة ولها أفراحها وأحزانها
بقلم موسى برهومة

حوار شامل مع الشاعر والروائي الفلسطيني إبراهيم نصرالله:

ليس في العالم العربي نجم كامل في مجال الكتابة

يمثل الأديب الفلسطيني إبراهيم نصرالله، حالة متقدمة في الإبداع العربي عموما والفلسطيني على نحو خاص. ولعل سر تميز نصرالله، أنه يكتب بحساسية في الشعر والرواية لم تألفها الكتابة الفلسطينية على هذا المستوى العميق المحتشد بعناصر الاختلاف والمفارقة. كما أن صاحب (الخيول على مشارف المدينة)، وهي مجموعته الشعرية الأولى،متعدد الإبداع، فهو إلى الرواية والشعر يكتب في النقد السينمائي وهو رسام ومصور أقام معارض محلية ودولية في هذين المضمارين. ونصرالله من مواليد عمّان 1953، من أبوين فلسطينيين اقتلعا من أرضهما العام 1948. درس في مدارس وكالة الغوث في مخيم الوحدات بعمان، وأكمل دراسته في مركز تدريب عمان لإعداد المعلمين.

أصدر في الشعر منذ العام 1980 حتى 2001 ثلاث عشرة مجموعة. وفي الرواية له عشرة أعمال منها 5 أعمال في إطار "الملهاة الفلسطينية".

وله في السينما كتاب "هزائم المنتصرين" يرصد في غضونه السينما بين حرية الإبداع ومنطق السوق، وصدرت كتبه في مجملها عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر في بيروت.

نال نصرالله، سبع جوائز عن أعماله الشعرية والروائية من بينها: جائزة الشاعر الاردني عرار 1991، وجائزة الروائي الأردني تيسير سبول 1994، وجائزة سلطان العويس للشعر العربي مناصفة مع الشاعر المصري أحمد عبد المعطي حجازي 1997. ترجمت أعماله إلى الإنجليزية والإيطالية والفرنسية، ونشرت مختارات من قصائده بالروسية والبولندية والتركية والإسبانية والألمانية. هنا لقاء لـ "إيلاف" يطل على مجمل تجربته الإبداعية:

 في روايتك (أعراس آمنة) اخترت موضوعاً صعباً، هو الموت والشهادة، وهو موضوع يغري بالعويل والبكاء والندب والميلودراما، كما يقول القاص الفلسطيني محمود شقير، لكنك ابتعدت ببراعة عن كل ذلك، ورحتَ تستبطن الحالة الفلسطينية التي تقع بين حدَّي الفرح والحزن. وجعلتَ تحاور الموت، لتضيء جانباً جديداً في تجربة الفلسطينيين. ما المسوغات التي دفعتك إلى ذلك؟

ـ ثمة الكثير الذي يمكن أن أقوله حول تجربتي مع كتابي الأخير الذي ضم روايتين من مشروع "الملهاة الفلسطينية" ولكن الأمر الصعب أن أجيب عن سؤال: لماذا؟ لأنه سؤال بلا نهاية. لكنني أحاول لملمة إجابتي لأقول إن فائض الموت هذا كان يلح علي دائما، هذا الموت الذي كان ملعبا للإعلام بكل أشكاله وأسيرا لصورة نمطية جرى ترسيخها بوعي أو من دون وعي، حيث الأم تزغرد والأخت ترقص في استقبال جثمان أخيها، والولد ليس في قاموسه سوى كلمات جاهزة لا تمت بصلة إلى ذلك النشيج الذي يطحن قلبه وهو ينحني قرب وجه أبيه المضرج بالدم. لقد تم ترويج هذه الحالة إلى حد بات على البشر أن يحسدوا الفلسطيني على هذه السعادة الغامرة التي يرفل بأثوابها، سعادة أن لديه عددا أكبر من الشهداء، وباتت الأم التي لديها شهيدان أو أكثر، أشد سعادة من سواها التي ليس لديها سوى شهيد واحد!!

هذه الرواية هي محاولة لقول ما لم يقل في هذه المسألة دون الوقوع في أسر الميلودراما المضادة التي هي بالتأكيد لا تقل فقرا وإفقارا لصورة الفلسطيني كإنسان. وكنت أدرك منذ البداية أن الإقدام على هذه التجربة خطير، وقد قال لي صديقي الدكتور فيصل دراج حين كنت أتحدث معه عن هذه الرواية قبل أن أبدأ بكتابتها: هذا موضوع يتسعه الشعر، وتضيق به الرواية. وقد كانت جملته تحديا آخر لي، وحين قرأ الرواية فيما بعد غيّر رأيه تماما.

ومن ناحية أخرى، كان يشغلني دائما هذا القصور في فهم ما يدور ويحدث في (الآن) العربي، إذ ثمة ترحيل للحياة التي نعيشها إلى زمن آخر، لا بد من مروره لنفهمها جيدا، وهو زمن لا يأتي غالبا، وإذا بقضايانا كلها تصبح مؤجلة: النكبة والنكسة والانتفاضة الأولى والثانية وحروب الخليج.. كأننا ككتاب نعيش خارج زماننا لأننا لا نملك جرأة ترميم الواقع بخيال خصب يغنيه ويرفعه من اليومي إلى الإنساني، وهذه صفة قاتلة في الكتابة العربية.

هذه الرواية بشكل أو بآخر تأمل في حياة البشر وهم يعيشون، وهم يصرون على أن يواصلوا الحياة بعيدا عن الأقنعة الاسمنتية الضاحكة التي ُصبَّت فوق ملاحهم رغما عنهم. إنهم يبكون ويضحكون ويتذكرون الشهداء وينسونهم أيضا ويحبون ويبغضون..

 ما داموا هكذا لماذا صمتت أم الوليد في رواية "تحت شمس الضحى" أربعين عاما حتى نطقت بكلمة (أحبك) وحتى طبعت "قبلة من القلب" على خد زوجها الستيني الذي صار بعد (أحبك) أخفَّ من فراشة؟ ولماذا فرضت الكتابة الفلسطينية بعامة سياجا على مشاعر الناس، وسجنتها في زنزانة المقاومة والكفاح وتحجر الأحاسيس. هل يقلل الحب من قيمة الكفاح. أليس المناضلون العظام في التاريخ عشاقا عظاما أيضا؟
 ليست هذه حالة فلسطينية صرفة، إنها حكاية عربية، وأكاد أقول إنسانية، إنك تسير في شارع فتسمع شتائم من كل نوع يوجهها البشر إلى بعضهم بعضا، ولكن هل سمعت زوجا يقول لزوجته بصوت عال وهو في الشرفة وهي في الشارع: أحبك!!، طبعا لا، كل الأشياء الجميلة نخجل بها كبشر ونفكر فيها ألف مرة، في حين أن ارتكاب جريمة لا يحتاج أحيانا إلى عشرة بالمائة من هذا التفكير.

في الرواية يحمل ياسين باقة ورد، من رام الله إلى قريته، وتكون باقة الورد شيئا مستهجنا، الجميع ينظر إليه ويحلل ويبحث عن سبب، ولو كان ما في يده (فجلا) أو (بصلا) لما انشغل واحد من ركاب الحافلة بهذا الأمر.
في الحقيقة، ما يحدث للإنسان الفلسطيني هو ما يحدث للكاتب الفلسطيني، فالإنسان الفلسطيني يجرد اليوم من حقه في أن يكون إنسانا يحب ويتزوج ويربي أولاده، يغضب ويفرح، وينام ويصحو. قبل ربع قرن كتبت قصيدة عنوانها "الصقيع" تتحدث عن رجل يحس بأن أجزاءه تتكسر بسبب فراق امرأته، أذكر في تلك الأيام أن قيامة بعض النقاد قامت ولم تقعد، إذ كيف للشاعر أن يحب؟!!

كل ما نكتبه هو مقاومة لفكرة تسعى إلى تنميطنا وتحويلنا إلى تماثيل تمتشق السيوف أو الحجارة في أيديها الملوحة، وإذا كان من مهمة للأدب الفلسطيني فهي أن يقول إن الفلسطيني كائن بشري له قلبه وأحلامه الصغيرة وله أفراحه وأحزانه، أن يقول إن الأم التي تزغرد في جنازة ابنها الشهيد هي الأم التي تبكيه بكاء لا يتصوره العقل حين يغادر الناس.

وفي اعتقادي ما كان يمكن لهذا الشعب أن يقاتل أعداءه، أو أولئك الذين يتناسلون من رحم أعدائه، لو لم يكن يحب الحياة فعلا، وإلا عن أي شيء يدافع هذا الشعب، منذ أكثر من مائة عام، إن لم يكن يدافع عن جمال هذه الأشياء. وهل هناك سبب مقنع لهذا التعلُّق بالحياة أكثر من إدراكه العميق لكل ما هو إنساني ورقيق وجميل وحر فيها؟.

ما هو الشيء الذي يجبره أن يدفع هذا الثمن الباهظ سوى أنه يحب أشجاره وحديقته وغناء الطير في الصباح على حافة نافذته ويحب أطفاله ومستعد لأن يفعل المستحيل كي تكون طريقهم للنشيد المدرسي محفوفة بالأزهار لا بفوهات بنادق الجنود؟.

ولذلك يمكنني القول إن كل كتابة كانت تجرد الفلسطيني من هذه الأحاسيس كانت تجرده في الحقيقة ومن دون أن تدري من حقه في الحياة، وكانت تمهد الطريق لقاتله كي يقتله من دون أن شعور بالذنب، كانت تحوله إلى رقم، مجرد رقم، في حين يعمل عدوّه على أن يكون كل فرد يموت من أفراده خسارة للبشرية جمعاء!!

 شاركتَ في معرض فرانكفورت للكتاب الذي احتفى بالثقافة العربية على نحو خاص. وثمة من يرى أن المشاركة العربية كانت رمزية وأن الاستعدادات ُسلقت على عجل. هل استطاع هذا الحدث أن يصنع معجزات لبعض الكتاب العرب الطامحين نحو العالمية؟
ـ ما أراه، أننا ذهبنا إلى فرانكفورت حاملين حصاد السنوات الطويلة الماضية، وليس ثمة معجزات يمكن أن تحدث غير تلك التي تحققت، أي التي أنجزتها الثقافة العربية في حالاتها الناصعة.
لكنني أرى بالمقابل أن مجموعة عوامل ستؤثر على حجم النتيجة وأهميتها، بعضها في أيدينا وبعضها في أيدي أولئك الذين يمكن أن يُقبلوا على ترجمة أعمالنا، فإذا لم يتخففوا من نظرتهم المسبقة والجاهزة التي ترانا كما تتخيلنا أو كما تريدنا أن نكون لا كما نحن، فإن القادم هو استمرار لاحتضان كتابة عربية مراوغة تسيء للعربي وتنمطه وتمهد (لتحضيره) أي سحقه وتطويعه أكثر فأكثر.

لست متفائلا، كما أنني لا أريد أن أتشاءم، لكن أكثر ما أخشاه أن يساهم السباق باتجاه (العالمية) التي يحلم بها كثيرون إلى تفريغ أكثر للكتابة العربية من أسئلتها الكبرى باتجاه جرها نحو فولكلورية فقيرة ووصفات جاهزة لذائقة الغرب.

من هنا يمكن أن أنظر إلى فرانكفورت بخطورة، إذا ما تحوّل إلى حد فاصل بين زمنين: زمن تشهّي الانتشار سابقاً، وزمن الرغبة بتحقيقه بكل وسيلة، لاحقا، وبخاصة حين أتذكر أن الثقافة العربية عانت في السنوات العشرين الماضية من أمراض كبرى، منها تضخم الذات والاستعداد لنفي الكتّاب لزملائهم، ورواج ثقافة الثرثرة والفهلوة..

 يبدو المثقف العربي غائبا إزاء ما يحدث الآن من غزو للعراق وانتهاك لكل القيم في فلسطين وتهديد سوريا ومعاقبة السودان، والتلويح بتهديد السعودية وسواها. هل استقال المثقف من دوره، أم أنه يحسب نفسه قارض شعر أو صائغ روايات أو مدبج مدائح فقط؟

ـ كما أشرت، يبدو أن كثيرا من المثقفين غير مشغولين اليوم إلا بما يمكن أن يتحقق لهم من مكاسب، فالغاية تبرر الوسيلة، وليس ثمة وسائل يمكن أن يُنظر إلى التعامل معها بخجل، كما أن المشاريع الجماعية مفقودة، ولم يعد لدينا سوى بعض المشاريع الفردية التي غالبا ما تُحاصر، وإذا ما حققت حضورا ما فذلك ينتمي لعالم المصادفة أكثر مما ينتمي لأرضية ثقافية قادرة على احتضان كل ما هو جميل وحر.

 يقول الشاعر الفلسطيني سميح القاسم في حوار أجريتُه معه ونشر في (إيلاف) أخيرا: " حيث أكون تكون القصيدة العربية " للوهلة الأولى، وبصراحة، بماذا يذكرك هذا التصريح وإلامَ يحيل؟

ـ ذات يوم قال الروائي المكسيكي العظيم كارلوس فوينتس عن زميله غابرييل غارسيا ماركيز "حينما قرأت المائة صفحة الأولى من كتاب (مائة عام من العزلة) بدأت سريعا في كتابة ما أحسست به قائلا: لقد انتهيت للتوِّ من قراءة الإنجيل الأميركي اللاتيني، وأحيي فضلا عن ذلك العبقرية الحارة والمؤثرة لأحد أصدقائي الأكثر حميمية ". ويضيف: "أتذكر قولة شهيرة لماركيز في أحد الأيام التي كنا نسافر فيها معا: إننا جميعا نكتب الرواية الأميركية اللاتينية نفسها، بفصل كولومبي من قلمي، وفصل مكسيكي تكتبه أنت، وفصل آخر يكتبه الأرجنتيني خوليو كورتثار، وفصل آخر يكتبه الكوبي أليخو كاربنتيني، وفصل يكتبه الشيلي خوسيه دونوسو".
ويضيف فوينتس: "إن ما هو أساسي يوجد هنا، فطيلة حياته كان غابرييل مرفوقا بالمحبة والمودة نحو أصدقائه. لقد احتفلنا جميعا بانتصاراته الكبيرة كما لو كانت نجاحات شخصية". ولذا، ولفرط محبتي للأستاذ سميح القاسم- وأنت تعرف أنه أطلق على ابنه الأول اسم (وطن محمد)- أقول: (يحق لأبي وطن ما لا يحق لغيره).

 حققت رواياتك وكتبك أعلى المبيعات في معرض البحرين الدولي الأخير للكتاب وكذلك معرض الكويت، كما تحقق "الملهاة الفسطينية" منذ أعوام حضورا يزداد اتساعا، ماذا يعني لك هذا الأمر؟
ـ ربما كان الأمر يشبه إلى حد بعيد سعادة الفلاح الذي يزرع شجرة ويعمل طويلا على رعايتها، وفجأة يراها تورق وتزهر ويجلس في ظلها، في ظلها دائما لا فوقها، قد يرى هذا في حياته أو لا يراه، لكن ذلك لا يقلل من معنى شجرته، أو من معنى الإيمان الذي دفعه ليغرسها. لا شيء يشبه الكتابة أكثر من زراعة الأشجار في اعتقادي، هي لك وقطعة من روحك، ولكنها لسواك، ولن تعرف أبدا ما الذي يمكن أن يولد تحتها، أو عدد الطيور التي ستبني أعشاشها وتغني فوقها.. وهل هي ولدت حقا، وإذا كان ذلك فكم ستعيش، ومتى ستموت..

بالنسبة لي يسعدني أن هذه الشجرة لم تعد لي، إنها للآخرين، وبالقدر الذي تصبح فيه جزءا منهم، فإن الأمر يغدو أكثر جدوى، لأن النص يغدو أكثر حياة، فدائما اعتبرت قلب القارئ هو المكان الوحيد الصالح لزراعة الكلمات، وفي الحقيقة أرى أن كل نص لا يجد مكانا له في وعي البشر ووجدانهم، هو نص يتيم.
سبق لـ "طيور الحذر" أن صدرت في ثلاث طبعات خلال أربعة أعوام، ومعها رواية "طفل الممحاة"، وهما تشكلان مع "زيتون الشوارع" و "أعراس آمنة تحت شمس الضحى" جزءا من مشروعي الروائي "الملهاة الفلسطينية"، وأسعدني أن هذا المشروع يستقبل بهذه الحفاوة من القارئ العربي، بعيدا عن الحديث المستمر عن أزمة القراءة، وعندما أنظر لبعض أعمالي وهي تصدر في طبعة خامسة، يعني أن كل ما أؤمن به وتحتضنه كتابتي يصل إلى عدد أكبر من الناس، وكلما ازداد هذا العدد فرحت أكثر، لأن هذه الكتابة تحتضن مشروع حياة وإيمانا بالجمال والحرية وكرامة البشر وحقهم في أن يكونوا بشرا فوق التراب لا تحته.

 صارت رواياتك الأخيرة مهجوسة بشكل أساسي في تأريخ التهجير والمأساة والاقتلاع الذي تعرض له وما يزال الشعب الفلسطيني. إلى أين سيقودك هذا الشغف؟
 هناك حكاية كبرى، هي الحكاية الفلسطينية، يقال إنها لم تأخذ مداها في الكتابة الروائية الفلسطينية، والعربية بما يليق بها، وفي هذا القول شيء من الصواب، وشيء من الخطأ بالمقدار نفسه، لأن بعضه يصدر عن جهل، وبعضه استسلم لهذه المقولة منذ أوائل السبعينات ربما، ولم يكلف نفسه عناء اختبار مدى صدقها، لكن السؤال يبقى مشروعا، لا لشيء، إلا لأن الحكاية الفلسطينية أكبر من أن يحيط بها عمل واحد، وفي ظني أن أي قضية يحيط بها عمل إبداعي واحد وحيد هي قضية فقيرة، ولا أظن ذلك ينطبق على قضية مثل القضية الفلسطينية.
منذ أواسط الثمانينات، بدأت العمل لإنجاز رواية تستطيع قول شيء في هذا المجال، وقد التقيت عددا كبيرا من الناس وسجلت عشرات الساعات من الشهادات، وكلما كنت أتقدم في المشروع، كنت أراه أكثر اتساعا مما ظننت، لأنني بدأت أعيه أكثر خلال العمل فيه، لا من خلال النظر إليه من الخارج فحسب. ولذا فإن أول فكرة حملتها حول هذا المشروع كانت أول فكرة تموت حين بدأت العمل عليه، لأنني تصورت خطأً أنني سأكتب رواية واحدة تقول الحكاية، وهكذا تطور الأمر وأصبحت على قناعة بأن الفكرة الأكثر معقولية ربما، تكمن في وجود عدد من الأعمال الروائية التي تشكل بمجملها هذا المشروع، بحيث يكون لكل رواية شخوصها وأجواؤها وشكلها المختلف ومكانها وزمانها أيضا، وبالقدر الذي وجدتُ هذا الشكل أكثر أمانة للموضوع، فإنني وجدته أكثر تلبية لطموح الكاتب في داخلي، حيث بإمكاني أن أتحرك ككاتب أيضا بعيدا عن الانحسار داخل شكل روائي، ربما يكون ثلاثية أو غير ذلك، بمعنى أنه أصبح بإمكاني أن أظل متيقظا فنيا وعلى مدى سنوات طويلة، أن أمارس ذاتي الكاتبة في سعيي لتقديم أشكال جديدة، وسرد مختلف بين رواية وأخرى، بدل أن أتكلس لسنوات داخل شكل واحد، لأن عملا كهذا هو مشروع عمر.

ولعل فكرتي حول شكل الرواية وعلاقتها بالزمان والمكان، أملت عليّ مثل هذا الحل أيضا، لأنني لا أعتقد أن إيقاع الحياة في الأربعينات والثلاثينات، وإيقاعه في الثمانينات والتسعينات وبدايات هذا القرن هو نفسه، وبالضرورة، يحتم علينا إيقاع زماننا ووقعه أيضا ضرورة البحث عن عمل مختلف يكون شكله جزءا من معناه وليس عالة عليه.

أما أين سيقودني هذا الشغف، أرى أنه حتى الآن قادني نحو خمسة أعمال روائية، وإذا ما سارت الأمور في الاتجاه الذي أتمناه فقد تكون هناك ثلاث أو أربع روايات أخرى.

 تغير شكل الرواية كثيرا. صارت معنيّة بشكل أساسي بالتفاصيل الصغيرة التي تصنع ملحمتها، ولم تعد القضايا الكبرى هاجسا يستحق إيلاءه شأنا مهما. الملحمية ذهبت باتجاه الأقدار البسيطة التي تصنع أسطورتها. هكذا كان الفتى الصغير في "طيور الحذر" يصنع أسطورته وهو يعلّم الطيور كيف تتجنب الوقوع في الفخاخ وشباك الصيادين؟
ـ أشكرك على هذه الملاحظة التي تتيح لي أن أقول شيئا آخر إلى ما سبق وقلته حين تحدثت عن "الملهاة الفلسطينية"، وهذا الشيء يتمثل في محاولتي التحرر من سطوة الفهم العام للحكاية الفلسطينية الذي يعيدها إلى مفردات جاهزة، أصبح هناك حذر نقدي وعلى مستوى الذائقة في التعامل معها، كما لو أن المباشرة والتأريخ الفج لفصول هذه التراجيديا الكبرى هو الذي يسم ما كتب أو سيكتب من روايات أو شعر حولها.

واسمح لي أن أبوح بشيء آخر وهو أن أصعب ما في كتابة الحكاية الفلسطينية هو أن عليك أن تكون ضد الذاكرة الجاهزة، والصورة القارّة في ذهن الناس عنها، ولا أبتعد كثيرا إذا ما قلت أنك تكون مضطرا ككاتب أن تكون ضد الشهادة التي تتكئ عليها، لا من المنظور التاريخي بل من المنظور الفني، بمعنى أنك تكتب لتكون أحيانا ضد الذاكرة الجاهزة كي توجد ذاكرة فنية، أي أن تحرر الشاهد من شهادته وأنت تلقي بكل زوائدها وتقودها لمعناها، وتحرر نفسك ككاتب، لأنك لست في النهاية مدون أحداث وسِيَر.

هذه الهواجس لا أبالغ إذا ما قلت إنها عذبتني طويلا، لأنك لا تستطيع أن تكون مخلصا لقضية كبرى كالقضية الفلسطينية وأنت تكتب عنها، إلا إذا كنت مخلصا لتاريخ الرواية العالمية العظيم ولمنجزها، ولما يولد اليوم من أعمال كبيرة في مجالات الفنون، وبخاصة السينما.

هكذا ذهبتْ، ربما "طيور الحذر" نحو ذلك الطفل الذي يعلم الطيور الحذر كيلا تقع في فخاخ الأولاد الآخرين عاقدا حلف الطفولة والجناح، وهكذا الأمر مع "العريف فؤاد" في رواية "طفل الممحاة"، وهكذا الأمر مع "زينب" و"سلوى" في "زيتون الشوارع"، و"آمنة" و"وردة" و"ياسين" في "أعراس آمنة" و "تحت شمس الضحى" لأن إدراك الحياة في الرواية لا يمكن أن يكون إلا بإدراك التفاصيل، والعلاقات العذبة والجارحة، المضيئة والمعتمة فيما بينها، أما القول الكبير الذي لا يقدم شيئا رغم إشارته للمكان والزمان بدقة متناهية وكذلك للشخوص فيمكن أن يكون في أي كتاب من كتب التاريخ أو أي صحيفة يومية.

ولذا أكتب ربما ضد الفكرة السائدة التي تحرم القضايا الكبرى من أن يكون لها تفاصيلها، هذه التفاصيل التي حينما تحضر تكون القضايا الكبرى ظلالا لها لا غير، سواء كنا نتحدث في الحب أو الحرب أو الموت أو الاغتراب أو ما تحتضنه القضية الفلسطينية من أسئلة. لأن البشر هم الذين يحضرون، ولأن البشر هم الذين طردوا دائما من كتاب يومهم ومن كتب التاريخ الرسمي، وجوهر معنى وجود الرواية أن يكونوا سكانها.

 ولكن انتاج رواية مختلفة ترصد التاريخ الجمعي لحكاية المنفى يحتاج إلى جهد توثيقي كبير. كيف تتعامل مع هذا الأمر. ومن أين تستمد تلك المرجعية وما هي مصادرها؟
ـ إضافة للشهادات الحية التي سجلتها، وكنت أوجهها الوجهة التي تحتاج الكتابة إليها، كما لو أنني أقوم بعملية مونتاج فورية، أي أن الوعي الفني كان حاضرا ويلعب دوره لحظة بلحظة، وكانت النتيجة أكثر من ألفي صفحة شهادات، هناك عشرات المراجع التاريخية وعشرات المذكرات والدراسات التي تناولت أدق التفاصيل في الحياة الشعبية الفلسطينية ومعتقدات الفلسطينيين من نظرتهم إلى بيت النمل إلى تصوراتهم للموت والحياة، وهناك شيء آخر مهم، بل لعله الأهم في النتيجة النهائية، وهو أنني عشت ما يقرب من الخمسة عقود في رحم هذه التفاصيل، ولا أبالغ إذا قلت إن أبي وأمي وأجدادي نقلوا إلي ذاكرة أخرى تشكلت لديهم قبل مولدي ولا يقل عمرها عن خمسين عاما أيضا، وحين أتأمل الأمر كله أجد أن فصول الحكاية الفلسطينية هذه هي حياتي الفعلية.

 رغم إقامتك في مكان نادرا ما يصنع نجومه على مستوى الكتابة الإبداعية، إلا أنك تمكنت من كسر نطاق المحلية وصارت أعمالك الشعرية والروائية تتداول على نطاق عربي، ولا يشاركك في هذا الأمر، على صعيد الرواية، سوى الراحل مؤنس الرزاز. من الذي يصنع الحالة الكاتب أم المكان أم ماذا؟
ـ لنعترف أن للمكان سطوته، لأن كل مركز من مراكز الثقافة العربية يملك سلطته الثقافية والتاريخية والإعلامية، ولذا بقي الأدب الذي يكتب بعيدا عن المراكز الرئيسة: القاهرة، بيروت، بغداد، في الظل دائما، باستثناءات قليلة بدأت تتضح مع مطلع الثمانينات، بعضها يعود لوجود كتابات حقيقية، وبعضها يعود لنمط من أنماط العلاقة الاجتماعية بين الكتاب أنفسهم، دون أن ننسى أن هناك مصالح بحتة أوجدت كتّابا بكامل أسمائهم، لكنك تكتشف حين تبحث عنهم أن صورهم وأخبارهم متوافرة بعكس إنجازهم، لا على المستوى الثقافي الفعلي بل أيضا على مستوى ما يمكن أن يعنيه الكتاب للقارئ، أي قارئ.

لكنني أرى أيضا أن الكاتب بإمكانه أن يصنع الحالة، رغم أن المكان يلعب دورا سلبيا في أحيان كثيرة، وأظن أن كثيرا من الكتاب العرب خارج المراكز، لو كانوا أبناء للمراكز، رغم كل ما اعتراها من فقدان الثقل، لكان حضورهم أوسع ولا يقاس بحضورهم الحالي.
وفي ظني أن تراجع بعض أدوار المراكز الثقافية العربية سياسيا، أوجد مساحة لبعض العواصم التي تعتبر خارج ما يعنيه المركز، أن تقدم ما لديها بصورة معقولة، وبالقدر الذي ضاق فيه النقد الأدبي واتجه نحو قطرية ضيقة أحيانا، تعورب الإعلام بوجود نمط جديد من الصحافة، المقروءة والمرئية، وتعوربت دور النشر أيضا، وظهرت دور نشر ذات تأثير بالغ خارج المراكز، وأصبح بإمكان الكتّاب الذين يقدمون اقتراحات فنية حقيقية أن ينشروا في أكثر من عاصمة وأن ينتشروا أيضا. وأتيح للكاتب خارج المراكز أن يكون حاضرا بصورة معقولة، أو جيدة. وساهمت بيروت دائما، كعاصمة للنشر بالدَّور الأهم، حتى في أصعب ظروفها. لأن مفهوم صناعة الكتاب فيها في اعتقادي كان الأنضج، ولم يكن أسير ما يسمى القطاع العام في أي مرحلة من مراحله، أو أسير فكرة القطرية.

وإذا ما عدت لبداية السؤال، وما يمكن أن ندعوه كاتبا نجما، فأظن أن ليس في العالم العربي نجم كامل في مجال الكتابة، هناك نجوم غناء من الدرجة الأولى والدرجة العشرين وجمهورهم يستوي في المدرجات!! وإذا ما تحدثنا بجدية أكبر، فيمكننا القول إن كتابا واحدا لكاتب مثل باولو كويلهو يفوق عدد نسخ توزيعه، كل ما يطبعه كتابنا العرب في ثلاثين أو أربعين عاما. رغم أننا أمة الثلاثمائة مليون، وهناك عدد لا يقل عنهم يعرف العربية في العالم الإسلامي ربما. هذا كاف في اعتقادي لكي يعيد أي كاتب إلى تواضعه، من حيث انتمائه لفئة النجوم.
في العالم العربي هناك كتاب محترمون ومهمون، ولا يقلّون مستوى عن كثير من كتاب العالم، لكن فكرة وجود نجم، فكرة لا تستهويني كثيرا، إذا ما تعلقت بي على الأقل، وأفضل أن أحظى باحترام القارئ، رغم أنني فرح أيضا بعلاقة القراء الواسعة مع كتبي. وكذلك الأمر بالنسبة للأطروحات الجامعية الكثيرة التي تناولت تجربتي الشعرية والروائية سواء أكانت في أوروبا أو العالم العربي، وكذلك ما تحقق من ترجمات.

 ما الذي أضافه إليك فوزك بجائزة العويس الشعرية العام 1997 التي تعد أرفع جائزة أدبية عربية؟
ـ قبل قليل كنا نتحدث عن المراكز، وعن المكان ودوره، لكن مسألة لا تقل عنهما تأثيرا تسكن الواقع الثقافي العربي، وتتمثل في مسألة الأجيال، ورغم أنني أدين لكل من كتب رواية أو قصة أو قصيدة رائعة بغض النظر عن عمره، إلا أنني أعتقد أن الأجيال اللاحقة لجيل الرواد، ظل النقد الكسول يتعامل معها بحذر، وبخاصة في مجال الشعر، وأظن أن منحي جائزة سلطان العويس، كان إنجازا مهما ليس لي، بل لجيل السبعينات، وما تلاه بأكمله، لأنه أول اعتراف كبير بأن هناك منجزا أضاف لتجربة الرواد وجاورها. وجائزة سلطان العويس بالمناسبة من الجوائز النادرة بل الأندر، التي أعادت النظر للإبداع بحيث أصبح المستوى هو الأساس، وليس العمر، أو الثقل الثقافي للبلد الذي ولد فيه الكاتب.

ولذلك، لم أزل أنظر إليها باعتبارها ليست تكريما لشعري فحسب، بل تكريما لشعراء كثيرين ومن مختلف الأجيال، كان فوزي بها يعني أنهم يستحقونها. وإلى ذلك، وعلى المستوى اليومي، رتبت هذه الجائزة بعض أموري الحياتية البسيطة والأولية، وأتاحت لي مساحة أوسع للكتابة، وأظن أن أهم اعتزاز من قبلي بهذه الجائزة يتمثل في أنني لم أحولها إلى حفل وداع لي ككاتب، بل أضحت بداية جديدة.

ولا أكتمك أن أكثر ما أفرحني أن لجنة الجائزة نفسها أقرت تعديلا فذا، ومبدعا، وأرسلت رسالة بليغة عبره، حين فتحت المجال لمن فاز بالجائزة أن يتقدم لنيلها مرة أخرى، بإنتاجات كتبها خلال السنوات العشر التالية لنيله لها. ومصدر البلاغة في نص كهذا، هو أن لجنة الجائزة قالت بوضوح، إن منحكم الجائزة يعني أن تواصلوا ما أهّلكم أن تكونوا من حامليها، وأن التكريم لا يمكن أن يكون بيان إعلان النهاية.

 في مجموعتك الشعرية الأخيرة "مرايا الملائكة" ذهبت نحو المنطقة الملتهبة وعاينتها بخفر شديد،إذ قبضت على حادثة قتل الطفلة الفلسطينية الرضيعة إيمان حجو وهي في قمة سخونتها. حوّلت المأساة شعراً. أي انك كتبت في لحظة التوتر العالي الذي غالبا ما يصيب الشعر بالمباشرة والتقريرية، ولكنك تمكنت من تجنب هذه الفخاخ، كأنما لذت بحكمة صغيرك في "طيور الحذر". ألم يكن في مقدورك الصبر حتى يزول التوتر؟
ـ أبدأ من النهاية لأقول: إنني لو لم أكتب رواية "طيور الحذر" لكان متعذرا عليّ كتابة "مرايا الملائكة" لأن طيور الحذر كانت بوابة الدخول لعالم الطفولة، وخصوصا فصلها الأول الطويل الذي أتتبع فيه حياة الطفل داخل رحم أمه.

أما فيما يتعلق بهذا العمل الشعري فأحب أن أضيف: لم أكتب ديوانا بأكمله يقع في مائتي صفحة تقريبا مكوّن من إحدى وثلاثين قصيدة لأقول إنني متوتر ومنفعل، كان يمكن أن أكتب قصيدة واحدة وأفرغ هذا التوتر، أو مقالة، وهو أمر إنساني مشروع. بالنسبة لي كانت المسألة أكبر بكثير من هذا، كانت مساحة شائكة لمحاورة فكرة العدالة وحق البشر في أن يكونوا جميلين دائما، وليس في موتهم فحسب، هل رأيت مدى جمالها حتى في موتها؟ ليست هذه مصادفة في اعتقادي، أبدا، لأنني أحسست أنها تقاوم بجمالها الموت ولا تريد أن تستسلم له، وقد فهمتها، ولذلك كتبت سيرتها، أردت أن أعطيها الفرصة التي لم تمنح لها أبدا: أن تتكلم، وتحلم، وتمشي وتحب، وتخاف قبل أن تموت، هل تتصور، انها حُرِمَتْ حتى من حقها في الخوف. كان من حقها أن تخاف على الأقل. وقد كتبتُ لأمها حين أرسلت لها النسخة الأولى من الديوان، وقلت بأن ابنتك انتقلت إلى رحمي، كما لو أنني أنتِ، لأنني لا أقبل أن يكون القبر رحم هذا الجمال، حتى لو كان هذا القبر من تراب فلسطين نفسها، ومن عشبها وظلال أشجارها. وأجمل ما قالته لي أم إيمان حين اتصلت بي وزوجها: حين قرأتُ الديوان أدركتُ أنهم لن يستطيعوا قتلها مرة أخرى أبدا.

كل ما كنت أعرفه عن إيمان هو وجهها، واسمها بالطبع، أما الآن فتغير كل شيء، حين تأسست سيرتها، وحياتها في القصيدة مرة أخرى، أعرف الآن والديها أكثر، رغم أنني لم ألتق بهما، وأعرف سريرها، وأحلامها، وملاكها الصغير الذي يقاسمها حياتها الجديدة في هذه السيرة، والذي لا يقل تراجيدية وألفة وحيرة وجمالا عنها، وهو يبحث عن مصيره وغربته، وهي تسأله إذا ما كان يعرف طوال الوقت أنهم سيقتلونها. الملاك الذي يقول لها: إن رحلت سأبقى هنا لا أحد.

لكل إنسان ملاك يحرسه، هل سنبتعد كثيرا إذا ما قلنا إن لكل ملاك إنسانا يحرسه أيضا، إنسان له وحده. لأول مرة أفهم فعلا أن الشعر يمكن أن يكون ضد الموت بكل أسبابه إلى هذا الحد. وأصارحك بأنني كنت أدرك أن طفولة بهذا الجمال ليس مسموحا لي في حضرتها سوى أن أصلي، ولذلك كنت أحرص على كل مفردة في الديوان، كي لا تعكر أي كلمة هذا الجمال، هل أقول: النائم؟.

وهناك مسألة أخرى، وهي أن علاقتنا الوجدانية بمسألة قتل أطفالنا ليست بجديدة، تماما كمسألة هدم بيوتنا هناك، واغتيال أجمل خيولنا، لذلك أقول: من يستطيع أن يجزم أن إيمان حجو لم تقتل في دير ياسين، أو كفر قاسم أو صبرا وشاتيلا أو بحر البقر أو قانا، أو بعد مقتلها حين تطاير إلى السماء خمسة تلاميذ كانوا في طريقهم لمدرستهم مثلا؟. لذلك أقول إن إيمان ليست مناسبة، وليست لحظة توتر لأي شاعر يعي ربع أو عشر المعنى العميق للحكاية الفلسطينية، لأن فلسطين نفسها ليست مناسبة، إنها تراجيديا كبرى تجاوز عمرها الآن مائة عام كما أشرت، ولكن اسمح لي أن أقول هنا إن هذا الديوان هو أخطر تجربة شعرية عشتها، وقد كنت أدرك منذ انتهيت منه أنه سيجعلني أصمتُ طويلا، وهذا ما حدث، لأنني منذ ثلاث سنوات لم أكتب سوى قصائد قليلة هي بمثابة تجارب لا أكثر.

 ولكن هذا العمل أثار حفيظة أحد النقاد، وقدم بشأنه تساؤلات عديدة. هل أفادك ذلك أم أنه لامس التجربة من بعيد؟
ـ بعد صدور الديوان عقدت جمعية النقاد الأردنيين ندوة شارك فيها ثلاثة نقاد، وقُدِّمت قراءات مهمة في اعتقادي، وبخاصة للجانب الفني في الديوان، وذلك المتعلق باستعارة تقنية تعدد الأصوات في الرواية، وتوظيفها في بناء عمل شعري، وصدقني أنني منذ زمن طويل أتقبل كل ما يكتب عن أعمالي، رغم أنني لا أرى أن النقاد دائما على حق. وأرى أن هناك تسرّعا في الكتابة عن الأعمال الإبداعية يوصل بعضهم إلى نتائج محزنة.
فصديقي الناقد، وهو فعلا صديق، الذي أشرت إليه، استنكر أن إيمان لم تحاور أو تحاكم قاتلها في هذا العمل، ولو قرأه بدقة لوجد أنها لا تحادث حتى والديها، والحوار الوحيد الذي يدور في الديوان يكون مع ملاكها، وهذا هو المنطق الفني الداخلي لهذا العمل، فـ (شارون) يمكن أن يُحاكم في لاهاي، أو في بروكسيل وليس بوسع إيمان حجو أن تفعل ذلك، فهناك تكون المرافعات، أما هنا فلا شيء غير الصلاة، أو الكلمات التي تستحق جدارة مجاورتها.
ثم إن صديقي الناقد تحدث عن كوني أتعامل مع الفلسطينيين كلهم باعتبارهم ملائكة، في الوقت الذي لا مكان في الديوان سوى لإيمان، إنها شخصية، هل أقول روائية. ولم تراودني في أي يوم فكرة أن الفلسطينيين كلهم ملائكة، وهم لن يكونوا، لأن أي وعي من هذا القبيل هو وعي قاصر، فكل التضحيات التي تقدم منذ مائة عام لا تقدم إلا لشيء واحد هو أن يثبت الفلسطيني أنه من البشر وله حقوقهم، وقد سألت ابني وهو في العاشرة من عمره بعد الندوة: هل تعتقد أن الملائكة كلهم ملائكة؟ فأجاب: بالطبع لا، لأن منهم إبليس. وكنت (سأزعل) عليه بالطبع لو كان وعيه أقل من هذا.

أما الأدهى من ذلك، فهو أن صديقي الناقد أخطأ حتى في اسم الديوان الذي يقدم دراسة فيه، أو حوله، فأطلق عليه اسم "ملائكة العراء" حين اختلط عنوانه في ذهنه بعنوان مجموعة قصصية لصديقنا إلياس فركوح عنوانها "الملائكة في العراء". هل أقول هذا هو الاستسهال؟!.

ليس النقاد دائما على حق، يمكن أن يكونوا غالبا على حق، فأحدهم كتب ذات يوم عن رواية لي: كيف يسمح الروائي لنفسه أن يحول السيكولوجي إلى فسيولوجي، فسألته: ألم يسبق لك أن خجلتَ فاحمرّ خدّاك؟!

 تعيد كتابتك لحكاية الطفلة إيمان ومن قبلك كتابة الشاعر محمود درويش قصيدة عن الفتى الفلسطيني الشهيد محمد الدرة تساؤلات كثيرة حول دور الشعر وتأثيره في القضايا اليومية التي تهز الضمير. حيث يعيب بعضهم على المبدعين أن يتواصلوا مع هذه القضايا وينخرطوا فيها بدعوى الخشية من الوقوع في منبرية الخطاب. بأي معنى تنظر إلى هذه الإشكالية؟
ـ لست ضد شيء هنا سوى العمل السيئ، وكما أشرت فإن فهمي للحكاية الفلسطينية، لا يقوم على أنها مناسبة، فليس قتل طفل أو اقتلاع شجرة أو هدم بيت، أو ساعة الرعب التي تحتل قلب رجل أو امرأة أو طفلة في ليلة قصف، مناسبة.

الاحتفال بافتتاح مدرسة، أو الانتهاء من شق طريق، مناسبة، عيد الجلوس وتولي شؤون الحكم مناسبة، إعمار مطار أو ميناء أو حتى محطة صواريخ ومركبات فضائية، مناسبة، وشق نفق مناسبة. أما مقتل طفل فهو بالنسبة لي قضية كونية أبيح لنفسي فيها أن أحاور عدالة الأرض وعدالة السماء أيضاً.
وفي ظني أن فكرة المناسبة غير مطروحة أصلا في آداب الشعوب الأخرى، أو على الأقل لم أسمع بها، ولم أسمع بمهاتراتها إلا هنا في العالم العربي. ذات يوم أمضى جان جينيه ست ساعات في صبرا وشاتيلا، فأبدع نصا مذهلا، من أجمل ما كتب عن المأساة الفلسطينية، وعاشت صحفية أميركية عدة أشهر في الضفة وغزة، خلال الانتفاضة الأخيرة، وكتبت رواية مهمة هي "معبر الشهداء" وقبل ذلك بزمن طويل جدا كان هوميروس يكتب الإلياذة والأوديسة ولا يشير له أحد مستنكرا: إنه يكتب بمناسبة حرب طروادة، وبعده بآلاف السنوات كتب فوركور رواية "صمت البحر" وبساطير الجنود الألمان تذرع شوارع باريس، ودباباتهم تجعل التراب يتساقط فوق رأسه في قبوه أثناء كتابته للرواية، ورسم بيكاسو "الجرنيكا" جدارية من أكثر أعماله حضورا وفنية. يحيرني أن مقياس الحداثة يزداد في عالمنا العربي ويقل بمقدار تنكر الكاتب لقضاياه المصيرية. أن تطالب كاتبا بالتخلي عن الحياة، عرقها ولوعاتها ومآسيها، وبهجتها المسروقة، في شعره كي يكون شاعرا، أشبه ما يكون بدعوة الشاب الذي يريد أن يصبح فارسا أن يتخفف من حصانه كي يكون ذلك الفارس المنظر، لأن الحياة هي التي تملك في النهاية حق التخفف ممن تريد، أو مما تريد، والحصان هو الذي يملك حق التخفف من ذلك الذي يجثم فوق ظهره، إذا شعر بأن ما فوقه ليس أكثر من كتلة لحم تحد من كونه حصانا، وليس العكس. نحن ككتاب لسنا أكثر من ضيوف على مائدة هذا الصهيل أو الجموح أو المدى اللانهائي لشوق الحياة ليوم يشبهها حقا. فقد سبق لها وأن تخففت في طريقها من كل الكائنات التي غدت عبئا عليها، على أشجارها وأزهارها وحتى صحاريها.

لقد حاذر الأدب أن يقترب من مأساة الاقتلاع الفلسطيني عشرات السنوات، بذريعة أن القضية يجب أن تنضج في فكر ووجدان الكاتب، ويمكن أن ينطبق الشيء نفسه على عشرات المفاصل الخطيرة في حياتنا الإنسانية والسياسية أيضا.

وفي ظني ليس هناك مبرر لوجود أي كاتب، بالنسبة لي شخصيا، عليه أن ينتظر عشر أو عشرين أو خمسين سنة كي يكتب عن قضية ساخنة بحجة انتظار نضجها، أنت كاتب لأن بإمكان هذا العالم أن يجد ملاذا له في أصالة عملك ووعيك الوجداني والإنساني، حين يطرد هذا العالم من جماله ومن نفسه، ويطارده الخوف والعماء والموت، ويبحث عن ملجأ فلا يجد سوى رحم كلماتك التي تملك قوة أكثر من رقتها. وخارج هذا أرى ادعاء وفقرا وجدانيا وإنسانيا، وتسليما بسطوة البارد، المعلب، المجفف، والمُدّعي.

وما دام السؤال حول "مرايا الملائكة" فاسمح لي أن أقول: قد لا أكون كتبت بهذه الرقة قبل هذا الديوان، وقد أكون، لكنني أدرك أن الكتابة عن طفلة بهذه العذوبة، ووجه بهذا الجلال مسألة مصيرية لي ككاتب على المستوى الفني، والتي، بدورها، وحدها تؤكد شرعية وجودي الإنساني أو تنفيها.

 تعرّض ديوانك البديع جدا "بسم الأم والابن" إلى احتجاجات عديدة من أوساط دينية عربية، وكانت إحدى رواياتك منعت في الأردن قبل ذلك، بل تمت ذات يوم مصادرة مجلد أعماك الشعرية بعد نيلك جائزة العويس عنه مباشرة، وما يزال سيف الرقيب مسلطا على الأعمال الأدبية حيث ما انفكت دائرة المطبوعات والنشر في الأردن تمنع الكتب، ما الذي يريده الرقيب العربي؟
ـ أعتقد أن ليس هناك معركة أو حربا أكثر عبثا من تلك المعركة/ الحرب التي يشنها الرقيب على الكتب، إنه خاسر، أولا وثانيا وعاشرا، لقد قيل ذات يوم، الذي كُتِبَ بالحبر لا يمحى أبدا، وإن كان هذا المعنى قد جاء في سياق آخر، إلا أن على النظام العربي أن يعي، أنه لن يحقق نصرا في هذا الاتجاه، لأن فكرة تحقيقه النصر ليست واردة اليوم في أي مجال.

ومن أسباب عدم وجود جدوى في شن هذه الحرب على الكلمات، يكمن في أن الرقيب العربي لن يستطيع أن يروض هذا العدد من المبدعين العرب، الذين تكمن شرعية وجودهم، اليوم، في أنهم ضد هذا الخراب العربي، الذي تفوح رائحته من كل شيء، بدءا من صندوق الانتخابات، إن وجد، وانتهاء بصندوق النقد الدولي.
طبعا، حلم الرقيب العربي كبير، فلك أن تتصور أي صمت يمكن أن يسكن هذا العالم العربي، بل أي موت، إذا ما تحقق حلمه بكتم أصوات آخر الطيور على هذه الشجرة المطاردة باليباس والموات.

 إلى جانب إبداعاتك الروائية والشعرية، ثمة اهتمام لديك بالرسم والتصوير وقد أقمت معرضين في كلا الحقلين. وخصص لك هذا العام جناح كبير في بينالي عالمي للفنون في كوريا، هل يندرج ذلك في سياق فائض القيمة التعبيرية لديك؟
ـ أنت لا تستطيع أن تختبر الحب إلا بالحب نفسه، تعايشه حلما، ويعيشك ربما، إلى أن تلتقيا في انصهار وجودكما معا، وكذلك الرسم والتصوير بالنسبة لي، إنهما جزء قريب مني، ولم أفكر طويلا حين غادرت مقعد المتفرج لأعيش الدور الذي أمامي، فكأن المعايشة الطويلة، فعلا، تلغي كل مسافة بين النوع الفني الذي تعايشه وبين ذاتك، لقد وجدتُ نفسي أرسم لنفسي، وأصور كذلك، من دون أن أفكر لحظة بأنني في طريقي لأن أكون مصورا أو رساما، تماما كما تتنفس، فأنت لا تفكر في كل لحظة أنك تتنفس لكي تعيش، بين حين وآخر، قد يخطر لك أنه إذا توقف تنفّسك فستموت، لأنه دليل الحياة.

لقد رسمت وصورت أكثر من عشرين عاما، قبل أن أجد نفسي، مرغما، في صالة العرض، بقوة حب الأصدقاء لما تحقق من لوحات وصور، وقبل ذلك كنت فرحا لأن هذه الأعمال تزين جدران بيتي، لا لكونها جميلة أو غير ذلك، ولكن لإيماني، ربما، بأن أكثر اللوحات تواضعا التي يمكن أن ترسمها، أو يرسمها ابنك أو صديقك، أكثر حياة وحيوية من أي نسخة مصورة للوحة من لوحات بيكاسو. ببساطة لأنني أرى الحياة أجمل مع كل شيء حي، حتى لو لم يمتلك مواصفات الجمال الكاملة، هذه المواصفات التي لو أخذ بها رجال العالم، أو نساء العالم، وقارنوا أنفسهم بالسوبر موديلات من عارضات الأزياء وعارضيها أيضا، وممثلات السينما وممثليها أيضا لطلّق نصفُهم نصفَهم على الأقل.

لكنّ هناك شيئا آخر يمكن أن تحسّه وأنت ترسم، وأنت تصور، فاللون الذي تراه جاهزا عادة في لوحة ما، ولنفترض أنه الأخضر، يكون لون الفنان، أما حين ترسم أنت، فيغدو لونك الخاص، الذي تختبره، ويختبرك، وكذلك في التصوير، لأنك حين تحدد الكادر، تحدد هذا المشهد الذي يعنيك من بين كل المشاهد المترامية حولك، يصبح مشهدك الذي رأته عينك والتقطته حواسك كلها. لذا أسميت معرض التصوير الأول الذي أقمته "مَشاهد من سيرة عين"، وما تلاه من معارض مجرد فصول أخرى من هذه السيرة. وهذه السيرة، تماما كسيرتك إنسانا، وكخبرتك واختبارك للحياة واختبارها لك تبدأ بالانعكاس على أعمالك التي تكتبها. ولذلك حين رسمت وصورت مثلا أصبح لقصيدتي وروايتي عين أخرى، فلم يعد اللون مجرد لون أو التفاصيل الصغيرة، مجرد أجزاء من جسد هذا العالم، أصبحا معنى معاشا لروح هذا العالم.

 أيضا أنت في النقد السينمائي ذو تجربة تستحق التنويه، فكتابك "هزائم المنتصرين" الذي يعاين السينما بين حرية الإبداع ومنطق السوق يشير إلى تعددية ثقافية ذات أدوات أسلوبية ناضجة. ماذا أفادتك السينما في إبداعك. ألا يراودك حلم الإخراج السينمائي؟
ـ في اعتقادي أن أهم ما ينجز في العالم من فنون إلى جانب الرواية اليوم، هو فن السينما، وما دام الأمر كذلك، في اعتقادي على الأقل، أو في ظني، فإنني أستغرب تماما، أن يكتب الكاتب رواية أو قصة أو قصيدة، أو كتابا نظريا، دون أن تكون له علاقة بالسينما، لأن ذلك كان يمكن أن يكونمنطقيا لكاتب كان يعيش في العصر الأموي أو العباسي، أو أي عصر من هذا القبيل. وكما حدث، مع الصورة واللوحة، حدث الأمر ذاته مع السينما، لقد كنت أكتب عن بعض الأفلام التي أحبها وأضع ما أكتب في أدراجي، لأن دافع الكتابة كان يتمثل في قول كلمة (أحبك) أو ما يشبهها، لهذا الفيلم، أو ذاك، وهو يبعث في داخلي كل هذه السعادة والجمال، فبعض الأفلام قادر على أن يمنحني أجنحة أحلق فيها مدة طويلة دون أن أشعر بأنني في حاجة لأي شيء آخر على هذه الأرض.

هذه هي معايشتي للسينما، وحين اكتشفت واكتشف أيضا مقربون هذا، دفعني ذلك لقراءة كل ما كتبته من جديد، وربما كانت مفاجأتي أن معظم الدراسات التي كتبتها، وأقول دراسات (لأن فيلما مثل: "فورست غمب"، أو "تانغو" كتبتُ عنه أكثر من خمس وعشرين صفحة) أقول اكتشفت أنها معنية بنمط من الشخصيات، هو نمط المنتصر المهزوم، على المستوى الإنساني، أي ذلك الذي يفقد جزءا حميما من ذاته، أو ممن حوله، في طريقه لتحقيق نصره، بحيث لو عُرض عليه هذا النصر من جديد، مقابل ما خسره، لفكّر طويلا.

لذا أرى في كتابتي عن السينما معايشة للفيلم، بهدف فهمه أكثر، إنسانيا وجماليا، أو بمعنى رفض أن يكون الجميل والحميمي شيئا عابرا، ولذا أعتبر هذا الكتاب بمثابة جزء من سيرة ثقافية، فبدل أن يكتب شخص ما سيرته، ويقول: لقد كنت أحب السينما، وقد تركت في أثرا كبيرا، أو أي شيء من هذا القبيل، أقول في هذا الكتاب: هكذا كنت أحب السينما، هكذا فهمت هذه الأفلام، وهكذا تركت أثرها في كإنسان وفي كتابتي.

أما حلم الإخراج فهو واحد من أقرب أحلامي إلى نفسي، وأمل أن أملك فرصة تحقيقه، أكثر من ذلك الحلم الذي راودني ذات يوم في أن أدرس الموسيقى، حين أنهيت دراستي الثانوية، وأغلقت كل الأبواب حينها.

ليس في العالم العربي نجم كامل في مجال الكتابة

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى