حياة تحت الرماد
الدخان يحتل الأفق... يلونه بلون الرصاص، والهواء محشو برائحة الرماد، وبعض ثمار البرتقال المتفحمة مهملة على الأرض، وأنين مازال يطل برأسه بين الفينة والأخرى...
الرتابة تمد بجسدها... وألسنة اللهب الهائجة تغرق رويداً رويداً بعرق الوجوه وزفيرها المثقل بالقروح، "ويوتوبيا" تشرع جناحيها فيهم، تحتويهم وتحتوى النار في سواعدهم التى ما فتئت تطفئ النيران.
خمدت الحريق...
وصوت أبيه ما زال يأتيه من بين أصعدة الدخان الممتدة من جذع نخرته النار.
(ماذا فعلت في غيابي يا مسعود)
يرفع رأسه للأفق فلا يجد سوى الدخان... ونفحات جافة من الهواء تهب بحركة وانية، يتنفس الصعداء... يحلحل عباءته السوداء التى ورثها من أبيه عن كتفيه، يعض على شفته ثم يمسك طرف العباءة يمسح بها العرق والسواد عن أضلاعه الهلكى.
لم يجب فماذا عساه أن يقول...
(هل سيقول أن أرضنا وأرض اجدادنا أصبحت كالهشيم تتناثرها الريح، أم يقول عجزت الحفاظ على أمانتك...فتركتها مرتعا للحاقدين.)
فيرتمي صريعا على جدار منزله كالجثة الغثّة نسيها صانع التوابيت، فيبقى تدحجه العيون، ترقب الذي سيفعله رجل تحولت ارضه الى رماد، فيلطم بيديه رأسه، ينظر الى من حوله مكسور الوجدان، وقلبه يعزف لحن الموت.
كانت بيارة البرتقال ذات ميزة عريقة تناقلتها عائلة مسعود عبر أجيالها، فلم يكن لذلك الصنف من البرتقال وجود الا في بيارتهم، فأضحت منارة للأتي وحقلاً اخضراً يزرعه القادم في أحلامه، لذلك كثيرا ما كانت مصدراً لفخره واعتزازه.
وقال أحدهم: لو انًي مكانه لمت قهراً.
قال اخر: أعانه الله على مصيبته.
وقال ثالث: وأعاننا على قوت عيالنا بعد ذلك.
بكاء النسوة والأطفال يخترق الأفق، وهو مأخوذ بأفكاره بين مدها وجزرها، والفاعل يتلاشى كسراب...لا يبرح ان يجده حتى تشنقه مخيلته قبل اكتمال التفاصيل.
يتساءل...
تراه هو من فعل هذا، ذو العينين الجاحظتين الذي قابلته عند البئر منذ أيام، أخبرني عن رجل فقد ثروته كلها بطرفة عين.
تراه كان يقصدني...
لا...لا يالي من أبله، ليس هو بالتأكيد.
احتضن رأسه بكفيه، عله يعتصر ذهنه الدي أغبرته السنين...
يضغط عليه بشده حتى ارتجفت يداه فأرخاهما، ثم شبّ واقفا كما المجلود بسوط، بأعلى صوته... »هو... هو«
يقول في نفسه: العجوز الذي يأتي البيارة كل يوم ثم يذهب دون أن يشعر به أحد، فهكذا قيل لي.
يحدق في الوجوه طويلاً، وسرعان ما تنطفئ فيه الحماسة... فيخر كبناء انهارت أركانه، حائر كما البحار انكسر مجذافيه، فلا هو قادر على المسير ولا هو يحتمل انكساره، يطالع الوجوه من جديد وهم يعزونه ثم يذهبون، لم يبق عنده الا زوجته وابنه الصغير.
سئم التفكير، والثأر ما يئس غزل خيوطه، وحزنه يعمد في زوايا الصمت فلم يعد له سوى دمعة أخرى وينهمر البكاء.
كان كلما نظر الى طفله الصغير وهو يحمل مزماره، يشعر بالأسى كدبابيس توخز جسده الهزيل، تنبذه للعراء تائه بين ماضيه ومستقبله، كبّلته الحياة ورمته والأغلال في عنقه... تتقاذفه الهموم فلا يدري بأيها يستقر وهو الرحالة الذي لا يؤوب.
فيما هو غارق في أفكاره، يأتيه صوت زوجته حادا كالسكين.
– بماذا تفكر يا مسعود
تقترب منه، ثم يجيبها بصوت ألبسه الصلابة.
– بالفاعل...
تفغر زوجته فاها, ثم تقول وهي مشدوهة... فلقد فاجأها ما يفكر فيه زوجها.
– وما أدراك من وجود فاعل. تمسح دموعها ثم تتابع
– قد يكون الأمر كله قضاء وقدر، والأجدر بك ان ترى لنا مخرجا من هذه المصيبة و ...
يقاطعها مسعود، ينظر إليها بنظرة معاتبة... متمنياً أن تتركه وحيداً، فليس الآن وقت لنصائحها.
ابتدأ الطفل العزف على مزماره بنغمات ذات أنين، وعاد هو الى أفكاره، يجتر منها الحقيقة وأحلامه العطشى، يرفع يديه الى السماء والمطر يبتدئ اولى قطراته، أعاد له المطر صوراً ظن ان الزمن طواها في غيابته، وها هو الان ينتشلها من ركام ماضيه... وهو صغير عندما سأل أبيه: لماذا تفرح بشدة عندما يهطل المطر.
فينظر إليه أباه ويقول:
»يا صغيري... المطر بالنسبة للفلاح هو الحياة...الأمل، يعطيني البداية كي لا أقنط من رحمة الله...
أتذكر عندما استسلمنا لمرض جدك بعد أن بذلنا جهدنا في علاجه...
وفي اليوم التالي أدهشنا في صحوه وسلامته...
لعله لم يجلس مثلنا وينتظر النهاية , أتدري لماذا؟ «
لم يكمل ابوه حينها، وهو ايضا لم يسأله، فلم يفهم بالضبط ماذا يريد ان يقول له، ولكنه اسرع لمعانقته.
والآن يا أبا مسعود ابنك لم يعد طفلاً... فهم كل ما قلته، لذلك لن يتأخر في استرداد حقه...
انتفض من مكانه، يجرفه الماضي بكل تفاصيله، يحمله كقشة لا يملك المقاومة...
ها هو يحمل سكينه, وعروقه النافرة تبتلع اخر كلمة قالها لأهله قبل ان يمضي، هو القدر مختبئ فيه المجهول واللا عودة، فيذرع المسافة بخطى وئيدة يطوى من تحت قدميه الطريق، غير ابه بصراخ زوجته وبكاء طفله.
تصفعه الريح الطليقة، والفجر امامه منكمش كثمرة ذابلة، لا يلبث أن يخطو خطوتين حتى يتعثر... فيلملم نفسه ثم يتابع المسير، لا يردعه عن حقه شئ، وعد أباه وسيوفي وعده.
بين أحضان أبيه يستوفي حقه، ينتشله من بين الرماد، يزرع دنياه من جديد فاكهة للدم، فتنتشي أحزانه بعبق الذكرى، بينما هو يمارس الثأر.
ومعركته تنتهي عند أول خيط من ضوء الشمس، انتهت مهمته فقفل عائدا الى زوحته وابنه، نظر اليهما نظرة مصحوبة بالخشوع، يغسل فيها همومه التى اصبحت وشماً عليه، ثم يبتسم....
اخرج سكينه من جيبه التى لم تكن ملطخة بالدم
نظرت اليه زوجته دون ان تنبس ببنت شفة وقد انفكت اساريرها،
اخرج من جيبه الاخرى برعماً حياً قطعه من شجرة لفحتها النيران
قبّلها وقبل ابنه، ثم حمل حفنة من تراب مجبول بالرماد، نثرها على البرعم وهو يقول: (لم يمت جدي.. نعم لم يمت)