الأربعاء ٥ أيار (مايو) ٢٠١٠
بقلم محمد أبو عبيد

رقصات رغم المُنَغِّصات

 
من بين الكم الهائل من الصور الآتية من فلسطين، ثمة صورٌ تحمل معانيها الخاصة. الصور النمطية الفلسطينية في العادة تدخل الأذهان من غير استئذان، فلا حاجب على بوابات العرب والعالم ينظم دخولها ويتحكم بها،هي في العادة الصور التي تُحدّث المرء عن الصراع وعن إجراءات الإحتلال الإسرائيلي بحق الفلسطينيين، عن المفاوضات المباشرة وغير المباشرة، عن الحراك السياسي، وعن الانقسام الفلسطيني، وهي الصور التي وصل العربي بها إلى حد الإشباع.
لكنّ صوراً أخرى تحمل قيماً فنية ومعاني جمالية تتسلل إلى الذهنية العربية كما لو أنها في حاجة إلى تأشيرة دخول وختم جواز سفر حتى يدركها العربي والغربي على حد سواء . منها تلك المشاهد عن مهرجان فلسطين للرقص المعاصر، وهو المهرجان الذي بات عالمياً تشارك فيه فرق عربية وعالمية على أرض فلسطين، حيث تقدم العروض في أكثر من مدينة فلسطينية متحدية حواجز القمع الإسرائيلية، وشاهرة أداة من أدوات حب الحياة في وجه من أراد اجتثات تلك الحياة.

إنّ مهرجاناً من هذا القبيل يحمل من الأهمية والدلالات ما يحمل. فقد اعتقد البعض، إنْ لم يكن الكثير، أنّ لفظة فلسطين لا تلتقي مع كلمة رقص، والظن منهم أن فلسطين لا تحمل إلا مفردات القتلوالدمار والتشريد واللجوء، ومؤخراً الانقسام إلى فئتين تبغي إحداهما على الأخرى . هذه المشاهد، وإنْ كانت موجودة في قاموس المفردات الفلسطينية، هي ليست وحدها التي تشكل هذا القاموس، لأن في فلسطين حياة رغم لغة الموت، وفيها شعب حي يعشق الحياة وإن مات بعضه في سبيل وطنه، وفيها من يعشق وجهه الكنعاني الأصيل وإن اضطرته قواعد المقاومة إلى تغطيته بالكوفية.

مهرجان الرقص المعاصر في فلسطين ليس كمايتخيله البعض الذي ليس منه سوى الشجب والاستنكار لأشكال الفن وأدواته،لأنه ليس رقصالنوادي الليلية، لكنه لغة الجسد البليغة التي تشكل أداة أخرى من أدوات المقاومة الفلسطينية ضد الاحتلال، تماماً مثل أدوات الفرق الفولكلورية، والمعاهد الموسيقية والسينما الفلسطينية التي وصلت إلى المهرجانات العالمية حاملة فلسطين بهمّها وفرحها وحاصدة الجوائز.

أثبت الفلسطيني بمهرجاناته الفنية، أن يده القادرة على حمل السلاح وعلى قذف الحجر في وجه جندي الاحتلال، هي أيضا اليد المتمكنة من الرسم الحيعلى إيقاعات الرقص الراقي، وأثبت أيضاً أنه قادر على بعث رسالة للآخرين بأن في فلسطين متنفساً للفرح وللفن رغم المُنغِصات التي أدمنها كرها لا طواعية،وأن الانتماء الحزبي لا يلغي الانخراط الفني. لقد قال الفلسطيني، ذَكراً وأنثى، فيمهرجانه إنه يرقص هذه المرة ليس مثل الطير مذبوحاً من الألم، إنما مثل العصفور الحر منتصراً على الألم


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى