السبت ١٤ كانون الثاني (يناير) ٢٠١٢
بقلم محمد أبو عبيد

كتابُ مَنْ لا كتابَ له

لا يواجه الكتاب خطر العزوف عنه فحسب، إنما يواجه خطراً آخر يتمثل في جعله صِنْو الوجبات السريعة، أو إنتاجاً يوازي «الفيديو كليب»، لذلك صارت رفوف المكتبات تثير الشفقة نظراً لتكدس الكتب عليها، وتحميلها ما لا طاقة لها به.

يُخيّل لي أن المؤلف كان يقرأ مئة كتاب كي يؤلف كتاباً، وفي كتابه لا يستنسخ أفكاراً عاشرتها صفحات الكتب التي قرأها، فكان يأتي بالجديد، أو المتجدد، أو ما هو حديث ومستحدَث على صعيد أية فكرة، وكان يعزز فكرته بحججه حتى لو خالفها آخرون كحال الغزالي وابن رشد, مثلاً.

وحتى الكتب التي تسرد وقائع تاريخية وسياسية هامة، وكتب السِّير الذاتية، في بطونهن قوة السبك، ومتانة اللغة، والعبق الأدبي الذي يزيد القراءة تشويقاً، وتنبىء عن الثقافة الهائلة التي يتمتع بها أحد مؤلفي مثل تلك الكتب.

إلا أن حال الكتاب، اليوم، كحال المُنَكّل بهم جسدياً بأذرع الأجهزة الأمنية، فأسوأ حال قد يؤول إليها الكتاب هي عندما تُسلخ عنه هالته وهيبته فلا يعود سوى ورقٍ مُعَنْون غلافه, ومزركش لحافه. يمكن للمرء أن يتخيل شخصاً آذاه المنكِلون جسدياً، ثم ألبسوه بذلة جميلة، فكذا الكتاب اليوم.

لا ريب في أن العصر الذي نحياه يتسم بالسرعة، والتسارع عند الأمم المتقدمة، وأختصر الزمان مثلما اختصر مسافات المكان، وجمع مصادر المعرفة والاطلاع في بوتقة عنكبوتية، الأمر الذي يعني، حتماً، أنه وفر الكثير من الجهد والمشقات على أي مؤلف، فبدلاً من أن يأخذ تأليف الكتاب سنوات كما في الرَّدَح الزماني الماضي، صار الوقت أقل نظراً لوجود كل العناصر العصرية التي تساعد الكاتب على نشر ثقافته وفكره.

هذه النعمة التكنولوجية المتوفرة بين أيادينا، اغتنمها "المسْتثقِف" قبل المثقف، كي يطل على الناس بهيئة المؤلف غزير الإنتاج، فلا تكاد تمضي ثلاثة أشهر على كتابه، حتى يفاجىء الرهط بكتاب آخر، فيما كتابه الأول لم تبرح نسخه مكانها من على الرفوف، وما إن تنقضي السنة حتى يكون قد أصدر أربعة كتب، أو خمسة، يُلْبسها أقوى العناوين، فيوحي للقارىء أنه سيغوص في أعماق بحار الفكر والمعرفة، وإذ به ما انفك على الشاطىء حال وصوله إلى الصفحة الأخيرة.

يبدو أن المعادلة اليوم انقلبت، في عصر الانقلابات، فصارت قراءة كتاب واحد كافية لتأليف خمسة كتب في سنة لدى "المُسْتثْقِفين"، وبقيت قراءة خمسة كتب غير كافية لتأليف كتاب في سنتين لدى المثقفين. "فأما الزبد فيذهب جُفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض".


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى