الاثنين ٢ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠١٥
بقلم مروة كريديه

رهانات السلام اسئلة العنف وآفاق الكون

عن دار العين للنشر في القاهرة صدرت النسخة العربية لكتاب "رهانات السلام اسئلة العنف وآفاق الكون" للدكتورة مروة كريدية حيث تعبر بالقارئ نحو أفق فكري مغاير في ظل الحروب الطاحنة التي تشهدها المنطقة. و تدور صفحاتُ هذا الكتاب بقارئه فوق المدارات التي تأخذ بالعقل الجمعي نحو العنف كما تطرح آفاق جديدة لبناء معرفي جديد عبرخلخلة البناء الفلسفي التقليدي الذي اسر الفكر البشري طيلة القرون الماضية . ويعد هذا الكتاب مستندا فكريا جيد لرواد العمل الانساني بوصفه يعالج مسألة شديدة الخطورة في واقع اصبح العالم فيه مهددا بتنامي العنصريات المنتجة للعنف؛ كما تعمد فيه المؤلفة الى تبسيط المصطلحات المعقدة فتخرج فيه عن المسار العلمي لتلقي بخواطر روحية تستصرخ فيها الانسان لاستيعاء عميق للتضامن الإنساني ووحدة المصير الكوكبي المشترك، في اطارفحص صادق عن معنى التاريخ الإنساني، ولإيجاد مجتمع وأخلاق معرفية من شأنها أن تسمح لنا بالتعامل مع انتماءاتنا وتناقضاتنا عبر تجديد الخصال الإنسانية استنادا الى ظهور الفيزياء ما تحت الذرّية الذي سيؤدي الى انقلاب نحو اللافلسفة اي البنى المتشظية لكل الفلسفات .

الكتاب الصادر اصلا باللغة الانكليزية عن جامعة أبردين يعالج اشكالية فلسفية تعد جوهر المشكلات اذ ان الباحثة تعتبر ان السبب المنتج للعنف هو المنطق الكلاسيكي القائم على الفعل ورد الفعل ، والثنائيات الضدية، وان التخلص من العنف لا يكون بعنف مضاد؛ مستنتجة ان الحروب مهما "سمت أهدافها " لا يمكن ان تقضي على "الارهاب " ، وان البشرية ان أرادت الخلاص فلا مفر من تغيير جذري في البناء المعرفي نفسه.

وتقول كريدية في مقدمة الكتاب :" انه مع بزوغ الثورة الكوانتية والثورة المعلوماتية تكون البشرية قد نحت منحى جذريّا في تطوير البناء المعرفي ممكن ان يؤدي الى انقلاب في المفاهيم و البنى الفكرية ويقدم استراتيجية قيمية جديدة لادارة الهوية والقضايا والعلاقات بين الدول، لأن المقولات التي أفرزها العقل اليوناني وفيما بعد استثمرها العقل الغربي ومن ثم العقل العربي أفرزت: الحتمية ، المنطق الصوري، الجدلية،الثنائيات،اللوغوس، المادة والصورة...

معتبرة ان :"هذا النتاج الكلاسيكي يقوم على محاور قيميّة من اهمها: اختزال الكون الى منظومة ميكانيكية مؤلفة من مكونات اولية، واعتبار "العلم الوضعي" الطريق الأوحد الى المعرفة، والنظر الى الكائنات الحية والتعاطي معها كآلات، واعتبار الحياة المجتمعية صراعا تنافسيا البقاء فيه للأقوى ، الأمر الذي سوّغ العنف وحول الكوكب الى مملكة ارهاب."

وتطرح الكاتبة اداة فكرية لردم الهوة بين العلم والفلسفة بين المادة والروح بين الكون والكائنات. تطلق عليها "الفكر العلمي الكوني " الذي يمكن ان ينبثق عنه امور اهمها ان المكون او الواحدي هو المبدأ الأول و هو الذات وهو الموضوع ؛ وان المكون يتجلى في الكائنات، اي ان الهوية تتماهى مع الواقع، والكون يتماهى مع المكون و الواقع يتطابق مع الهوية وان الفكر والواقع متماهيان.

اما عن مفهوم السببية الجديد فترى انه سبب متصل مطلق مستمر لا يفصل بين الوجود الواقعي "المُحَايث" أي وجود ما هو موجود ، والوجود "المُتعَالي" " وجود واجب الوجود" ، كما ان الهوية منفتحة على هويات لامتناهية و قابلة للتغيير الدائم المستديم . الامر الذي يؤدي الى اضمحلال "الثنائيات المتقابلة الضدية" عبر وجود مستوى آخر مشمول تطلق عليه الوحدة المفتوحة وهو ما يسمى "الموقف العابر" حيث ما يبدو متناقضا يُدرك كغير متناقض وما يبدو مفرقا كجسم او موجة هو في الواقع موحد كوانتم في مستوى مغاير.

ويدور عمل مروة كريدية حول محورين فكريين رئيسيين:

المحور الأول: يعرض لعجز المنطق المنتج للعنف وتجلياته وعلاقاته مع الحقيقة والواقع وان انشطار الفكر البشري عبر المنطق الثنائي العاجز هو الذي سبب العنف وشرعه . وان هذا المنطق يرتكز على اسس الفيزياء الكلاسيكية المحكومة بقانون الجاذبية .

المحور الثاني تخلص فيه الدراسة الى رؤية مفادها ان النظرية الكوانتية " "الكمومية" الحديثة في الفيزياء أظهرت الوحدانية الأساسية للكون. كونها تقدم شرحًا دقيقًا ومتماسكًا للظاهرة الذرِّية ككل. وان عالم الكوانتا ما تحت الذري لا يحمل اكثر من اجزاء عالمنا المدرك، ونحتاج الى فترة كي يتم فهم العالم خارج اطار قانون الجاذبية التي حكمت الفيزياء النيوتنية .
وتخلص الدكتورة مروة كريدية الى :" ان معظم النتائج التي انبنى عليها تاريخية المكانيكا الكمومية تدور في اطار تتصل فيه الاداة بالموضوع خلال التجربة وبالتالي فلا نحصل لصورة عن الطبيعة بل عن صورة لعلاقة الكائن معها ."

ويتفرع عن هذين المحورين أقسام عدة تشتمل على عناوين متشعبة حيث تناقش فيه إشكاليات العنف الرمزي وأشكال الهيمنة مستعرضة تاريخ البشر المشحون بالنار والفصام حضاري، معتبرة انّ ذاكرة العنف عند الشعوب سببتها السيرورة التاريخية وانفصام الذات الحضارية ،كما تطرح مفهوم الحقيقة في منظور اللاعنف من خلال التعددية الدلالية والحوار التواصلي لتستخلص المفاعيل اللاعنفية لتعددية الحقيقة ونسبية المعايير عبر تَفكيك مفهوم السلطة وتأريخ الحقيقة .
وترى الباحثة ان العالم تحول الى امبراطوريات جديدة تصنع الحروب باسم السلام عبر العلاقات الدوليّة التي تسلك استراتيجية خراب باعتمادها على مايعرف بالنظام العالمي الذي يتخذ من خرافة الأمن القومي ذريعة لامتلاك اسلحة الدمار النووي، معتبرة ان حق النقض الفيتو هو آلة عنف مستمرّ لإجهاض السلام ، في اشارة الى ان العمل السياسي ينبغي ان يكون انسانيا و خدماتيًّا فقط ويدور حول خدمة الانسان وحقوقه بالدرجة الأولى ، وان على الدولة ان تحقق العدالة لا ان تطبّق قوانيين جائرة.

وتحت عنوان "كونية الانسان " تدرج الباحثة مقاربة مميزة في اطار ميتافيزيائي لنظرية الكوانتا فتعتبر ان الكائن الانساني قد تمت "برمجته" من خلال الكم الهائل من المعارف المكتسبة المحملة بالارث البشري على مر العصور بكل فلسفاته المتباينة واديانه المتنوعة ومعتقداته المتبلورة ، التي تؤكد عبر المنطق المتوارث ان البشر كائنات فردية منفصلة تجاهد في صراع دائم منذ ولادتها كي تعيش بشكل أفضل ولا ينتهي ذلك الا بالموت ، وهذا ما تقبلته الانسانية كلها!
وتخلص الكاتبة الى نتيجة مفادها ان وجود الكائن الانساني يشير الى كينونة مستترة في أعماق الكون وهو ما يعرف بوحدة الوجود ، فالكائنات البشرية بجذورها ضاربة في الكون (الكوسموس) بما تحمله من جزيئات وذرات، وتتساءل كيف لنا نحن أبناء "الحضارات" ان نشارك في عمليات الخلق والتدمير التي تمخضت عنها حياتنا أرضية حيث كوكب الأرض مجالنا الحيوي؛ ونحن، بهذه المثابة، ننتمي إلى الكائنات الحية التي برهنت عن قدراتها على التضافر وقابليتها لتشكيل مجتمعات.

الجدير ذكره ان هذا الكتاب يندرج في سلسلة المنهج التي تعكف الباحثة مروة كريدية على صياغته منذ مطلع العقد ويعكس ثقافة موسوعية في عصر اجتاح العنف معظم مناحي العيش الانساني وتفاقم الارهاب وكثرة الحروب ادخلت المنطقة في شرانق الطائفية والمذهبية، وهي اذ تضع يدها على العلّة الجوهرية المنتجة للعنف فإنها تقحم ميدان علم الاجتماع السياسي في البعد الروحي كما تقحم الفلسفة بالفيزياء ، فتلامس طروحات الحكماء من جهة وتدخلها في مجال السياسية والاقتصاد والبيئة من جهة أخرى، ولعل ما أوردته في مقدمة إصدارها يوحي انها تسعى الى خلخلة البناء المعرفي التقليدي الذي اسر الفكر البشري والرقي الى أفق مغاير ينعتق فيه من أسر السلطة وعنف المادة .

د. مروة كريدية

مروة كريدية اسم بارز في المجالين الفكري والاعلامي تفرغت لدراسة ظواهر العنف في المجتمعات الانسانية والبنى الفكرية المؤسسة لها وعلاقة ذلك بالحقوق والمدنية وعلاقتها ببنية الأنظمة السياسية والأيديولوجيات ، لتقدم رؤية تتمحور حول كونية الانسان ووحدة الوجود مما ينعكس في سلوك لاعنفي وانتماء كوني يحترم البيئة وكل الكائنات ويحافظ عليها .
درست العلوم الإنسانية وتخرّجت من الجامعة اللبنانية واكملت دراساتها العليا في المجال نفسه لتنال الدكتوراه في الفلسفة وعلم اجتماع وقد قدمت للمكتبة العربية العديد من المؤلفات الفكرية والكتب الادبية والابحاث الميدانية، من اهمها "استراتيجيات الامل في عصر العنف " و " فكر على ورق " ، و" لوامع من بقايا الذاكرة " و "حوارات وآفاق" .
استطاعت كريدية تسخير خبرتها الاعلامية الطويلة في المجال الانساني العام، وخلال مسيرتها العملية تسلمت العديد من المناصب الثقافية والاعلامية . حيث شاركت في أعمال حوار الاديان واللاهوت المقارن في جامعة القديس يوسف اليسوعية في بيروت ثم استاذة في الحضارات لتعمل بعدها كرئيسة القسم الثقافي ثم المسؤولة الاعلامية في مركز الماجد الثقافي. وقد اكتسبت خبرتها الاعلامية من عملها كمراسلة لوسائل الاعلام الدولية حيث كانت مسؤولة عن اعداد تقارير ميدانية وتغطيات حية عن معسكرات النزوح في مناطق النزاع والحروب.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى