الأحد ٢٣ أيلول (سبتمبر) ٢٠٠٧
بقلم أحمد الخميسي

سلاطين المماليك وخيال الظل

في وقت من الأوقات، منذ نحو خمسمائة عام، لم تكن القاهرة تعرف من النور غير ضوء الشموع والفوانيس والمشاعل، وكان سلاطين المماليك يحكمون، أما صغارهم فينتهزون الفرص لنهب الدكاكين وخطف عمائم العابرين والتحرش بالنساء وهم يرمحون على خيولهم في الأزقة. ورغم حياة المصريين القاسية فقد وصفهم ابن بطوطة ( 1304- 1378 م) بأنهم على اختلاف طبقاتهم " ذوو طرب وسرور ولهو "،

حتى أنهم كانوا يخرجون في الأعياد بقوارب إلي النيل ويحملون معهم الآلات الموسيقية ويضرب بعضهم بالطار والآخر بالمزمار مرسلين أغانيهم في الجو . وعندما رفع السلطان قايتباي أسعار القمح والدقيق واختفى الخبز من الأفران خرجت العامة برقصة تضحك وتغني وتلعن السلطان والغلاء . وفي عام 1448 أمر السلطان الأشرف جقمق بمحاربة الرقص ومنعه ! ولم يقتل المنع فيهم روح الفكاهة والتهكم ، فاطلقوا على الأمير طشتمر لقب " حمص أخضر " وعلى الفخري لقب " الفول المقشر" ! وحين كانت الأحوال الاقتصادية تتردى بشدة ولا تكفي النوادر لاجتياز مصاعبها كانوا يثورون ، كما حدث عام 1382 عهد السلطان برقوق حين تفرق الزعر على بيوت الأمراء في القاهرة ونهبوا ما وجدوا حتى خربوا البيوت وأخذوا أبوابها وأخشابها معهم ، وسرعان ما تهدأ نفوسهم فيرجعون إلي حياتهم اليومية المشبعة بالصبر والخيال ، ويقصدون حي بين القصرين لسماع الأشعار والحكايات وحضور الجلسات التي تعقد لقراءة السير والأخبار، أو يتسلون بمناقرة الديوك ومناطحة الكباش وألعاب البهلوانات والحواة . لكن خيال الظل كان التسلية المحببة لدي الجميع، حتى أن السلطان الناصر أبو السعادات شغف بها وأمر بإحضار " أبو الخير " إليه ومعه خيال الظل للتفرج بعروضه . بينما أمر السلطان جقمق بجمع أصحاب خيال الظل وإحراق جميع ما معهم من الشخوص المصنوعة للخيال مع تحذيرهم من العودة إليه لأن تمثيليات خيال الظل كانت تتضمن عبارات خارجة عن الأدب ! وكان خيال الظل حينذاك يشبه الصحافة في يومنا هذا، فهو وسيلة لنقر الخبر والرأي وحشد المشاعر والتسرية عن الناس. وكان الاحتفال بشهر رمضان حدثا كبيرا، وقد وصف ابن بطوطة احتفال المصريين برؤية هلال رمضان في القرن الرابع عشر م بقوله : " وعاداتهم أن يجتمع فقهاء المدينة ووجوهها بعد العصر من اليوم 29 لشعبان بدار القاضي .. فإذا تكالبوا هناك ركبوا جميعا وتبعهم جميع الرجال والنساء والصبيان وينتهون إلي موضع مرتفع ( كان جبل المقطم في البداية ) وهو مرتقب الهلال عندهم فيرقبون الهلال ثم يعودون بعد صلاة المغرب وبين أيديهم الشمع والفوانيس والمشاعل". وكان اشتعال القناديل في رمضان علامة على جواز الأكل والشرب ، فإذا أطفئت قبيل مطلع الفجر وجب الإمساك عن الطعام . وكانت هناك سوق خاصة للشموع تسمى سوق الشماعين تباع فيها شموع المواكب التي تزن الواحدة منها عشرة أرطال، والشموع الضخمة التي تستخدم في موكب صلاة التراويح ويبلغ وزن الواحدة منها حوالي القنطار! وكانت حوانيت تلك السوق تفتح في رمضان حتى منتصف الليل، فتتلألأ السوق كلها بنور باهر في ليل القاهرة ، ويقصدها الناس للنزهة والتجوال . لكن تلك الأضواء الساطعة لم تخف عن الرحالة الأجانب حينذاك أن في القاهرة ما بين خمسين ألفا إلي مائة ألف شخص ، يعبرون الطرقات ليل نهار ، فقراء وشبه عرايا .

وفي حينه وصف السراج الوراق ( 1218-1295 ) وهو شاعر وراق حالة أولاده البائسة على العيد بقصيدة قال في مطلعها :

قد أقبل العيد وما عندهم ..
قمح ولا خبز ولا فطره
فارحمهم إن عاينوا كعكة ..
في يد طفل أو رأوا تمرة
تشخص أبصارهم نحوها ..
بشهقة تتبعها زفرة

وبالرغم من حلاوة ومرارة عهود سلاطين المماليك، وما شهده من لحظات رخاء تعقبها المجاعات والأوبئة، ظل أهل مصر " ذوو طرب وسرور ولهو" يجتازون بالتهكم كل محنة ويسخرون من كل " حمص أخضر " وينفخون في خيالاتهم التي أمر السلطان جقمق بإحراقها لأنها اشتملت على عبارات غير مهذبة !


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى