سنة... أيها الكاتب
لا شك أيها المتحرق بالحرف والمنعزل في زاويتك مع قلمك وورقك تقطف ساعات من راحتك ومن عمرك لتنفخها روحا في كائناتك على الورق، قد لذعتك حقيقة وضعك وأنت على عتبة السنة الجديدة ولعنت في داخلك اليوم الذي أمسكت فيه القلم لتتجرع الألم وتحصد الألم.. ألمُُُُُ تفتته حروفا على الورق وألمُُُُ يعتصرك على ما سيؤول إليه مصير أوراقك ؟؟ فهل حقا أجرمت أو جنيت على نفسك حينما صاحبت القلم، الألم وتراك تستحق هذا العقاب؟؟ أم أنك ضحية مؤامرة حيكت ضدك وضد الكلمة ؟.. أم أنك ولدت في الزمان والمكان الخطآن؟؟ وأن هذا الخطأ الفائح الفاضح الذي يسم زمانك ومكانك هو الذي قلب الموازين وركلك إلى أسفل السافلين تغوص في بحر الألم؟..
وعليه، فلن أسألك أيها الكاتب المقهور، بمناسبة حلول السنة الجديدة، عما أصلحت في مجتمعك.. فذاك ليس شأنك وحدك وأنت غير مسئول عنه وحدك طالما لم تساهم فيه بأفعالك وسلوكياتك وإذا ساهمت في تغييره بوازع ديني / أخلاقي محض عملا بقول سيد الخلق عليه الصلاة والسلام:" فمن رأى منكم منكرا فليغيره" وساهمت فيه بقدر استطاعتك وإمكانياتك السلمية والسليمة فتكون قد فعلت خيرا كبيرا وأذكرك أيضا بقوله تعالى:" ولا تلقوا بأنفسكم إلى التهلكة" فالمهالك التي تأتينا من أقلامنا تكاد لا تعد ولا تحصى في عالمنا الأعمى..
ولن أسألك أيضا ،عزيزي الكاتب، عن كم كتاب أصدرته أو كم مقال كتبته ومدى نجاحها أو فشلها وما حصيلتك المادية منها.. ولن أسألك عن حصيلة الجوائز التي حصدتها من ورائها هذه السنة لأني أعرف مسبقا الجواب ونسبة الإحباطات التي تجرعتها.. وإنما لو حق لي أن أسألك وأنت تودع سنة من عمرك لتستقبل أخرى جديدة فسأسألك عما استجد في وضعك وعما تعقده من آمال على سنتك الجديدة ؟؟ فهل ستكتفي ببطاقة كاتب كالتي استصدرها زميلك الفنان في المغرب أواخر 2008 والتي سيستصدرها المغني في غضون شهور من السنة القادمة لتكفل لك حقوقا هي أجدر بأن تكون حقوق أي إنسان على البسيطة؟؟ ثم تركن بعدها تحضن قلمك وألمك تواسي نفسك بمقولة ورثتها عمن سبقك " إنها لعنة الكتابة" كأن هذه اللعنة قدرك ومكتوب عليك أن تجرها أبد الدهر وتدحرجها لمن بعدك...
لا شك، عزيزي الكاتب، توافقني أن الجسد، جسد أي كائن حي، لا يخمد ويسلم الروح إلى خالقها حتى يلفظ آخر محاولة من أجل الوجود والبقاء فهل أنت أيها الكاتب تنطبق عليك هذه القاعدة ؟؟ إذن فلأسألك عما انتزعته من حقوق لنفسك، ومدى المسافة التي قطعتها خطواتك في مشوار نيلها، وكم مقال كتبته أو صوت أطلقته أو مظاهرة نظمتها أو سرت فيها احتجاجا على وضعك المخجل؟؟ وكم مرة قرعت الآذان الصماء بدور الأقلام والكلمة في حياة البشرية؟؟.. أما إذا كنت خارجا على القاعدة أعلاه وتنتظر أمطار الخير لتغسلك وتنفخ الحياة فيما تكتبه وتشحن بها رفوفك تأمل أن تتورق يوما وتثمر ثم تمد يدك لتقطف الفاكهة، أو أنك تحلم وتراك تتلمظ مذاقها وأنت في زاويتك، أو ربما قد كتبت أيضا وصية تثقل بها خلفك ـ الذي لم يرث عنك غير البؤس ـ توصيه إذا ما سقط قلمك وخمد جسدك بأن يجمع أوراقك في كتاب ويتولى بنفسه توزيعه كبائع متجول كما كنت تفعل قبل أن تسقط طريح الفراش فهنا اسمح لي أن أقول لك أنك قد ساهمت في وضعك البئيس وجندت نفسك للألم وعليه فلن تقطف ثمارا أفضل من ثمار من سبقوك.. ملأوا الدنيا صخبا وهرجا ويوم سقطت أقلامهم وخمدت أجسادهم التي نخرها الحرمان والبؤس ماتوا وهم يستصرخون ويستجدون لفتة إنسانية لشراء أدوية أو دفع أجرة طبيبهم المعالج وفارقوا الحياة وفي قلوبهم حرقة عما مضى من أيامهم مصاحبين القلم / الألم.. وستظل كذلك وحالك يزداد تأزما ما ظللت تسعى بحرفك إلى القارئ وتجري إليه ليعرفك بدل أن يجري وراءك كما يجري الظامئ إلى نقطة ماء يبلل بها حنجرته.. أي نعم، ستظل كذلك ما لم يصر الحرف جزءا من حياة الفرد ومهووس به هوسه بما يملأ بطنه.. فما ظلت المسافة بين القارئ والكاتب متباعدة ستضيع الكلمة ويضيع مفعولها ويضيع الكاتب ولا رجاء من مجتمع لا اعتبار فيه للكلمة..
ولا سبيل في نظري لرد الاعتبار للكاتب إلا برد الاعتبار للكلمة وهو أمر ضروري ومطلوب ما ظللنا نؤمن بأن الكلمة مفتاح وأساس رقي البشرية.. الأمر الذي يقتضي من كل ضمير حي وذي حس وطني غيور على مجتمعه ويأمل في الرفع من مستواه أن يساهم من جهته وقدر جهده في إعادة الاعتبار للكلمة.. الكاتب بالتجديد وتقديم أجود ما يمكن تقديمه. والآباء بتجسيد القدوة لأبنائهم في مصاحبة الحرف وبزرع في نفوسهم بذرة حب الكلمة بكل الإغراءات الممكنة ومنذ السنوات الأولى من أعمارهم ثم تأتي المدرسة التي أحملها، وكذا المسئولين على قطاع التعليم، المسئولية الكبرى في بخس وإبادة قيمة الحرف لدى الإنسان العربي.. فما عسانا أن ننتظره أو نرجوه من برامج تعليمية تنظر إلى التعليم على أنه شعائر تلقى في محرابها ثم ينتهي الواجب غير ما آلت إليه قيمة الكلمة لدى الإنسان العربي ؟؟.. وما عسانا أن نرجوه من مقررات دراسية تتبدل كل سنة بدعوى الإصلاح، ولم تخصص حصة واحدة أو ساعة واحدة في الأسبوع للقراءة الحرة من شأنها أن تشد وثاق الطفل بالكلمة وتربي فيه قيمة الحرف؟ ما عسانا أن نتخيله من مدارس أو مؤسسات تعليمية لا تتوفر إلى حد الساعة على مكتبة للطفل يكتشف من خلالها الطفل حلاوة الحرف وتربط أبناءنا بالكتاب ارتباطهم باللعب والأكل ؟.. وما عسانا أن نتخيله غير ما نحن عليه وما نراه.. مجتمع لا هوس لأفراده إلا مضي وقته في الترفيه والتوافه...
وأخيرا أقول لك أيها الكاتب العربي عزاؤك فيما يأتي من السنوات.. وسنتك كلها أمل وتفاؤل...
29 دجنبر 2008