الأحد ١ أيلول (سبتمبر) ٢٠٠٢
المبعدون من (كشوف البركة) التشكيلية في مصر:

سنخوض معركة شرسة ضد طابور الغرب الخامس

أطلق 14 فناناً تشكيلياً مصرياً عبر معرضهم الجماعي، الذي أقيم أخيراً في نقابة التشكيليين في القاهرة صرخة مدوية ضد من يحتمون خلف زعم التفاعل الثقافي لتمزيق هويتنا التشكيلية من ناحية، وكذلك ضد من أسموهم بالسلطويين أصحاب المصالح والحظوة والمواهب المتواضعة من ناحية أخرى .. سعياً لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، وأيضاً لاستعادة بعض ثقة المتلقين في منتج الفن التشكيلي المصري المعاصر

تشهد الحركة التشكيلية في مصر الآن، صراعاً ساخناً، بين من يرفعون شعار الدفاع عن الهوية الثقافية العربية، وطابور الغرب الخامس الذين يتسترون وراء لغة المصطلح، ويوظفون الأدوات "نقدية وإبداعية" من أجل الترسيخ للتبعية الثقافية .. اعتماداً على ضيق المساحة المعرفية لدى جماهير المتلقين.

على هامش هذ المواجهة أطلق 14 فناناً تشكيلياً مصرياً عبر معرضهم الجماعي، الذي أقيم أخيراً في نقابة التشكيليين في القاهرة صرخة مدوية ضد من يحتمون خلف زعم التفاعل الثقافي لتمزيق هويتنا التشكيلية من ناحية، وكذلك ضد من أسموهم بالسلطويين أصحاب المصالح والحظوة والمواهب المتواضعة من ناحية أخرى .. سعياً لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، وأيضاً لاستعادة بعض ثقة المتلقين في منتج الفن التشكيلي المصري المعاصر .. الذي مزقت مظلة التواصل بينه وبين الجماهير على خلفية إرث طويل من المركزية ومنظومة المجاملات وأحياناً الاستبداد التي أجهزت على الكثير من المبدعين الحقيقيين.

المثير للدهشة أن معظم المشاركين في المعرض، باستثناء بضعة أسماء محدودة للغاية من المطرودين من المنح والهبات الرسمية، أو المبعدين عن كشوف البركة التشكيلية، وفي مقدمتها الترشيحات على خارطة التمثيل الدولية، وذلك على خلفية انقسام الحركة التشكيلية الى "أرستقراط" و "حرافيش".

الجديد في هذه المواجهة .. أنها لم تقتصر على المعرض .. بل امتدت الى إصدار كتاب نقدي شديد السخونة .. واكب المعرض وحمل اسم "وهج الشرق دراسات في صلب الهوية" للناقد الفني محمد كمال، وقدم له الفنان والكاتب الصحفي مكرم حنين.

ليكون الكتاب أول مسمار في نعش التبعية .. فمهما كانت "بدلة الغرب جميلة، فجلبابنا أجمل .. لأنه ببساطة رمز خصوصيتنا مهما اختلط المرئى الظاهر أمام العيون".
في هذا التحقيق نستعرض جانباً من تجليات هذه المواجهة التشكيلية الساخنة.

أزمة

في البداية يقول الفنان أحمد الجنايني: هناك أزمة حقيقية تسود المشهد التشكيلي المصري .. حيث تعج قاعات العرض بأصحاب الحظوة من أنصاف أو معدومي المواهب .. مما جعلها لا تختلف كثيراً عما تعج به قاعات ورش النجارين والحدادين الذين يكدسونها بمختلف صنوف "الروبابكيا" ومخلفات الغرب تحت مسميات تحديثية لا علاقة لها بالفنون التشكيلية التي كانت في زمن ما "فنوناً جميلة".

أرجع الجنايني ما يحدث الى انتشار حالة من التزييف والعبث، وتقلد عديمي المواهب المسؤولية.. فضلاً عن وجود أزمة حقيقية في حركة النقد التشكيلي المصرية إما لغياب الضمير النقدي والوعي الثقافي أو الخلط بين فكرة النقد التشكيلي الذي يجب أن يلتزم بالضرورة، برؤية خاصة أكاديمية، والكتابة الصحفية التي تتبنى الجانب الإعلامي، بحيث أصبح النقد مطية لكثيرين لا علاقة لهم بالفن مما رسخ الأزمة وحالة الخواء والخلل.. ولذا يأتي معرضنا هذا خطوة جادة على طريق مواجهة مخططات سلخ وعزل هويتنا عن جسد التاريخ والتراث.

لصوص الغرب

أما الفنان حسن غنيم أمين صندوق نقابة التشكيليين التي استضافت المعرض فيقول: هذا المعرض .. محاولة لترسيخ هويتنا خاصة في ظل تعدد وسائل الغزو الثقافي بشكل مخيف، واستغلال بعض المستلبين غرباً هذه الوسائل في صك المصطلحات والأنماط الغربية، وترويجها، وصولاً الى الارتماء في أحضان الآخر بانفلات وبلا وعي .. أسفر عن مجموعة كبيرة من مهرجي الفن .. ولصوص كتالوجات الغرب الذين يعيدون نسخها، مستغلين، أو معتقدين خطأ، عدم معرفة المتلقي بها .. في الوقت الذي فضحت فيه الفضائيات وشبكة الإنترنت معظم هؤلاء الذين يسيئون بشدة للفن التشكيلي العربي..

أضاف غنيم: أفرزت هذه الأجواء كذلك حالة من التناحر صنعها مرتزقة الفن .. وما بين نقل نفايات الغرب الى الساحة التشكيلية المصرية والتكريس للتبعية القبيحة من ناحية .. وانكفاء المبدعين الجادين على ذواتهم .. بعيداً عن الضجيج الراهن من ناحية أخرى .. تفاقمت الأزمة.

الفنان مصطفى مشعل يتفق من جانبه مع ما طرحه حسن غنيم .. ويضيف بأن مشاركته في المعرض هدفها الإسهام في إيقاف التلاعب بمصير جيل الفنانين الشاب الذي أوهموه بأن التغريب هو مواكبة التطور العالمي .. بينما هم في الحقيقة وضعوه تحت مقصلة التغييب .. تحقيقاً لأهواء وأغراض شخصية من قبل البعض سواء في مواقع المسؤولية أم غيرها.

مواجهة

الفنان والناقد الفني محمد كمال الذي واكب المعرض بمجموعة من الدراسات التشكيلية حملت عنوان "وهج الشرق" وصدرت في كتاب قدم له الناقد والفنان التشكيلي مكرم حنين .. أكد أن الدافع الحقيقي وراء إقامة معرض "وهج الشرق" هو ترسيخ الهوية التشكيلية في مواجهة التغريب .. وصدور كتاب ليواكب معرضاً يعرض حالة هي الأولى من نوعها في المشهد التشكيلي .. هدفه البحث عن إجابات حاسمة للعديد من الأسئلة الموجهة حول التغريب واستبعاد المواهب الجادة من قبل السلطويين وانتشار العبث والفوضى والمسؤولية .. وهي الحالة التي نشأت عن اشتباك الأمور واختلاط الأوراق في المشهد التشكيلي خلال الخمس عشرة سنة الأخيرة من عمر الثقافة في مصر، والتي ترددت أصداؤها السلبية عربياً.

في هذا السياق ، يواصل محمد كمال: عمدت الى صك مصطلحات نقدية جديدة .. يهدف مواجهة تلك المصطلحات الغليظة المجافية لثقافاتنا، والتي يلقيها في وجهنا من وصفوا أنفسهم بالنقاد .. وهي مصطلحات في معظمها منقولة عن الغرب بلا وعي .. وكذلك أهدف الى تغيير بعض المفاهيم والأدوات النقدية ، وصولاً الى رؤى نقدية خاصة بنا.

ورداً على سؤال حول نماذج هذه المصطلحات من خلال الأعمال المشاركة في المعرض قال الناقد التشكيلي محمد كمال: من خلال الغوص في أعمال عدد من المشاركين وجدت مثلاً الحس الصوفي والومضات الضوئية واختفاء الجسد الإنساني والذوبات في نور الإله في أعمال كل من حسن غنيم ومحمد شاكر، رغم أن الأول يتعامل مع الموتيفة الإسلامية والثاني مع الطبيعة، لكن يجمعهما فكر روحي واحد.

وقد طرحت من خلال أعمال حسن غنيم مصطلحاً جديداً هو "السريالية الصوفية" وسأعمل على أن نردده يتفرد به، أيضاً وجدت في أعمال رباب نمر وشاكر المعداوي والجنايني وعصمت داوستاشي "سريالية من نوع خاص" أطلقت عليها مصطلح "سريالية اليقظة"، هي سريالية يختص بها فنان الشرق الذي يحلم كثيراً أثناء يقظته، لذا نجد إيداعاته مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بمعطياته الاجتماعية والعقائدية، عكس سريالية الغرب التي تعتمد على القطيعة مع الماضي، والترويج للهلاوس والهواجس، كذلك يشترك كل من صلاح عناني وسعد زغلول في استلهام التراث الشعبي والتوحد معه الى درجة الذوبان وهي خاصية من خصائص الفنان العربي الملتصق بشدة بأوطانه.. فيما يستخدم عصمت داوستاشي التراث من خلال الدمى والعرائس والوجوه المنسجمة مع المعتقد الشرقي بشكل عام، فيما يتحلى الحس الديني وامتزاجه بجمالية الخيال الأسطوري في أعمال إبراهيم عبد الملاك النحتية، في قطع نحتية مصرية الملامح، شرقية الروح .. وهو ما شكل البعد الثالث في ثقافة الشرق فيما تلتصق أعمال مصطفى مشعل بمفردات البيئة المصرية .. وتتجلى ازدواجية الفكر الشرقي ، والصراع بين السماوي والأرضي في بعض الثنائيات الزخرفية لعصمت داوستاشي ، بينما توحدت أعمال رضا عبد السلام مع الطبعية المصرية ، مع حضور روح تجريبية لم تتجاوز ارتباطه بالبيئة الأم في مرحلة "المراكب" كما سنلمس أيضاً الورح التجريبية في أعمال محمد فايد في حيز الانضباط، الشرقي الفطري.

ويضيف محمد كمال: أما الرمز وقدرته على تجاوز الديكتاتورية ورقابتها الحمقاء فسنجده في أعمال رؤوف رأفت ومحمد العلاوي حيث اختبأ رأفت وراء كواليس السيرك معبراً عن ديكتاتورية الحاكم الذي يخدعه الكرسي، فيصير مهرجاً في سيرك التاريخ .. بينما يستخدم المثال محمد العلاوي الجسد الإنساني كمقصد دائم لقوى القهر والطغيان.

صرخة

وحول الصرخة التي يطلقها فنانو المعرض ضد ما أسموه بالوجود السلطوي .. وهل هي السابقة الأولى من نوعها في هذا الشأن قال الناقد محمد كمال: المعرض ليس الأول من نوعه حيث سبقه عام 1995 معرض مشابه حمل اسم "معرض المرفوضين" أقيم أيضاً بنقابة التشكيليين المصرية .. قاده الفنان أحمد الجنايني الذي اضطهد لأنه قاد التمرد ضد القيادات المشرفة على تنظيم واختبار أعمال المعرض القومي الرابع والعشرين.. فنظم هو ومجموعة من المرفوضين المعرض الذي حمل ذات الاسم وأصدروا على هامشه بياناً بعد وثيقة مهمة في الحركة التشكيلية المصرية المعاصرة حملت عنوان "الفارق بين التجريب والتخريب" أما هذا المعرض فالمثير فيه أنه ضم مجموعة كبيرة من الفنانين الذين أخفتهم الحركة التشكيلية الرسمية عمداً من على خريطة الترشيحات الدولية، وحرمتهم من كشوف البركة والهبات والعطايا، فلم نر سعد زغلول يمثل مصر دولياً ولو مرة واحدة رغم أنه صاحب مشروع إحياء "حياكة التل" الشهير .. وإبراهيم عبد الملاك فرغم مكانته الكبيرة كنحات مرموق فلم يرشح دولياً ولو لمرة واحدة .. أما مصطفى مشعل ، فلم يتذكره المسؤولون إلا بعد أن تجاوز الخامسة والخمسين ، وهذا رغم ركاكة ما يقدم لتمثيل مصر.

أما الباقون ، فيقاتلون من أجل الحصول على الفتات بمنطق أنهم من "حرافيش الحركة التشكيلية"، لذا فالمعرض والكتاب مجرد رد بسيط لاعتبار هؤلاء الفنانين، وشرارة انطلاق لإحياء الضمير الفني والنقدي في الحركة التشكيلية المصرية.
في النهاية يؤكد محمد كمال على أهمية ألا نفقد في خضم التفاعل الثقافي مع الآخر هويتنا العربية .. بعيداً عن اشتباك المصالح .. ورفضنا للتبعية التي يكرسها المتغربون.

السيد رشاد
عن مجلة الاهرام العربي المصرية


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى