

شاعر بين مدينتين
لى الشاعر أحمد دحبور
التقينا أول مرة في ناصرة الجليل، صيف أربعة وتسعين وتسع مائة وألف. تحدثنا يومها عن الحياة التي تستولد الفلسطينيَّ من أجل الانتفاض، السجن حتى الموت. تحدثنا عن الأدب والقمع، عن السياسة والخبز، عن النبيذ والمنفى، عن العشق والانهزام، عن العطاء والاستسلام، عن الورد والدم، عن الزيتون والحرب، عن الإبداع والهدم، عن الشعر والنثر، عن الكرمل وحيفا، وعن الوادي ونسناسه.
انبهرت من هدوئه الصادق، وسكونه الصافي، مثلما انبهرت من قبل من إبداعاته ومكانتها، في المحافل الأدبية والثقافية، ومواقعها عند المتلقين، فأنشدت قصيدة أحبها، للشاعر راشد حسين:
"أنت مجنون ..ولن تشفى..أمامك جنة الدنيا..ولست ترى سوى حيفا.."
هو من المثقفين المتقدمين والتقدميين، يتواصل مع الثقافات الأخرى بعفوية ومحبة، ومنذ حوالي الخمسة عقود، وبالتحديد قبل عدوان سبعة وستين، القرن الماضي، وحتى يومنا هذا، يكرس كل ما يملك من أدوات إبداعاته، للدفاع عن قضية شعبه، قضيتنا، وعن قضايا الشعوب المظلومة بإنسانية راقية وحداثية، كيف لا وهو القائل:
"أن تكون شاعرا حديثا يعني أن تكون إنسانا حديثا. وهذا يتطلب، لا أن تضيف الكثير وحسب، بل أن تتخلى عن الكثير".
التقيته في الناصرة التي أهداها بعد زيارته لها، وردة وقصيدة:
وردة للناصرهْ،دمعة تسري على خد جليلي،من الجرح الجليليِّ،إلى عودة عمر أعوزته الذاكرهْدلني يا ولدي يا سيدي يا جدُّ:هل شاهدتني، من قبل،ميتًا وتحريت القيامهْ،أم أنا العائد من غاشية المنفىإلى بر السلامهْ؟إن أكن عدت، فعبئ ذكرياتي الشاغرهْرُدَّ من وجهي إلى التربة، غصنًا وابتسامهْ،إنني منها –فنَسِّبْني إليها بعلامهْ
ولج شاعرنا إلى حدائق الإبداع من أوسع مداخلها، بوروده التي حملها منذ الطفولة. بفكر ثوري تقدمي ينفذ لدواخل النفس البشرية بصياغات إبداعية، رسمها بتطور مع مضامين أصيلة مكثفة استوعبت الانفتاح الإيجابي وأقانيم الصفاء.
تخرج من مدارس وجامعات ترابنا الوطني، والتي خرجت بدورها الكثيرين من أبناء شعبنا في جميع مجالات الإبداع. تمكن شاعرنا "أبو يسار" من تدميك إبداعاته على خلفية ثابتة، بتجانس مع تنقلاتها المرحلية، بخصوصية واضحة، حيث تمكن من غمر إبداعاته الخاصة بالتجديد، والولوج إلى مغامرة عناق المجهول بحثًا عن الأفضل.
يتصدى شاعرنا لمحاولة حصر إبداعاتنا وإغلاقها داخل مفاهيم ( عَقَّادِيَّة) متشنجة بحجة الحفاظ على الأصوات والفواصل والأوتاد.
انغمست ذاكرته باستمرارية وفي أغلب الأحيان، بشكل تصاعدي، مع العذابات الدامية، فانفجرت لغته خارجة من ذاتها، محلقة وراء المدى الأسطوري والصدى الحضاري، لتسبح في آفاق المخيلة، بعد أن أينعت من أرحام الطقوس المبثوثة في الفضاءات الفلسطينية الملازمة لحياة العصافير والورد:
"خذ يدي، يا ولدي،واقرأ يدي ينبئك جرح:إنني أقرأ باللمس،لماذا لم أجد حيفا وقد لامستها؟أين أنا؟ أين تكون؟خذ يدي، يا سيدي اضربني..تُصَدِّقْ أنني حي،وفي قلبي جياد خاسرهْخذ يدي يا جد، ولتحرث دمي بالوشمتستيقظْ ينابيع،ويمتدَّ ربيع القدس من نومي،إلى يومي،وتنهدَّ السجونفلقد غردت الريح وردت بالتباريح الغصون:يا طيورا طائرهْيا وحوشا سائرهْبلغي دمعة أمي،أن حيفا لم تزل حيفا،وأني أسأل العابر عنهافي ربوع الناصرهْ".
التقيته ثانية في حيفا، حدثني عن كينات وادي النسناس، كينات أمه، حدثني عن الكرمل والبحر، عن ساحة الحناطير.. وعن الفرن.
حدثني عن حجارة الطفل الفلسطيني التي فرضت نفسها على الشعر، فأخذت القصائد وبشغف، الغرف من نبع الطفولة الفلسطينية، ومن تمردها على الواقع، بعطاء مكثف ووفاء شاسع، جعلها تختلف عن باقي طفولات العالم، بتمردها وحيويتها.
وقد رسم شاعرنا الدحبور هذا الواقع بقصيدته (حكاية الولد الفلسطيني):
لأن الورد لا يجرحقتلتُ الوردلأن الهمسَ لا يفضحسأعجنُ كل أسراري بلحم الرعدْأنا الولدُ الفلسطينيأنا الولد المطل على سهول القش والطينِخَبَرْت غبارها، و دوارَها، والسهدوفي المرآة أضحكني خيال رجالنا في المهدوأبكاني الدم المهدورُ في غير الميادينِ-تحارب خيلنا في السِندووقت الشاي ... نحكي عن فلسطينويوم عجزت أن أفرحكَبرْت، وغيرَت لي وجهها الأشياءتساقطت الجراح، على الربابة، فانبرَت تَصْدَحْبلاد الله ضيقةٌ على الفقراءبلاد الله واسعةٌ وقد تطفحبقافلة من التجار والأوغاد والأوباء-أيأمر سيدي فنكب أهل الجوع والأعباء؟-أتقذفهم؟ ومن يبقى ليخدمنا؟-إذن تصفحويوم كَبرْتُ لم أصفححلفت بنومة الشهداء، بالجرح المشعشع فيَّ : لن أصفح
وقبل الختام، أقدم لشاعرنا، جمل المحامل، مقطعًا من قصيدة (جمل المحامل) التي كتبها سنة اثنين وألفين، والتي يقول فيها:
سيؤلمك العذاب على الصليب،وربما اقترع الجنود على ثيابك،ربما لم ينتحر من سلموك،وكيف ينتحر الذينبنفسهم قتلوك ذات صبيحة ومساء.وما الدنيا سوى أسماءولكن لا عليكفإن زلزلة تراود صخرة الجبلويا جمل المحامل عدت بالأعباءولكني أبشرْلن تعود غدا إلى ما كانت الصحراء.وَأَخيرًا إِلَيْكَ يا أَحْمَدُ.. يا أَحْمَدَا.. أَبا يَسارٍ.. رَشَّةَ عِطْرٍ مِنَ النَّاصِرَهْ:لَكَ مِنَّا باقَةَ أَزْهارٍ مِنْ رُبى النَّاصِرَهْاَلَّتي قاوَمَتْ، ظَلَّتْ قاهِرَهْلَكَ مِنَّا باقَةَ وَرْدٍ مَعَ أَدْمُعٍ صابِرَهْوَلَـها ظِلٌّ فَوْقَ رُبوعٍ ناضِرَهْلَكَ مِنَّا باقَةَ أَزْهارٍ مِنْ رُبى النَّاصِرَهْوَالَّتي عَبَقَتْ بَيْنَ عُيونٍ قاصِرَهْرَقَصَتْ أَلَـمًا بَيْنَ ذِئابٍ كاسِرَهْوَٱسْتَمَرَّتْ في ٱلْعَتْمَةِ سائِرَهْرَغْمَ ظُلْمِ ٱلْقُرْبى وَعُروشِ ٱلْـخَنَى ٱلْـخاسِرَهْلَكَ مِنَّا أَحْمَدُ.. أَزْهارَ روحِ النَّاصِرَهْألقيت في حفل تكريم الشاعر في مدينة البيرة – رام الله، أواسط نيسان/2012.