الأربعاء ٧ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠٠٧
قراءة في قصة أكرم هنية
بقلم عادل الأسطة

شهادات واقعية حول موت المواطنة منى.ل

هذه قصة كان كاتبها نشرها في مجموعته القصصية الثانية "هزيمة الشاطر حسن" (1980)، ولم يكن يتجاوز الثامنة والعشرين عاما. كان هنية درس الأدب الإنجليزي في القاهرة، وعاد إلى عمان ليعمل في الصحافة هناك، وسرعان ما عاد إلى رام الله، ليعمل في جامعة بيرزيت، وجريدة "الشعب" المقدسية، محررا فرئيس تحرير. وقد تفاجأنا، نحن قراء القصة القصيرة وكتابها، يومها بصدور مجموعة "السفينة الأخيرة.. الميناء الأخير" (1979) التي احتوت قصصا كان للهم العربي، خارج فلسطين، حضور فيها. وما فاجأنا أيضا أنها كادت، مع مجموعة "الولد الفلسطيني" لمحمود شقير، وبعض قصص محمد علي طه، تكسر نمط الكتابة القصصي، فقد غلب على القصة القصيرة طابع القصة التقليدية ذات البداية والوسط والنهاية. ولم نعتد قراءة قصة تفيد من الصحافة والسينما في بنائها. وربما ما فاجأنا أيضا أن كاتبها أخذ يبنيها، في جانب منها، على قصص تراثية، فقد أفاد من التراث الشعبي "ألف ليلة وليلة" ومن التراث الرسمي "النابغة الذبياني" وواصل ذلك في مجموعته الثانية والثالثة، إذ أفاد من تغريبة بني هلال.

بين يدي القصة:

تدور القصة حول مواطنة مقدسية هي منى.ل، التي اعتقلت وسجنت، وبعد أن خرجت من سجون الاحتلال، كان من المستحيل أن تبقى في القدس، فآثرت السفر إلى مدينة عربية، لم يحددها الكاتب، وأخذ أهلها يزورونها بين فترة وأخرى.
في المدينة العربية لم تنقطع منى.ل الشاعرة والرسامة والسياسية عن مواصلة نضالها، وقد تعرفت إلى شاب اسمه سعيد، شكلا معا ثنائيا رائعا، وتعرضا للاستجواب من نظام المدينة العربية، وضيق عليهما حتى أنهما فصلا من عملهما، وحين أخذت تبحث عن عمل، كان أصحابه ينظرون إلى تقاطيع جسدها أكثر مما ينظرون إلى شهاداتها، ولم يختلف مثقفو المدينة عن أصحاب العمل، فقد حاول نصفهم أن يعلقها.
وستنتهي العلاقة بين سعيد، ومنى بالانفصال، فلقد أراد هو أن يتدخل في كل شأن من شؤون حياتها، أراد أن يتدخل حتى في اختيارها ملابسها وفي قصة شعرها. وفيما ذهب هو إلى دولة خليجية ليعمل فيها، وأصبحت حياته المادية فوق الريح، ما جعل أحد المحققين يقول: اطعم الفم تستح الأيديولوجيا، فيما ذهب سعيد إلى دولة خليجية ظلت منى.ل مقيمة في المدينة العربية، لأن نظامها رفض السماح لها بالسفر.

وكما يتضح من مذكرات منى في دفترها، فقد كانت تبدي استعدادا لتقديم تنازلات لسعيد من اجل أن تستمر العلاقة بينهما، ولكنه كان يريد المزيد والمزيد من التنازلات، وهذا ما لم تستطع أن تفعله. هل أراد القاص أن يقول لنا هنا إن الرجل العربي يريد امرأة خاضعة مطيعة يسيطر عليها وعلى سلوكها، ويتدخل في أدق تفاصيل حياتها، حتى لو كان هذا الرجل تقدميا في أفكاره؟

صمدت منى.ل وتحملت، ولم يصمد سعيد، فهاجر إلى دولة خليجية، وأصبح إنسانا آخر غير الذي كان، وربما كان حاله حال آلاف التقدميين العرب ممن بدأوا حياتهم ثواراً وانتهوا موظفين يبحثون عن لقمة عيشهم ومستقبل عائلاتهم الشخصي، ولا شك أن من كان قريبا من اليسار يعرف عشرات الأشخاص الذين يشبهون سعيدا. هل أقول أيضا إن هناك عشرات مثل منى.ل؟

في التذييل الذي كتبه القاص حول عدم ذكر الاسم الثاني لمنى، واكتفائه بالحرف الأول، ما يشير إلى أنه قد يوجد آلاف مثلها في العالم العربي، وأنها ليست حالة استثنائية. والقاص نفسه، أكرم هنيه، يتعاطف مع منى، ويبدو معجبا بها، وكان يتمنى لو تعرف إليها، قل موتها. وعموما فإن قصصه التي كتبها في هذه الفترة أبرزت نماذج شبيهة لمنى، مثل قصة "وردتان للزميلة ندى". ويبدو أن إقامة الكاتب في القاهرة، وتعرفه في الجامعة إلى طالبات مناضلات، كن زميلات له، وإعجابه بنشاطهن السياسي، هو ما دفعه لأن يكتب في التذييل:
"تعمدت عدم نشر الاسم الصريح الكامل للمواطنة منى.ل"، ربما لأن في بعض الشهادات شيئا من خصوصيتها، وربما لأن هناك آلافا مثل "منى.ل" ". وعموما فإن فلسطين عرفت في تلك المرحلة مناضلات قاومن الاحتلال وسجن وعذبن وصمدن، وواصلن مشوارهن بعد إبعادهن.

قراءة في العنوان:

يوحي لنا العنوان بأننا سنقرأ شهادات، لا قصة قصيرة، ويوحي لنا بأنها واقعية وليست من نسج الخيال، علما بأن قصص هنية السابقة واللاحقة كانت تعتمد في كثير منها على الخيال واللامعقول، مثل قصة "بعد الحصار.. قبل الشمس بقليل" وقصة "مؤتمر فعاليات القرية يصدر نداءً هاماً".
ويعزز العنوان موت منى.ل، لا انتحارها، علماً بأن القصة تورد مفردة الانتحار مراراً حتى لتطغى هذه على مفردة الموت. والذي عزز، في المتن، الانتحار، التقرير الذي كتبه الطبيب الشرعي حين شرحت الجثة.

ومنى.ل، من خلال العنوان، مواطنة. وربما رأى قارئ القصة أنها مواطنة عادية، وربما تساءل: وماذا يهمني في الأمر، فهناك عشرات المواطنات اللاتي يمتن يوميا. قد يمتن لأن أجلهن انتهى، وقد يمتن لأن مرضا ألم بهن، وقد يمتن بحادث سيارة. وحين يقرأ المرء القصة يكتشف أن منى.ل ليست مواطنة عادية، وأن سبب موتها ليس واحداً من الأسباب السابقة. إنها مواطنة مختلفة، وقد دفعها إلى الانتحار عوامل عديدة: البعد عن الوطن بسبب الاحتلال الإسرائيلي، وتخلي الأصدقاء عنها، والقمع الذي يسود المدينة العربية، والحصار الذي أخذت تعاني منه، وبقاؤها وحيدة بعد أن تخلى صديقها عنها، وترك صديقتها سامية الشقة التي كانت تقيم معها فيها وسفرها إلى الكويت، ومواصلة التحقيق مع منى ومنعها من العمل.... الخ.
ولن يقرأ المرء، كما سنرى، شهادات قيلت بعد موتها، شهادات قالها محبوها وكارهوها وحسب، وإنما سيقرأ أيضا نصوصا كتبتها من قبل موتها.

مكونات القصة:

يدرج أكرم هنية قصته هذه ضمن مجموعة قصصية، ما يعني أنها قصة قصيرة، لكن أكرم هنية المؤلف الضمني في القصة نفسها يذكر أنها في الأصل تحقيق صحفي حول موت المواطنة منى.ل كان أعده، ذات يوم، وهو يعمل في صحيفة يرأس تحريرها شخص آخر غيره. كان أكرم هنية الموظف في الجريدة، يتلقى التقارير والأخبار ويدققها ويعيد صياغة ما فيها من أخطاء، ولفت نظره، ذات ليلة، والعمل يسير روتينيا، تقرير أحد المندوبين، وكان فيه خبر يقول: "عثر الليلة الماضية على جثة لفتاة تدعى منى.ل، في شقتها في شارع... وتبلغ من العمر 27 سنة ويعتقد أنها أقدمت على الانتحار، وقد نقلت جثتها إلى الغرفة السوداء لتشريحها".

وسيتابع المحرر الخبر وسيسأل صاحب التقرير إن كان لديه المزيد من المعلومات، وسيتصل بمحرر الصفحة الأدبية إن كان لديه معلومات عنها، وسيعرف أنه التقى بها ذات نهار وأنها أهدته ديوانها "أوراق شتوية ملونة"، ديوانها الذي لم يقرأه في حينه.
وسيظل خيال منى.ل مسيطرا عليه، وسيتساءل: لماذا تقدم فتاة رقيقة كهذه في وقت مبكر على الانتحار؟ وهكذا يبدأ يتابع الموضوع، فيقرأ دفتر مذكراتها وديوان شعرها ومقالاتها التي نشرتها في الصحف، ومقالات أخرى نشرت عن لوحاتها، وسيقابل صديقتها سامية، وعامل المقهى الذي كانت تجلس عليه، وزميلاتها في المدرسة، وصاحبة الشقة التي كانت تسكن فيها، وبعض طالباتها، والمحقق والطبيب الذي شرح الجثة، وسيرسل رسائل إلى صديقها سعيد، وإلى صديق صديقها، وسيقابل بعض هؤلاء أيضا. وستتشكل القصة/ الشهادات من المقدمة التي كتبها هو: أكرم هنية، ومن اثنتين وأربعين شهادة ومقابلة ورسالة واقتباس من مذكرات منى وديوان شعرها.

هل نحن إذن أمام قصة؟

أشير ابتداءً إلى أن عنصر التجريب في القصة واضح جدا، وسمة التجريب سمة تميز نتاج أكرم هنية بخاصة، وقد سبقه إلى هذا، كما ذكرت، قاصان آخران: شقير ومحمد علي طه. لكن تجريب هنية سيبدو مميزا أكثر، وهنا نحن أمام قصة أفاد في بنائها من عمله صحفيا.
ستشكل مذكرات منى وديوانها الجزء الأكبر من القصة، فقد بلغت سبع عشرة قطعة من اثنتين وأربعين، وستشكل شهادات صديقتها سامية والمقابلات التي أجراها معها الكاتب الضمني: أكرم هنية، ست قطع، وهي الأكثر من بين شهادات الآخرين الذين قد نصغي إلى رأيهم مرة أو مرتين يبدون فيها آراءهم فيما حدث مع منى وفي منى نفسها، وقد لا يبدون، كما حدث مع صديقها سعيد الذي آثر، حين أرسل إليه المؤلف الضمني رسالة يطلب منه فيها معلومات عن علاقته بمنى الصمت، داعيا إلى ترك الأموات يستريحون في قبورهم.

يكتب المؤلف الضمني في المقدمة التي صدر بها الشهادات التي شكلت التحقيق الذي لم ينشره رئيس التحرير، على الرغم من أنه دفع المكافأة لصاحبه، يكتب أنه بعد سنوات من كتابة التحقيق قرأه من جديد وهو يقلب أوراقه القديمة، وهذه هواية محببة إلى قلبه. وينشر أكرم هنية هذه الأوراق ضمن مجموعة قصصية. فكيف كان ترتيب الأوراق وما هي مكونات القصة؟

أولا: تصدير أكرم هنية.

ثانيا: الشهادات وهي مكونة من اثنين وأربعين مقطعا على النحو التالي:

1- عامل في مقهى.. في حديث خاص مع الكاتب.

2- من تقرير سري رفعته مديرة المدرسة التي عملت فيها منى، وحصل عليه الكاتب عن طريق رشوة أحد الموظفين في دائرة التربية.

3- من رسالة بعثت بها منى إلى سامية قبل أسابيع قليلة من موتها.

4- من دفتر مذكرات وخواطر منى. (ويرد اقتباس من هذا الدفتر في المقاطع 15، 18، 19، 22، 24، 26، 32، 35، 39، 41).

5- طالبة ثانوية درستها منى في حديث مع الكاتب.

6- من مقال كتبته منى في إحدى المجلات الشهرية العربية في استطلاع حول دور المرأة الفلسطينية والعربية.

7- إحدى زميلات منى في التدريس.

8- زميلة أخرى لمنى في التدريس.

9- سامية في حديث مع الكاتب عندما قدمت من الكويت في إجازة. (نصغي إلى سامية ونقرأ بعض كتاباتها في المقاطع: 12، 17، 20، 28، 30، 36، 38، 42).

10- محقق استجوب منى في حديث عبر صديق مشترك له وللكاتب.

11- من تعليق كتبه أحد النقاد التشكيليين حول لوحات منى، ونشره في صحيفة يومية.

13- الطبيب الشرعي الذي قام بتشريح الجثة في حديث مع الكاتب.

14- سعيد.م- أبو ظبي. رد من سعيد م. على رسالة بعث بها الكاتب إليه يسأل فيها معلومات محددة عن منى.ل.

21- من تقرير الشرطة ليلة اكتشاف جثة منى.

23- أحد معارف سعيد.

25- من ديوان منى "أوراق شتوية ملونة"، تاريخ الصدور: صيف 75، مكان النشر غير مثبت.

27- الطبيب الشرعي في حديث ثان مع الكاتب بعد أن توطدت العلاقة بينهما.

31- من رسالة إلى سامية.

33- صاحبة الشقة التي كانت تسكن بها منى في حديث مع الكاتب.

37- طبيب عالج منى.

40- صاحبة الشقة التي كانت تسكن فيها.

تعدد الأصوات والأسلوب:

لم نقرأ، في أدبنا الفلسطيني، في الأرض المحتلة، إلا ما ندر، قصصا وروايات، اتبع كاتبوها فيها أسلوب وجهات النظر. لقد حاول ذلك مصطفى مرار في مجموعة قصصية له، ولكن لم يلتفت إليه يومها، لأنه لم يلتفت إلى أدباء كانوا قريبي الصلة من الأحزاب الإسرائيلية الحاكمة. أما في أدبنا بشكل عام فربما يتذكر المرء كنفاني في "ما تبقى لكم" (1966)، وجبرا في "السفينة" (1970) وفي "البحث عن وليد مسعود" (1978). والسؤال الذي أثيره هو: هل قصة "شهادات واقعية..." تدرج تحت هذا الأسلوب؟

أوردت مكونات القصة لأقول إن هناك تعدد أصوات فيها، وأنها كانت لأصدقاء منى ولأعدائها، وكنا أيضا نصغي إلى صوتها هي من خلال دفتر مذكراتها. وهذه الأصوات هي للعامل ولمديرة مدرسة منى، ولطالبة علمتها، ولزميلتين لها، ولمحقق، ولناقد تشكيلي، وللطبيب الشرعي، ولأحد معارف سعيد، ولسعيد نفسه، ولصاحبة الشقة التي كانت منى تسكن فيها، ولطبيب عالجها.

ولأن موت منى كان مفاجئا، ولأنها لم تكن مواطنة عادية، ولأن أكرم هنية الصحفي أراد معرفة الحقيقة، ولأن لمنى من يحبها ومن يكرهها، فقد كان هذا الأسلوب مناسبا جدا لبناء القصة. وأرى أن الكاتب كان موفقا في ذلك.

الموقع والموقف:

يتحدد موقف الآخرين من منى اعتماداً على موقعهم وثقافتهم أيضا. قاومت منى الاحتلال، وأن تقاوم فتاة عربية المحتل وتسجن، فهذا يعني الكثير لمجتمع محافظ، ولهذا لم يرتح أهلها، وفضلوا أن تقيم خارج القدس، في بلد عربي. وهناك لم تهدأ منى، لقد واصلت نضالها الاجتماعي، وهذا ما أرق النظام هناك ومن يسيرون في فلكه، ومن يرغبون في حياة هادئة مستقرة بلا مشاكل. ومن هنا لم يرتح لمنى كل من صاحبة الشقة التي تقيم فيها، ومديرة المدرسة التي تدرس فيها، وبعض الزميلات ممن ينشدون الراحة، والمحقق. وليس مثل هؤلاء عامل المقهى الذي كانت منى تتردد عليه، وإحدى الطالبات التي علمتها منى. وسنجد أن سعيدا لا يعلن أي موقف سوى الحياد وطي صفحة الماضي، وذلك يعود إلى موقعه الجديد، فقد غدا موظفا في دولة خليجية، وثريا جدا، وليس غريبا أن يكرر أحد الأصوات المثل التالي: اطعم الفم.. تستح الأيديولوجيا، واصفا ما آل إليه سعيد الذي كان ثوريا. وكل من كان يساريا في السبعينات من القرن العشرين يعرف نماذج أخرى تشبه سعيد، فإذا كان أكرم هنية لم يعلن اسم عائلة منى، مكتفيا بالحرف الأول، فإن قارئه يمكن أن يشير إلى عشرات مثل سعيد، ويشير إليهم بالبنان، ومن المؤكد أن عشرات القراء، في أماكن مختلفة، يعرفون آلاف الأشخاص الذين يشبهون سعيد.

إن تعدد الأصوات في القصة يعكس مرايا متنوعة لمنى، ويمكن قراءة رأيين اثنين، رأي زميلة لها في المدرسة، ورأي إحدى طالباتها:
الزميلة: "اذكروا محاسن موتاكم.. لو لم تكن تتدخل فيما لا يعنيها ولو لم تحمل السلم بالعرض لعاشت حياة سعيدة".
الطالبة: كانت تشعرنا أنها أختنا الكبيرة... لا أتذكر أنها أساءت إلى واحدة منا. كنا نحبها ونحمل لها الورود كل صباح.. حدثتنا كثيرا عن الوطن البعيد.. لقد بكت كل الفتيات عندما سمعنا عن موتها..."
وقد تبدي لها بعض الأصوات صورة سلبية، مثل صاحبة الشقة، ولكن الأخيرة مصابة بالفصام، فهي تتهم منى في أشياء تمارسها هي.

مرآة منى:

تبدو منى مناضلة على الصعيدين: الوطني والاجتماعي. إنها تسعى لتحرير وطنها من الاحتلال، وتسجن لنشاطها، وحين تقيم في المنفى تواصل النضال من أجل مجتمع حر تسوده العدالة والحرية، وتدفع ثمن ذلك. تفصل من وظيفتها في المدرسة، ولا يوظفها أصحاب الشركات، لأنهم يخافون من نشاطها، هؤلاء الذين ينظرون إلى جسدها أكثر من نظرتهم إلى شهاداتها وكفاءتها. وحتى صديقها سعيد الذي كان مبدئيا، حتى سعيد تخلى عن مبادئه وتنازل للنظام وترك المدينة ذاهبا إلى دولة خليجية أصبحت فيها فوق الريح.

هل كانت منى مثالية؟ كانت هي نفسها تسأل ذاتها إن كانت كذلك، وكانت، كما تدون في دفتر مذكراتها، على استعداد للتنازل من أجل أن تظل علاقتها بسعيد قائمة، لكنه كان يريد المزيد والمزيد من التنازلات، لدرجة أنه أخذ يتدخل في لباسها وقصة شعرها. كأنما يريدها تابعة وبلا شخصية. هذا ما تقوله هي، فلا نسمع نحن صوت سعيد. وهذا ما يقوله الكاتب أيضا، المؤلف الضمني.

ومنى مثقفة وشاعرة ورسامة وعلى قدر من الجمال. وكان يمكن أن تحقق حياة هادئة ومطمئنة وعلى قدر من الاستقرار، لو لم تتدخل في السياسة، وتشارك في النضال الاجتماعي.

والسؤال الذي يثيره القارئ: هل ثمة وجود في مجتمعنا العربي لفتاة مثل منى؟ كان المؤلف أجاب في بداية قصته عن هذا السؤال، مستخدما كلمة ربما، ربما يوجد آلاف مثلها. ومن ينظر في واقعنا الفلسطيني فإنه، لا شك، واجدٌ مثلها. وربما أشير هنا إلى عائشة عودة وكتابها "أحلام بالحرية"، وكتابتها عن تجربتها وتجربة نماذج نسوية فلسطينية مشابهة.

وعموما فإن أكرم هنية، في قصته هذه وفي قصص أخرى كتبها، أبرز صورة إيجابية للمرأة: المرأة التي تصمد في الأرض على الرغم من ترك زوجها لها، وسفره إلى أمريكا والشتات، والطالبة الجامعية ندى التي تشارك في المظاهرات في الجامعة، والمرأة التي تقاطع زوجها حين تعلم أنه كان سمسارا أو باع أرضه لليهود. ونادرا ما أبرز صورة سلبية لفتاة أو لزوجة. أو للمرأة عموما؟ لا شك في ذلك.

كلمة أخيرة:

ثانية، يثير المرء، وهو يقرأ القصة المختارة للدراسة، سؤال الجنس. هل هي قصة قصيرة أم إنها كولاج- أي خليط من أنواع كتابية مختلفة؟
في القصة كم لا بأس به من المذكرات، وفيها إشارة إلى اقتباسات من رسائل عديدة، وفيها مقطع شعري، وفيها مختارات من مقالات، وتبدو أقرب إلى التحقيق الصحفي. ولقد أفاد كاتبها من هذا كله.

ويبقى أن مؤلفها أدرجها ضمن مجموعة قصصية، موقعا بذلك عقداً مع القارئ أنه سيقرأ قصة قصيرة. ثمة في القصة قدر كبير من التجريب، وثمة إفادة من الصحافة، ولعلنا لم نلحظ في قصة قصيرة أنجزت في الأرض المحتلة كلها، هذا القدر الكبير من التجريب. وتلك هي خصيصة هنية الذي، لا شك، أضاف إلى قصتنا القصيرة الكثير الكثير، مثله في ذلك مثل محمود شقير، ولقد كان هاجس التجديد والتجريب والإضافة النوعية يغلب عليهما، ويميز كل نتاج جديد لهما.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى