السبت ١٥ كانون الثاني (يناير) ٢٠٢٢
بقلم الحسان عشاق

صائد المتشردين

السابعة صباحا الشارع الرئيسي يعرف حركة دؤوبة، تجار يفتحون الدكاكين مقاهي تستقبل الزبناء، سيارات تنهب الطريق، دراجات هوائية ونارية وشاحنات، موظفون يهرولون، طلبة ظهورهم مثقلة بالمحفظات المحشوة بالكراسات والكتب، يسابقون عقارب الساعة لوجهات مختلفة، الحديقة الكبيرة خالية من الناس، الكراسي فارغة متلفعة بالصمت، ثمة عصافير تنقر الحب في هدوء، عامل يجمع اوراق الشجر بخراشة، اشجار تصاب بالصلع في فصل الخريف، تجدد الطبيعة أغلان عن التكاثر، التكاثر يعني الحياة و الموت، الانسان ضعيف امام دورات الزمان يمضي مبتسما، متجهما، غاضبا، نحو المرئي واللامرئي، نحو الشيء واللاشيء، نحو العدم.
صوت الخراشة يرتفع بين الحين والآخر، عصافير تنقب الحب وتطلق الزقزقات، على مقربة من سور الحديقة شجرة زيتون كبيرة تغطي مساحة من الأرض، كومة رماد وبقايا قطع الكرتون، في الليل تتحول الشجرة إلى مزار حقيقي للمتشردين والبدون مأوى، مدمنون ومجانين، حشاشون ومتسولين، شمامو غراء تصليح العجلات، شجرة الزيتون ذات الجذع السميك والأغصان الوارفة الظلال أشبه بالقبة يتسرب الضوء خفيفا من بين الأغصان والأوراق الكثيفة والمتداخلة، كل يوم أجساد تتكور حول النار اتقاءا لبرد الشتاء القارس وحرارة الصيف، تستنشق رائحة الدخان المر، وجوه مسربلة بالفقر والجوع والمعاناة، يقتاتون على بقايا الطعام، يدخنون أعقاب السجائر، يستهلكون الكحول الرديئة، يأتي الأنين ويستفحل الخوف في الاطراف، عبر المذياع يأتي صوت مغنية تتغنى بجمال الطبيعة والصبح القابع خلف الغمام،صوت يسقي بدور الصمت، يصيخ السمع ويلاحق الموسيقى الشجية، يتلون الصوت الملائكي برائحة الدخان، يتناثر السخام مع هبة ريح، اقترب من الشجرة القبة، ظل للحظات طويلة واقفا يتفرس في الهيكل المحاط بقطع الكارتون، أسمال رثة وارجل مندسة في حذاء مطاطي مثقوب، قناني الخمر الرديء الفارغة، بقايا غراء الدراجات الأصفر، أعقاب السجائر السوداء الرخيصة تملأ المكان، مخلفات جلسة ليلة امس، جسد بدون حراك، تأمله كثيرا ولا تنفس، الراديو الاسود المعلق في غصن الشجرة بتقيؤ أخبار الصباح، يتمنى يوما جميلا للمستمعين الأوفياء، متمنيات لترميم وقع خطوات المبكرين، فغر فاه سهم مغروس في الصدر جهة القلب، العيون الجاحظة تحدق في الأغصان الكثيفة، بقعة الدم المتخثرة امتزجت بالتراب، ترك الخراشة وكومات اوراق الأشجار وهرول إلى الشارع مذعورا، مرتبكا، اسرع للشرطي في المدار الطرقي٠

 هناك قتيل تحت الشجر
 اين٠٠٠؟
 تحت الشجرة الكبيرة٠٠٠ داخل الحديقة

يتلون الصباح برائحة الموت، تتبعثر الكلمات وتتدلى الاسئلة من سقف الجمجمة مضمخة بعطر نسائي قوي، اسئلة حبلى بدوافع الجريمة والاسباب، ادلة شحيحة في مسرح الجريمة، تدخل الجثة في الكيس الاسود، تحمل إلى مساحات مبللة برائحة اليود والمشرط، التشريح سيجيب عن ساعة القتل العمد، سحب الطبيب السهم المنغرس في القلب، خمن بوليستي أن السهم انطلق من مكان بعيد، القاتل متمرس في الرماية بالقوس، راس السهم حاد صنع من قضبان تستعمل في أساسات المنازل والابنية، عولج بالمطرقة والسندان، استطال واستوى، وقطع لأجزاء صغيرة، بري وشحذ واصبح سلاحا فتاكا، ينساب في الحوباء شعور غريب بالفراغ القاسي، الجثة لا تقدم أية إجابات، القاتل قد يكون أي شخص، من يريد القصاص من متشرد يقتات على الفتات وينام في العراء، يؤذي نفسه ولا يؤذي أحدا، مشاهد القتل تعلن خريف الإنسانية والمشاعر، في الإنسان يوجد حيوان لا عاطفة له ولا عقل، ربما الموت أرحم من عبث الحياة المتشردة٠

يغوص بوليستي في تجاويف ومنعرجات التخمينات والاستنتاجات المطلسمة، يدور في حلقات مفرغة بحثا عن بصيص أمل، تنطفىء الحماسة ببطء شديد مع مرور الوقت، الأدلة فنار في الظلمة للمحقق للوصول إلى الحقيقة، بدون ادلة دامغة يبقى عالقا بين الفرضيات والتخمينات وانتظار المفاجآت، الاعتقالات العشوائية تزيد من تعقيد البحث، نظرات قريبة من الامتعاض والسخط والغضب تبارز عقارب الساعة، مفتشة مزهوة بالشباب والجمال والرشاقة، لا تكف عن الثرثرة وإبداء الرأي، تسجل ملاحظات وتقدم مقترحات مقدودة من فردوس الخيال الجامح، مقترحات تطارد المستحيل وتزحف كلما ابتلع الظلام فجوات النور، خمن أن زميلة العمل لربما مهووسة بالمسلسلات وأفلام المهمات المستحيلة لمحققين خارقين يطاردون السفاحين والقتلة ويجرونهم إلى المقصلات والكراسي الكهربائية، ترنو إلى عين الأدلة الباهتة وتجتهد لتفك الغطاء عن متاهات اللغز، لتنتصب شامخة واقفة على رقصة الشمس، استخرجت الأدلة الشحيحة المرقمة، السهم صنع من قضيب حديدي، زجاجات الكحول الفارغة وأعقاب السجائر قدمت عشرات البصمات، أسماء الأغلبية موجودة في سجلات المتشردين، يدخلون السجن ويخرجون بسبب الحملات، وغالبا ما يتم جمعهم ونقلهم إلى مدينة أخرى تمهيدا لزيارة مسؤول مهم، سياسة التلميع نوع من أنواع البهرجة للتغطية على العفن الموجود في المدينة، سياسة يمارسها اغلب المسؤولين الصغار لاستقبال المسؤولين الكبار، مسؤولو الوطن الكسيح يمارسون نفس الرياضة، الكل ينافق الكل لمصلحة النظام الشمولي، تغلق في الوجه نوافذ الضوء، تلقي الملاحظات والكلام على عواهنه، إيماءات مبهمة المعنى والطلاسم المشفرة تعترض السبيل، بوليستي يشفي الغليل من لذة الصمت، يكتفي بالنظر وتقليب عشرات المحاضر، متشردون تفوح منهم رائحة الحموضة والنتانة، يقفون امام المحقق، اغلبهم ميتون وقوفا، الزمن توقف عندهم مند سنوات، يبحلقون في الفراغ وبعضهم يحاور أشباحا غير مرئية، فوج وراء فوج يتقدمون امام المحققين، سحنات كالحة و الفقر استباح أقاليم الروح، نظرات حائرة تورق في الحوباء شهقات حزن، يستحمون في يم الخوف والرهبة، منكمشون، منهكون، صرحاء دون أن يتزينوا بشفاه المراوغة أو برنات تجميل الكلام، مجموعة معتوهين وفاقدي الأهلية جار عليهم الزمن، يموتون بالتقسيط الممل كل ساعة ودقيقة وثانية، عراة جاؤوا إلى الدنيا بلا ثياب، من الظلمة إلى المحن، السجن افضل بكثير لهؤلاء، سيجدون مأوى وطعام وأفرشة، شريحة منفصلة عن العالم لا تشعر بالخوف وقلق من المجهول، تيار هواء خفيف يتسرب من النافذة، يقلل من الرائحة الكريهة المنبعثة من الأجساد المحشوة في الألبسة المرقعة.

 هؤلاء المتشردين يعيشون في عالم آخر ولا اعتقد أن بينهم من ارتكب الجريمة
 يجب الاحتراس خوفا من المفاجئات
 ابصم بالعشرة أن الجاني ليس متشردا
 كيف عرفت
 الحدس

المحققة هنفاء الوافدة الجديدة إلى وحدة مكافحة الجريمة دائمة التشكي والتذمر، تغمس أنياب الفهم في إيفادات المجرمين، تشرب حبر الحروف والتفاصيل الدقيقة، ملامح مشوشة دائمة التوجس والاحتراس، منذ سنة تتحرك بوجه ملبد بالحيرة، تطير الحمامات من المخيلة لفضاءات الوهم من الجالسة على الكرسي المهترئ، تتفحص بدقة الوجوه الكالحة، الآتون من وجع حروب العيش الشقي، مكبلي الأيدي إلى الوراء، يصابون بالعجز عن سؤال الهوية والانتماء والاسم والنسب ومكان الولادة، يفتشون عن حروف الأسماء من مغص الانتماء، يستحضرون من محفظات الذاكرات المثقوبة صورا مسربلة بالتجاعيد، يصلبون جماعة على جمرات من برزخ الجحيم، لا ينتمون لأي وطن ولا عرق، عابرون في صمت بلا ضجيج، منفصلون عن الواقع، و الواقع منفصل عنهم.

تصاب بالذهول من الثرثرات الفارغة، والتحديق القوي في الفراغ، ترتجف الأجساد والصمت اجوف، تكبر الحيرة بين أنياب العدم، هنفاء تسقط في أول اختبار وتتعثر بين دفات اللحظة العصيبة، الرجل ذو الملامح الطينية واللحية الكثة، يرفض الكلام، ظل يدندن أغنية كلاسيكية ( يا الغادي فالطموبيل ها العار ديلي لخـبار...)، آخر يكتب كلمات في الهواء، أصابع سوداء وأظافر متسخة طويلة، ثالث يؤذن كل دقيقة على وقع الاسئلة، ورابع يسب ويهش خيالات حيوانات تحاول افتراسه، كلاب تحاصره تمسك بالاسمال، استنفدت طوال ساعات بارودة الطلقات الأخيرة، تضرب كفا بكف وتزفر، طائر يرعى في حقول التيه تفرمه المصيدة، تحتضن بؤسا مؤقتا في بلاد مليئة بالجحود والنكران واللعنات، والحقد يتلو على الناس آيات الضرب من تحت الحزام، لا احد يفوز بالطمأنينة، آلاف الحواجز تحبط الحالمين بالتقدم والتفرد والتغريد خارج السرب، يأخذون قهرا إلى القلق الوعر، يتوقف الوقت ويصابون بعسر الفهم والإدراك، لا حل سوى تقطيب تجاعيد الهزيمة بآلاف الآهات، لم تنم تلك الليلة عاودتها مشاهد التحقيق والرائحة التي أزكمت الانف رغم رشها مرات عدة معطر الجو، تغلق العيون من منظر يتكرر في الأشلاء، لا شئ يسعد فوق السرير البارد، الوحدة موحشة كالظلام في ليلة ماطرة، تدور في المتاهات وتقطع الأدراج الأولى صعودا إلى روابي الفشل، الإحساس بالهزيمة يكبل العقل، في المدى المفتوح تتناثر الصور الكالحة وأسماء المحققين الناجحين، الدنيا أسوار وطموحات وتنافس شقي على المناصب و الأوسمة، لا تريد أن يمتلأ الشراع بالريح، رفضت الزواج من اجل تحقيق حلم التفوق والتقدم المهني، تحلم بمنصب كبير في جهاز الأمن، عرسان كثر طرقوا الباب لكن الشروط المسبقة أوفقت المد، من دفتر مبلل بعبارات الاستجواب اندفعت في المخيلة صور المحققين، ومن شظايا الإجهاد رقصت أوشام الذكريات القريبة التي ما تزال تنفخ في الرئة، انسلخت من الأنثى اللطيفة المسالمة الهادئة، طلعت أنثي أخرى قاسية، طموحة،جريئة مخبأة تحت الجلد، الجانح يركض في الزقاق، اللعين نشل حقيبة سيدة طاعنة في السن ورصدته العيون، لاحقته ركضا وأحست بالرئة تكاد تنفجر، يصعد التمرد إلى السماء، يأخذها الحلم إلى حقول ونشوة الانتصار وتثبيت الأقدام، فاض الدم في العروق، استفاق الوجع القديم في الأحشاء، دبت في أطراف التحدي رجفة العياء، لم تستسلم داومت الركض، أمتار تفصلها عن الجائزة، ستسكب حروف الجريمة على طاولة الاحتفال، المسافة تضيق، تضيق، العرق يتصبب من الإبطين باردا، إحساس كبير بالاختناق والسعال، عرقلة بالرجل اليسرى، ارتفع في الهواء وسقط متكورا، طارت سحابة من الغبار وعلت التصفيقات، صفدته ودفعته إلى داخل السيارة الموشومة، أحست بفرح عارم لحظة القبض على الجاني، جاءت التهاني من كل جهة، تهاني جعلت النسوة مورقات، تنغرس الفرحة عميقا في خلايا الروح، هنفاء ما تزال في أول الوقت وينتابها غرور عميق، ستتفوق على المحققين المخضرمين، تمايلت على نغمات وكلمات الإطراء، داعب الإحساس بالزهو أروقة الساعات و الأيام، تتلقى التحايا والتشجيع صباح مساء، تمر الأشهر وتظهر كفاءة عالية في فك شيفرات الجرائم، لعلع الاسم خارج الإدارة وفرقع في أحياء المدينة،سطر لها سطر في كتاب المجتهدين.

السهم صناعة تقليدية صرفة، قطعة حديد مثبتة بإحكام على غصن زيتون جاف في مؤخرته ريشات، تعيد طرح فرضيات بديلة تهدم السابقة ويتلاشى كل شيء في لحظات، بداية الهدوء بعد الضجيج والصخب، تحرك الرأس يمنة فيسرة تتمرد خصلات الشعر على الوجه، تعض على الشفاه، تزفر، تتأوه، تضيق المسافات في كهف التحقيق وغرف الاستجواب، يتفتت الأمل وتذوب التكهنات المبتورة وتتهاوى لائحة الاتهام، كل شيئ يقود إلى الطريق المسدود، لا احد يستعجل القبض على الفاعل، القتيل مجرد متشرد بدون عائلة.

يتلقى مكالمة على الصباح تخرجه من أنياب اللحظات الشقية في تقليب المحاضر، انطلقا إلى دار مهجورة، الإخبارية تفيد بوجود جثتين لمتشردين، ناطور الحي شاهدهما بالأمس في حدود الساعة الواحدة بعد الظهر يفترشان الأرض وسط ركام الأحجار والأتربة، اشعلا نارا وطبخا ما يشبه دجاجة في صفيحة معدنية، جلبة تعم المكان الهادئ، سيارات موشومة وعيون متلصصة تراقب الجمهرة تكبر، دم كثير ابتلعه التراب، جثة ترنو إلى السماء، بقع دم تحدد المسافة التي قطعها قبل السقوط، التصويب محكم والتسديد أصاب الهدف بدقة عالية، الجثة الأخرى مندسة الرأس في التراب، خاض بصعوبة معركة في الهواء لاستنشاق جرعة الحياة، استلقى بدمه المسفوح في ساحة اللاعودة، السهم اخترق الجانب الأيسر مزق الأسمال الرثة واستقر في الرئة،كلاهما مشيا في الطريق الخطأ إلى الحتف المؤكد، فريق المحققين يلتقط الصور، طاف بوليستي على المكان، ابتعد عشرات الأمتار عن مسرح الجريمة بحثا عن موقع إطلاق السهام، دليل واحد قد يقود إلى الفاعل، في طريق متربة لاحظ ما يشبه عجلات دراجة هوائية، تابع الأخدود المحدث في الطريق، ثمة عجلتين صغيرتين في المقدمة، الآثار المتروكة تخص كرسي متحرك لذوي الاحتياجات الخاصة، ظل ساهما يفكر نادى على احد المصورين.

 هل تعتقد ما اعتقد
 يمكن أن يقودنا هذا الدليل إلى ما نبحث عنه٠٠٠ ويمكن أن نضيع الوقت بدون نتيجة٠
 علينا مراقبة واستدعاء جميع مستعملي الكراسي المتحركة من الشباب ونضع جردا مفصلا ٠٠٠
 ليس أمامنا من خيارات أخرى

يهرب الدفئ من أوتار البحث والتقصي، يستفيق كل يوم على مواويل الجريمة والعقاب، في التفاصيل المملة يكمن الغموض، القاتل المتربص خلف الساحات والأسوار والدور المهجور في الخلاء لن يهدا في تأجيج دورات سفك الدماء، لن تردعه تهديدات الكتب المقدسة المبشرة بالعذاب الأليم ولا الخوف من التأرجح في الأنشوطة، القاتل يستمتع بإزهاق الأرواح، روح شريرة تتناسل فيها الأوهام وأحلام العظمة والتفوق والاضطراب النفسي.

لا حديث في المدينة سوى عن قاتل المتشردين، الحدائق والساحات بدأت تقفر من الناس، الكراسي الأسمنتية فارغة من الباحثين عن الهدوء وتمريغ العيون في جمال الزهور، غابت أصوات الأطفال وضحكاتهم، اختفى باعة المكسرات والحلويات، الهلع والإرباك يلف الجماجم ويعشعش فيها القلق، يكدحان طوال النهار بهمة وحماس في بلاد تصوب أعيره النكران واللعنات والحقد على المجتهدين، يحصدون من المثابرة شرارة الهزيمة، مسنة تتوشح السواد تحمل على الكتف طفل صغير، تنبري بالحديث في جمع من النسوة عن قاتل المتشردين المساكين، ظل واقفا متسمرا يسترق السمع، لبحور الخيال الجامحة، المسنة تتهم رجالات السياسة بتكليف رجال العصابات بتصفية المتشردين بعد التوبيخ من جهات عليا لاعتراضهم سبيل مسؤول مهم، انهم يطهرون المدينة من النفايات البشرية، كالأشباح يحومون حول الأعناق، يستمع ويحذق بنرفزة، من الخيالات الجامحة والمتوهجة تطرز الإشاعات وتنتشر، تعجب بوليستي إن المتشردين القتلى لم يسال عنهم لا أقرباء ولا أحباب ولم تثر حولهم الضجة، لو تعرض متشرد لحادث مروري مميت، فقد تصبح له بين عشية وضحاها عائلة تخرج من العدم وتطالب بالتعويضات المالية من شركات التامين.

يدير قرص الأغنية مرة ثانية يتسلل إلى الفؤاد صوت النغم واللحن والكلمات (طلعت يا محلا نورها شمس الشموس...) هنفاء ساهمة متلفعة بالصمت، القضية بدأت تكبر وتتشعب، عشرات المقعدين تم إخلاء سبيلهم بعد استجوابات مراطونية، اغلبهم استجاب للاستدعاءات، وجدوا صعوبة في الدخول إلى المرفق الأمني بسبب غياب ولوجيات، ولتدارك الأمر تم تجهيز قاعة في المرآب، عشرات الكسح من الرجال والشباب امطروا بوابل من الاسئلة عن مكان التواجد بتواريخ محددة، لا دخان يتصاعد في الهواء، فرك يديه اكثر من مرة وظل جاثيا فوق اللسان،لا شيء يطفو على ضفاف التقصي، يسمع صرخات الضحايا خلال الليل تحت نجوم الله، تحجب السطور تتضبب الرؤى تسدل فوق العيون الستارة، الشاب العشريني المفتول العضلات ذبح والديه من الوريد إلى الوريد، كان على وشك الإجهاز على إخوته الصغار، قفزت الفتاة من الطابق الأول إلى الأرض وصرخت، تجمهر السكان وتعالت الصيحات ومحاولات تخليص طفلين من القتل، اقتحم شاب المنزل شاهرا ساطورا لمحاصرة الشيطان، صعد القاتل إلى السطح مغسولا بالدماء، قفز إلى اسطح أخرى واختفى عن الأنظار، العالم ملوث بالهذيان والأمني يركض خلف المجانين، أدمعت عيناه للمنظر الفظيع، الأجساد ممزقة بالسكين، آثار الذبح بادية على العنقين، نزفا آخر قطرة في رحلة الفناء نحو خنادق الاندثار، تلتقط صور لملمة دوافع الجريمة، صفارات سيارات الإسعاف تزيد المشهد رعبا وخوفا يغزو ارتعاشه الأجفان على تخوم الآهات الفاترة، عيون شاردة تقيس نبض الفاجعة، الحاج وزوجته عاشا شريفين ودودين، جميع الحي يكن لهما الاحترام، القاتل ابن عاق خربت عقله المخدرات وحبوب الهلوسة، الحياة أشبه بالحلم الجميل فيه لوحات من الصور والمشاعر المختلطة والمتضاربة التي تقدم لمحة عن الشخصية، الحلم يكبر ويشيخ في الدواخل، هناك ذكريات تحدد قيمة الفرد وتشكله ليصبح ما هو عليه، بوليستي يكتب إلى الله تقارير عن أبعاد الجريمة، يترك الوجه المكفهر تحت مداس الوقت، الصوت الملائكي لا زال يصدح، تدحرج كرات السكينة فوق الجسد، ثمة فتية يجلسون على الطوار، اطلقوا سيقانهم للريح حين شاهدوا السيارة الموشومة، الأمن في الوطن العربي مرتبط في الوعي الجماعي بالقمع والسحل والضرب وانتهاك الكرامة الإنسانية وطبخ الملفات، فيروز تسكب الحنين على أوتار الوجع، (لأجلك يا مدينة الصلاة اصلي .... يا بهية المساكن يا زهرة المدائن...ياقدس) تتوحد الصرخة من أسطورة الهزائم على وقع صولات القادة، تجوب مقابر الشهداء ترحما على ثورات عاقرة لا تنجب سوى المسوخ، الشعوب العربية خاضوا جميعا مغامرة التمرد والعصيان والتحليق الحر نحو الضفة الأخرى المشرقة من الحياة ومعانقة مستقبل واعد وأحلام قابلة للتحقيق، لكنهم أصيبوا بخيبات الأمل والإحباط، أسقطت حكومات ونصبت أخرى اكثر تطرفا وفسادا.

طرقات قوية على الباب، تطل سيدة من الباب أوشام تمتد من الذقن إلى العنق، هنفاء تفتح نقاشا لمعرفة تواجد الابن الكسيح، من ولادة الخوف المرأة تحرك الرأس يمينا ويسارا، فطنت أن للزيارة علاقة بجرائم قتل المتشردين وانهم يحققون مع الكسح، الابن على قائمة المشبوهين، اعتقدت في أول الأمر أن الرسائل الموجهة إلى جهات متعددة طلبا للمساعدة قد تحققت، بلهاء تدور حول العالم السمج، تطرق أبواب الإدارات ومندوبيات الوزارات،كائنات وأشكال غريبة من البشر، تستعطف سادات أهل الأرض والعبيد و اللصوص والخسيس النجس، ذرفت دموعا على سواحل العجز، تريد ضمان مستقبل للابن بعد الوفاة، الريع في الوطن من نصيب الرؤوس المقربة من دائرة القرار، المدينة ترسو على نهر القذارة تباع بالتقسيط في الأسواق، تسدل فوق العيون الحالمة الستارة، ترجع مثقلة بالهموم تدفع في إعياء الكرسي المتحرك، لا احد يزرع الخير في هذه الأرض التي تسحق الأحلام، تتفنن في طحن المقهورين، في كل زاوية تخرق السمع صفارة النواطير، ترفع النظرات إلى السماء للعزيز الرفيع الكريم، تلعن الدنيا والشعب الصامت، المهزوم، الخائف، المحروم من ابسط الحقوق.

 أرسلنا طلبك إلى الجهات العليا وننتظر الجواب
 أين توجد الجهات العليا...؟
 في العاصمة

سنوات تطوف تحمل رزم الأوراق،تمسح الطرقات المملة والأرصفة المغبرة،الجسد النضو مشدود إلى الكرسي المتحرك، سلبته الأيام الطفولة والفرحة، حفظت أسماء ورتب المسؤولين، عناوين الإدارات وأرقام الهواتف، باعت ما تملك من أفرشة وأسورة متوارثة، تشبثت في خيمة العنكبوت، في سبيل مأذونية كل شيئ يهون، رخص النقل يستولي عليها علية القوم وأبناءهم وأحفادهم، في حق الطبقات المسحوقة تمارس لعبة العصا والجرزة، صعب تخطي الجدار العتي الرفيع الفساد والطبقية، والصوت الخفي المؤدب صار جهوري، جفت في الطريق بساتين الأحلام وفهمت الدرس جيدا،كل الوعود المنثورة في حق ذوي الاحتياجات الخاصة أكاذيب، ينهار سقف الوطن وتتراكم الأنقاض، 
تتهشم الحماسة وتنشرخ مرآة الحياة الخادعة، 
ترتجف الحروف في اللسان، الابن الكسيح مريض مرض الموت، لم يعد قادرا على تحريك اليدين، يرفض الأكل والشرب،رغم الصراحة الدامعة، أصرت المحققة هنفاء على معاينة الابن، سمحت لها بالدخول، رائحة نتنة تضرب من الحجرة المظلمة،وسادة ولباس وقماط، وحفاظات مبللة بالبول والغائط مرمية، الشاب نحيف لم يبق منه سوى هيكل عظمي، العيون غائرة في المحاجر، يتنفس بصعوبة، الحجرة عارية إلا من فراش رث ورزمة أدويه منتهية الصلاحية، الكرسي المتحرك رابض في أحدى الزوايا من البيت، يبصق على الوجوه الضاحكة، منتظرا راكبا، فالكرسي مهاجر ينتقل من مقعد إلى آخر، الم بها دوار شديد ورغبة كبيرة في التقيؤ، هرولت خارج المنزل الطيني المسور بالقصب وقطع الحديد والكرتون ولوحات إشهارية لمشروبات غازية...، تنفست الصعداء واستنشقت هواءا نقيا، تكررت الزيارات للكسح الذين تخلفوا عن الاستجابة للاستدعاءات.

تأخذه الأيام إلى حيث الدم والجريمة، تزدحم الأزقة بالوجوه الكالحة

يطوف الشوارع والحارات الموحشة بحثا عن باب يدخل منه العنف، ارتفع عدد ضحايا صائد المتشردين كما أطلقت عليه وسائل الإعلام، عشرة قتلى في ظرف سنة، لا ادلة،لا بصمات، لا اثر سوى عجلات كرسي متحرك يترك عنوة على بعد أمتار من مسارح الجريمة، نفس الأسلوب في سفك الدماء وإزهاق الأرواح، نفس السهام المسددة بدقة عالية، التحقيقات تصطدم بالفراغ، هنفاء لا تكف عن الثرثرة وتقديم مقترحات سريالية طمعا في اعتقال الجاني، عرض مكافأة لمن يقدم معلومة تفك شيفرة الجرائم، وضع نواطير في الحدائق والأماكن المهجورة، أفكار تستريح على سرير العراء، تغوص في أوج التساؤلات القاتمة، تضع جميع الاحتمالات بين الضلوع، لم يبق سوى البكاء في حضن الفشل، تحمل المخيلة لتستمع للإذاعات المملة عن متحورات كرونا، تنهدت وحبلقت كثيرا في السماء الصافية.

 لماذا لا نقوم بجمع المتشردين ووضعهم في ملعب الكرة أو مرآب أو في مؤسسات الرعاية الاجتماعية لحمايتهم.
 فكرة جيدة... سنطرحها على المسؤول الأول
 العملية مكلفة.... لكنها تحمي الأرواح

تراجع الصوت الجموح والنظرات الحادة، تتلهى باللعب بخصلات الشعر حين يحاصرها عسر الفهم والتلبك، تقلب في المحاضر بحثا عن دليل يجازي الطموح المتجدد،كل يوم تشاهد السقوط يتألق على لائحة القتلى، تمشي في الردهات شاردة، شاربة من دنان الظنون، غارقة في متاهات الوجود، الصورة المعلقة على الحائط ممسكة بجائزة رمزية، تعيد للذاكرة التدخل البطولي لإنقاذ شابة من براثن الاختطاف والاغتصاب المؤكد، السيارة الموشومة تنهب الطريق تضغط على الدواسة عداد السرعة يرتفع، مرت بالصدفة من قرب مؤسسة تعليمية، شاهدت انفتاح باب سيارة بيضاء، امتدت يد مدربة إلى شابة تسير في فوق الرصيف، انجذبت واختفت داخل المركبة التي انطلقت بسرعة جنونية حين صفق الباب، آثار العجلات شاهدة على قوة الانطلاق والتهور في السوق، كل شيئ مر في لمح البصر، تتأرجح ذات اليمين وذات اليسار، في الرأس ازدحمت جميع الاحتمالات، أطلقت بوق السيارة منبهة الراجلين من خطورة الموقف، تطوى المسافات وتصدم مؤخرة السيارة، تنزلق العجلات ويعلو الزئير، يتدفق الدم في العروق، يكبر التحدي والإصرار، على الوجه تعلو هالات الخطر المحدق، منعرجات وأزقة تطوى في ثواني، انضافت سيارات موشومة إلى المطاردة بعد استنفار من الجهاز اللاسلكي، نصبت الفخاخ في مداخل ومخارج المدينة، سيجت الطرقات بالسلاسل المسننة، على بعد أمتار من الطريق الرئيسية خففت السرعة، ألقيت الفتاة مثل كيس أسمنتي، تدحرجت اكثر من مرة، هرب الشابين إلى وجهات مختلفة، سحبت المسدس وأطلقت عيارا في الهواء، طلقة وحيدة كانت كافية لحملهم على التوقف والانبطاح، المسدسات التي تتمنطق بها الشرطة مجرد ديكور، اغلبها طلع عليه الصدأ، لا تستعمل إلا في حالات نادرة، لكنه في السنين الأخيرة حين ارتفعت معدلات الجريمة باستعمال السيوف بدأت الرصاصات تصيب الجانحين إصابات قاتلة لإرسال الإشارات إلى باقي المنحرفين، مشاهد تلد أصوات الذهول والرعب، تبحث عن مقاسات التأفف من تناسل الجريمة، عامل محطة بنزين يلملم الكلمات المتساقطة، يرش صورا مريعة عن المطاردة الهتشكوكية، يعيد اللقطات القاسية على لهاث المتحلقين، عيون تتحاور على هوامش الدهشة، صفد الشبان الثلاثة، حملت الفتاة في سيارة إسعاف، هتافات تزمجر فساحة الساحة، مساخيط الوالدين علق احد المتفرجين، وأضاف بلهجة ساخرة بسبب دقيقة تفريغ سيقضي سنوات وراء القضبان٠
على تخوم ساحة الهزائم تهامس حراس الفشل، يكبر صهيل الوجع في الأعماق، والغمز واللمز أحزمة ناسفة تزيد جرعات الألم في الطريق نحو الشمس، تصهل الدورة الشهرية ويرتفع معدل التوتر، تتجاذب أطراف الغضب مع الماضي والمستقبل، بوليستي يهدا من روعها برفع لافتة اللامبالاة واكد مشجعا أن الفاشلين يغتالون المواهب و صناع الجواهر، الصوت الخشن يلعلع في غرفة التحقيق،كل شيء يحتضر تحت طقطقات لوحة المفاتيح، صعوبة إيجاد صائد المتشردين السراب يستدرج إلى بركة التشكيك في قيمة المحققين.

مالت الشمس إلى المغيب، راودتها في الطريق إلى المنزل أفكار كثيرة، مساحة واسعة من التخمين وتقليب الصور استهلكه صائد المتشردين، دون سابق إنذار تدافعت في الرأس كركام الأحجار اسئلة عميقة ماذا لو كان القاتل امرأة كسيحة أو تتظاهر بذلك ...؟، امرأة تمارس في احد النوادي الرياضية المخصصة لذوي الاحتياجات الخاصة، امرأة تكره المتشردين لسبب ما، قد تكون تعرضت لحادث فقدت فيه القدرة على المشي، قفلت راجعة إلى المركز الأمني، صعدت الأدراج مسرعة، أثارت انتباه شرطة المداومة، دست المفتاح في القفل، سحبت عشرات المحاضر القديمة، تغوص في منعرجات وتشعبات الجب بحثا عن متاهات الحقيقة، حوادث الاعتداءات على النساء، تتفحص الإفادات في تجاويف المعاني، تحاول لملمة المتكلس للعثور على دليل، وصحراء النفس لا تفارقها اليبوسة والخوف، الإنسان يقرأ حياته في كل ما يقرأه عن الآخرين، مساحات باردة وقاسية،خصلات شعر سوداء ما تزال تتدلى في اليد، دماء في الإسفلت وحجر في حجم كرة صغيرة تأتي البشارات والأحداث تتزاحم، أبعدت محاضر الاعتداءات الحديثة، نبشت بشره محتوى ملفات طلع عليها الغبار، قضايا تعود لعقدين من الزمن أو اقل، تحملها النشوة لبناء جدران الأمل، من استدعاء صور الدم على صخور التمحيص، تتمدد لائحة المعتدى عليهن إلى خمسة عشر ضحية، عجائز وشابات وصغيرات، الواحدة صباحا بتوقيت التثاؤب، نسخت رزمة من المحاضر، حملت الغنيمة الحل الأشبه بنجمة مضيئة في العتمة، أقفلت راجعة إلى المنزل فرحة، تناقص الوجع في الأشلاء وذاب الانقباض، الأشياء المبعثرة تصفو في المخيلة، المدينة صاخبة بالسكارى والمتسولين، محلات الوجبات السريعة مكدسة بالجوعى، رائحة السمك تمسح الهواء، فتيات شبه عاريات يلتهمن بشره أعواد البطاطس المقلية، ثوب ابيض شفاف يلحس الجسد، صورة تختزل حياة العربدة والمجون، توقظ رغبة من الحب في المخيلات، جلست فوق الكرسي متمايلة ورتبت الفوضى على الصدر، ماسح أحدية يغرس عينيه ما بين الحمامات، يتحلب الفم ويبلع الريق، تتحرك تفاحة ادم، يخرج النادل ويهشه بعصاه، تتناوب الآهات ويسرع المرافق ويأمرها بارتداء معطف طويل، ترددت تم استجابت وزررت الأزرار الواحدة تلو الأخرى، انتهت الفرجة علق احد الزبناء مطلقا ضحكات مجلجلة، العيون مشدودة إلى الشابة سائقة السيارة الموشومة، لاحقتها النظرات حتى اختفت في زقاق جانبي، ناوشها الليل بأسراب من غيوم داكنة ثقيلة، عاودها الخوف من الفشل وان تكون لهثت وعرقت خلف الفقاعات، تغفو الذاكرة المفرطة في تكديس التجارب كل يوم على فظاعة المجرمين.

 اعتقد أنني وجدت طريقا علينا تمحيصه ربما سيقودنا إلى القاتل
 كيف....؟
- كنا طوال الوقت نبحث عن قاتل ذكر ولكن اعتقد أن القاتل أنثى
- وهل لديك ما يفيد هذا المعطى
- بالطبع لقد قمت طوال الليل بقراءة جميع المحاضر المتعلقة بالضرب والجرح والطعن في حق نساء من طرف متشردين
- و النتيجة
- بعد استبعاد عشرات الضحايا من النساء العجائز والأموات منهن.... بقيت لدينا خمسة شابات أعمارهن بين العشرين والثلاثين
 جيد.... عمل جيد.... هل كلهن مقعدات نتيجة التعرض للضرب.
 هذا ما علينا اكتشافه
 حسنا

وضعت لائحة المشتبهات امام المحقق بوليستي، التحقيق يبدأ من نقطة الصفر، المسؤول الكبير يستعجل النتائج، على وقع الضغط يغربلان قضايا مسجلة ضد متشردين، ملفات سقطت في رحم الإهمال،طلع عليها الغبار وطواها النسيان، تتجدد صور الدم، تتكاثر،تتكدس،ما وراء الصور، صراخ، آلام،جراح، ندوب وإعاقات،
تتبرعم الأسلاك الشائكة في المخيلة في تقليب المحاضر، يشفي الغليل من لذة الهدوء، حملا خلاصات البحث والتمحيص إلى المسؤول الأول، يحتاجان إلى الضوء الأخضر للحصول على أمر بالاستدعاء للتحقيق، في دروب التحقيقات الصعبة والعميقة القلق يتأبط القلق، طقطقات لوحات التحكم تملأ المكان، صراخ وأنين يصفع المرتفقين، أصوات السيارات الموشومة ترتفع وتخبو، في قاعة عارية يتكدس قرابة دزينة من الموقوفين ليلة السبت والأحد اغلبهم من السكارى والمتعاركين على دفة توافه الأمور، ينطفئ الاندفاع الأهوج في العيون الغارقة في الذهول، وجوه شاحبة تعاني من الأرق المزمن تتدلى من برودة ليل في المخفر، تجتر نبيذ الساعات الماضية في قرف، والمدينة مدججة بالكمائن، يرخصون بيع الخمور لملأ الخزائن ويعتقلون الشارب بتهم السكر، أصحاب الوقت يبحثون عن هفوات الآخرين يمحصون التفاصيل الموغلة في القدم، الخمرة تجعل من الهادئ وحشا كاسرا، حين تزول الثمالة يرتفع منسوب الندم، يقف امام المحقق في حالة سكر طافح، يحاول التعري ويتفوه بكلام مطلسم، يتلقى صفعة على القفا أشعلت نجوما في الرأس وأضاءت الدهاليز المعتمة في الجمجمة، لم يعلن العصيان والتمرد، صفعة كانت كافية لتعيد إليه الوعي المفقود، على الشفاه يرتسم رذاذ من كلمات مجهضة موصدة وخرساء، لم يرد الصفعة بالصفعة لكنه غاص في الصمت، لو صفعه مواطن عادي في الشارع لربما سحب سكينا وبقر بطنه، يأمره بالتوقيع على الأقوال، يمسك القلم بيد مرتعشة يخط ما يشبه صفرا على اكثر من ورقة، ازدحمت في الروح آلاف الاسئلة، الاستجابة منحته هنيهات سكون دافئة، دلهم على مروج الخمور لكنهم لم يعتقلوه، ثمة شابة شبه عارية تتلفظ بعبارات نابية، بجانبها أخري متورمة العين، حين لعبت الخمرة براسيهما تبادلا الضرب والركل والسب، صاحب الخمارة هشهما إلى الزقاق، واكملا العراك، خصلات الشعر طارت في الهواء، لكمات متبادلة على الوجه والصدر، ثياب تمزق،حمامات تطل من الحمالات اتسعت حلقة المتفرجين وكبرت، تعلو القهقهات والتصفيقات،مزقت وجوه الحياء وقناع الأنوثة، حين تتعارك النسوة الغلبة من تقبض في خصلات الشعر وتحكم القبضة، تقف السيارة الموشومة تصفد المتعاركتين، يعود الهدوء إلى الشارع رويدا رويدا.

 أنتما متهمتان بالتحريض على الفساد والسكر العلني و الفوضى في الشارع
 هي من استفزتني
 هي أيضا من دفعك للشرب والسب والشتم وحرضك على الدعارة...؟

في الليل ظلتا تصرخان من شدة برد قارس يرعد الفرائص، في الزنازين يجردان من الزمان والمكان، اغلب ممارسات اقدم مهنة في التاريخ يعملن لصالح الأجهزة الأمنية، جواسيس يقدمن تفاصيل دقيقة عما يجري في النوادي الليلية والشقق الحمراء، حين يصبحن سلعة بدون قيمة ينتهين في الخمارات البخسة و أوكار الدعارة في الأحياء الشعبية، شاب يضع ضماضات على الوجه، يقدم للمحقق شهادة طبية بها مدة العجز وعدد الرتقات، الغريم مصفد اليدين في زاوية يفترش الأرض،ذراعه اليمنى تحمل أوشاما لأسماء وقلوب، الذراع اليسرى تحمل ندوب بصمات عراكات دامية، يرفع الأمني سكينا من الحجم الكبير، أداة مزقت وجه الضحية وحولته إلى أخاديد، المخافر مع بداية كل أسبوع تكون اكثر حركية ونشاطا، الانتهاء من كتابة المحاضر، تقديم المعتقلين امام المحكمة، التعامل مع الموقوفين الجدد، أسئلة تبدأ بكيف ولماذا و أين ومتى، يتعالى بين الفينة والأخرى صوت حاد وخشن، يعبر الجدران وأسوار الزنازين، يقتحم بوقاحة أجساد منهكة، تأتي الاعترافات مسربلة بلون الارتباك، يصبحون جميعا من القوم التائبين،اللطفاء، الابرياء.

السيارة الموشومة تجوب الطرقات والأحياء، بوليستي و هنفاء يقتربان من تسديد الهدف، المشتبهة الأولى والثانية اجتازا فحص البراءة من دماء المتشردين، الشابة الأولى يداها نحيلة لا تقوى على إدارة عجلات الكرسي المتحرك، الثانية يداها اليسرى مبتورة حتى المرفق،لم تلعبا مع الأتراب، الضربة اغتالت الأحلام في مدينة تغص بالمتشردين والمجانين، الانهزام جاثم فوق العيون الذابلة، أجساد سقطت من رحم الحركة، مكبلة بالعجز تنفخ في عقارب الساعة، تعيش مصيرا مظلما، لكل واحدة منهن حكاية مع الإعاقة الجسدية، ضربة واحدة على الرأس حولت حياتهن إلى جحيم،أرواح تتهشم على ارصفه الواقع العفن وتتقيح بمعاول النفي، الحديث يرغي في كأس الشفقة، يصيب بالحشرجات بين ضفاف الكلمات، بوليستي و هنفاء يرجعان خاوي الوفاض،كل باب يطرقانه يجدانه موصدا، لم يبق أمامهما سوى ثلاث اوراق لحل اللغز أو إعلان الهزيمة.
صباح ضبابي والسماء تتأبط سحابات مسرعة، والشمس تخجل من الظهور، تقف السيارة الموشومة عند منزل سعاد الكاشف أخر حلقة في المشتبه فيهن، يطرق الباب لا احد يجيب، يرتفع إيقاع الطرقات بقوة اكثر، الباب يكاد ينخلع، الضجة والجلبة تخرج بعض الجيران، تتقدم هنفاء تستفسر عن مكان تواجد صاحبة المنزل،أبدين شيئا من الامتعاض والقرف، استبدلت الملامح المفرطة في الجدية، فتر الوجه الفولاذي عن ابتسامة عجفاء، كل من يقترب من رجالات الأمن في الأحياء الشعبية هو بالضرورة مخبر، نساء الحي يصبن بزهايمر الاحتراس ويتلون بلون الارتباك، يحدودب الظهر من ثقل الكلمات، لا احد يريد أن يشيخ بين سهام الشك والشبهات في زمن اصبح الشرفاء فصيلة توشك على الانقراض، ويستحسن في زمن العفن أن تكون من القوم الصامتين المتفرجين، الطرقات ترتفع بحدة والجمهرة تكبر، غير بعيد عون سلطة يسرع الخطى.

 أتبحثون عن سعاد الكاشف
 نعم أين هي...؟
 اختفت مند شهر تقريبا
 هل سبق واختفت عن الأنظار
 لا … دائما كانت حاضرة تعيش بمفردها بعد وفاة والديها
 ما طبيعة عملها
 تبيع المكسرات والمعجنات والحلويات فوق عربة امام المدارس٠
 آه

سقطت في المخلية آلاف الاحتمالات، بوليستي يضع صورة المتهمة رقم واحد أمامه، خمن انه قد تكون انتحرت، غادرت المدينة بعد اشتداد الخناق على صائد المتشردين، وظلت فكرة الانتحار تجثم على العقل، ارتشف من كاس الشاي المنعنع وتصفح ما تبقى من التخمينات لاعتقال الفاعل، تتجدد صور القتلى، تزدحم، تتكاثر، تتجدد في عيون القرف، تتراقص في فقاعات كأس الشاي، تنهال على الرأس التعبة رغبات في النوم العميق، خالية من ومضة المفاجأة ولزوجة الدم، الواجب ينادي والكرسي قد يخطف في لحظة سهو وتدافع، وجوه مقنعة تحمل ألف علامة استفهام، وملامح تقطعت وتكلست فيها تجاعيد السنين، كل يوم يعانق الفراغ المشحون، يحصي نظرات الحقد تتسلل من ثقب المفتاح، هنفاء ساهمة تلقي على المحاضر نظرة اشمئزاز والإيماءات الخرساء، طفلة في السابعة من العمر تمسك بيد الأم خائفة، الوجه الطفولي مليء بالخدوش والكدمات، رفعت قميصا وبان الظهر الموشوم بآثار الضرب المبرح، تحصي بأسف ثلاثة عشر جلدة، معلمة الفصل تقتص بالعصا من اضعف حلقات التعليم، مددت امام المحقق شهادة طبية وصور تظهر بشاعة الاعتداء،تروي الطفلة تفاصيل الجلد مرعوبة، يلتقط لوح المفاتيح صدى الأنفاس،يلملم الكلمات المتساقطة من فم البراءة، الطفلة عوقبت لأنها بالغت في الضحك، هنفاء تلاعب الطفلة لتذيب وحشة المكان، توقع الأم على صك اتهام ومقاضاة المعلمة.

وتد من الفولاذ يحشر في الباب الحديدي، يضغط الشاب بكل ما أوتي من قوة، ضربات مركزة بالمطرقة، تتسع الفجوة ينبعج الحديد، يطير القفل ويرتطم بالزليج الأصفر المخضب بالأسود، يتوسع الفراغ الضوئي، القعقعة العالية تستدرج المتفرجين تخرج الناس من المنازل، حلقات هنا وهناك في الحي الشعبي، الحوادث والجرائم تقوي لحمة التواصل الحميمي بين الجيران المتنافرين على خارطة الخصومات والمناوشات بسبب شغب الأولاد، الشريط الأصفر يمنع اقتراب الفضوليين، داخل المنزل صمت جنائزي، أصحاب البدل البيضاء يجمعون أدلة تتمرغ على ضفاف الحموضة، في غرفة وجدوا بندقية صيد الأسماك ورؤوس الرماح، رزم من أعواد الزيتون المعدلة، ريشات الديك الرومي موضوعة في صحيفة معدنية، نفس العينة التي وجدت في أجساد المتشردين القتلى، تتسارع الإجابات حول هوية القاتل، سعاد الكاشف أزهقت أرواحا بدم بارد، صورة كبيرة معلقة على الحائط، أبوين يحتضنان ابنة في عمر الزهور، تفتر عن ابتسامة خجولة، ضفيرة تتدلى على الصدر، في غرفة مجاورة اربع كراسي متحركة طلع عليها الغبار، عكاكيز مختلفة الأحجام مسندة على حائط أكلته الرطوبة، عربة يد تحتوي، مكسرات، حلويات، معجنات وحبوب دوار الشمس، لا اثر لجثة المتهمة الكسيحة ولا عنوان يؤدي إليها، اختفت بالمرة عن الأنظار كان قوة خفية سحبتها إلى عوالم مجهولة، الأخبار الشحيحة المستقاة لا تفيد في شيئ سوى الدوران في حلقات من التخمينات وضرب الأخماس في الأسداس، ظلت هنفاء ساهمة تبحلق في أدوات الجريمة،يتلاطم في الحوباء الشك باليقين، قفزت إلى المخيلة اسئلة عميقة محيرة، هل سعاد الكاشف غادرت باستعمال كرسي متحرك أم عكازين، بمفردها أم بصحبة شخص آخر، ربما شفيت بفضل معجزة وأصبحت تمشي بشكل عادي، رغم انتهاء عصر المعجزات، الملف الطبي يؤكد تعرضها لارتجاج في الدماغ نتج عنه شلل نصفي،وما لبثت أن مطرق الدماغ سؤال اكثر عمقا، هل هي صائد المتشردين حقا، وجود أدوات الجريمة لا يعني بالضرورة أنها الفاعل، هنفاء تثرثر كما العادة بدون انقطاع وبحماسة زائدة، ظل بوليستي صامتا يستمع إلى الفرضيات الجاثمة فوق الجمجمة، تشق سراديب المخيلة وترقص على أطراف اللسان.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى