الثلاثاء ٤ أيلول (سبتمبر) ٢٠١٨
قراءة فى روايتي «حضرة المحترم»، و«الباقي من الزمن ساعة»
بقلم محمد عبد الحليم غنيم

صورة مصر في روايات نجيب محفوظ

بقطع النظر عن قيمة نجيب محفوظ الأدبية وعن كثرة عدد رواياته بالنسبة لأي كاتب مصري أو عربي، فإنه منذ أن أصدر كتابه الأول- والعجيب أنه كان عن مصر – " مصر القديمة " لجيمس بيكىالذي ترجمه محفوظ عن الإنجليزية إلى آخر ما كتب من أحلام فترة النقاهة ومصر الحاضر والماضي والمستقبل ماثلة في كل رواياته، ولذلك يستحق هذا العنوان دراسة واسعة عميقة لا يتسع لها البحث هنا، فقد صور مصر بأكثر من طريقة في هذه الأعمال، فمرة نجد مصر ممثلة في شخصية نسائية ومرة في صورة رجل ومرة عبر الروح والتقاليد المصرية وغيرها من الأشكال والرموز.

وسأكتفي هنا بالإشارة إلى عملين يمثلان اتجاهين مختلفين في إبراز صورة مصر، الأول : رواية حضرة المحترم حيث تبرز صورة مصر عبر سمة مميزة للشخصية المصرية ألا وهي احترام الوظيفة وتقديسها وذلك من خلال دراسة رواية "حضرة المحترم". والثاني صورة مصر عبر شخصية نسائية وهي الصورة المتكررة في معظم أعمال نجيب محفوظ بدءا من رواياته التاريخية إلى روايتنا التي نتوقف عندها اليوم"الباقي من الزمن ساعة".

ربما كانت شخصيات مثل حميدة في زقاق المدق وزهرة في ميرامار تغري بالدراسة، ولكن نظرا لكثرة الدراسات التي تناولت هاتين الروايتين آثرت أن أقف عند رواية "الباقي من الزمن ساعة" ربما لأنها تعد الحلقة المكملة للثلاثية. فهذه الرواية مع الثلاثية يُعدان معادلا فنيا أو روائيا لتاريخ مصر الحديث منذ ثورة 1919 إلى منتصف الثمانينات من القرن الماضي ولا نبالغ إن قلنا إلى الآن.
أ ـ حضرة المحترم ( جلال الوظيفة ):
نشر نجيب محفوظ رواية حضرة المحترم عام 1975 بعد أن أحيل إلى المعاش، وقد صب فيها خبرته كموظف بدا السلم الوظيفي من أوله وارتقى فيه إلى نهايته، لقد حول نجيب محفوظ خبرته الوظيفية إلى نموذج فني تمثل في شخصية الموظف المصري عثمان بيومي، عاكسا به جانبا مهما من جوانب الشخصية المصرية في عمقها التاريخي وبعدها الآني في ذات الوقت، فما زالت الوظيفة إحدى أبرز التطلعات التي يرنو إليها الفرد في مصر.

إن شخصية عثمان بيومي، تمثل في الواقع نموذجا لشخصية المصري منذ الفراعنة إلى الآن، في حرصه على الوظيفة والنظر إليها باحترام وتقدير يصلان إلى درجة التقديس، وقد كان المؤلف / الراوي واعيا بذلك، فنقرأ على لسان الراوي من خلال الصوت الداخلي لعثمان بيومي: "وقال لنفسه أيضا إن الموظف مضمون غامض لم يفهم على وجهه الصحيح بعد. الوظيفة في تاريخ مصر مؤسسة مقدسة والموظف المصري أقدم موظف في تاريخ الحضارة إن لم يكن المثل الأعلى في البلدان الأخرى محاربا أو سياسيا أو تاجرا أو رجل صناعة أو بحارا فهو في مصر الموظف وإن أول تعاليم أخلاقية حفظها التاريخ كانت وصايا من "أب" موظفمتقاعد إلي ابن موظف ناشئ. وفرعون نفسه لم يكن إلا موظفا معينا من قبل الآلهة في السماء ليحكم الوادي من خلال طقوس دينية وتعاليم إدارية ومالية وتنظيمية.ووادينا وادي فلاحين طيبين يحنون الهامات نحو أرض طيبة ولكن رءوسهم ترتفع لدي انتظامهم في سلك الوظائف.حينذاك يتطلعون إلي فوق. إلي سلم الدرجات المتصاعد حتى أعتاب الآلهة في السماء. الوظيفة خدمة للناس وحق للكفاءة وواجب للضمير الحي وكبرياء للذات البشرية وعبادة الله خالق الكفاءة والضمير والكبرياء (1)
وهذه الفقرة علي طولها لا تمثل أفكار عثمان بيومي بطل الرواية فحسب لكنها تتقاطع مع أفكار المؤلف الحقيقي نجيب محفوظ , الذي كان أول إنتاجه الثقافي ترجمة جيمس بيكي عن مصر القديمة، حيث يصور الكتاب شكل الحياة في مصر الفرعونية، وإذا عدنا للفقرة فإن الرسالة فيها واضحة وهي أن الوظيفة من أبرز سمات الشخصية المصرية، إنها مرتبطة بالسلوك الفردي والنظام الإداري للدولة، بل وبناء الدولة القائم على تقديس الحاكم، ولما كان الحاكم موظفا فالوظيفة مقدسة أيضا. إن الوظيفة تأخذ بعدا أسطوريا، وهو ما حاول أن ينقله نجيب محفوظ لنا عبر مفردات البناء السردي.

والرواية في جانبها الظاهري تمثل رحلة صعود شخصية عثمان بيومي ذي الأصل الوضيع في سلم الحياة والوظيفة معا، ولكنها رحلة قائمة على المفارقة ففي الوقت الذي يرقي فيه عثمان وظيفيا مقتربا من أعتاب الإله، الذي خطف منه نظرة في اليوم الأول من تسلمه العمل ينزل فيه إلى أسفل الدرجات في السلم الاجتماعي، فقرار ترقيته إلى درجة المدير العام يأتيه وهو راقد بين الحياة والموت، بل وهو أقرب إلى الموت، فالطبيب يحذره من العودة على الوظيفة، فيجادله ولكنه في النهاية يرضخ، ويطلب من راضية زوجته الجديدة أن ينقل للعلاج في المستشفى بعيدا عن المنزل الذي كان قد بدأ يشعر فيه بالغربة منذ أن سمع العمة تحاور راضية وتصفها بالطمع وتقول لها لا فائدة، وهي عبارة تنطبق على عثمان مثلما تنطبق على راضية. وهكذا يعيش عثمان بيومي وحيدا في المستشفى منتظرا نهايته، وإن لم يتخلى عن معتقداته الخاصة في الوظيفة وقداستها.

"وظل على إيمانه الراسخ بمعتقداته المقدسة بالحياة الشاقة المقدسة بالجهاد والعذاب بالأمل البعيد المتعال. وقال أن العجز أحيانا عن بلوغه لا يزعزع الثقة به، ولا المرض ولا الموت نفسه ما دام أن الإصرار على المضي نحوه هو المسئول عن وجود النيل والمعنى في الحياة. وكره كلمات التشجيع الجوفاء، وسلم بأن تقلده للوظيفة الجديدة حلك، كما سلم بأن نهوضه لإنجاب الذرية حلم آخر ومع ذلك فمن يعلم ؟ وما يحز في نفسه أن كل شيء يمضي في سبيله دون مبالاة منه.

" التعيين والترقي والإحالة إلى المعاش الحب والزواج وحتى الطلاق، شعارات السياسة وشعاراتها المحمومة تعاقب الليل والنهار.. وها هي نداءات الباعة تنذر باقتراب الشتاء.
ولعله من محاسن الصدف أن القبر الجديد قد حاز رضاه تحت ضوء الشمس "(2).
هذه آخر فقرة في الرواية نداءات الباعة تنذر باقتراب الشتاء والقبر تحت الشمس، لقد انتهت رحلة عثمان بيومي، ولكن تبقى الحياة ماضية في مصر مثل النيل، ومثل تعاقب الليل والنهار وتبقى الوظيفة مرتبطة بهذه المظاهر الكونية، ولذلك يبقى بصيص أمل لدى عثمان في تقلد الوظيفة أو إنجاب الذرية كما يشير السؤال في الفقرة السابقة: ومع ذلك فمن يعلم ؟ على الرغم من انغماس الرواية في مفردات الحياة اليومية والوظيفة المحيطة بعثمان بيومي في الحارة والمنزل ومبنى الوزارة فإن نجيب محفوظ استخدم للتعبير عن ذلك لغة فخمة تتضمن مفردات أقرب إلى لغة الطقوس والمعابد، وفي ذلك نوع من المفارقة اللغوية القريبة من المجاز حيث تتسع الدلالة. ففقرة البداية تتخللها ألفاظ: لا نهائية، انبهار سحري، التقوى، الابتهال، الطاعة، وغيرها إنها لغة تبث الرهبة والقداسة، وكان عثمان بيومي في محراب وليس في مكتب موظف كبير، ويحسن أن نقرأ هذه الفقرة:
"انفتح الباب فتراءت الحجرة مترامية لا نهائية، تراءت دنيا من المعاني والمثيرات لا مكانا محددا منطويا في شتى التفاصيل، آمن بأنها تلتهم القادمين وتذيبهم، لذلك اشتعل وجدانه وغرق في انبهار سحري. فقد أول ما فقد تركيزه، نسي ما تاقت النفس لرؤيته الأرض والجدران والسقف حتى الإله القابع وراء المكتب الفخم. وتلقى صدمة كهربائية موحية خلاقة غرست في صميم قلبه... وتلبية لإغراء لا يقاوم خطف نظرة من الإله القابع وراء المكتب ثم خفض البصر متحليا بكل ما يملك من خشوع " (3).

إن حضرة المحترم رواية لا تبرز صورة مصر عبر رؤية فلسفية عميقة لأحد سمات الشخصية المصرية ألا وهي حب الوظيفة، إن الوظيفة ليست مجرد عمل يقوم به الفرد ليأخذ عليه أجرا يقتات به، إنها نظام مرتبط ببناء الفرد والدولة معا، فإذا انهار الفرد انهارت الوظيفة وانهيار الوظيفة يؤدى إلى انهيار الدولة، ففشل عثمان بيومي في الوصول إلى درجة المدير العام وجه العملة المقابلة لفشله في حياته الأسرية حيث لا زوجة مخلصة ولا ذرية قادمة.

ولذلك يمكننا القول أن البطولة الحقيقة في الرواية ليست لعثمان بيومي ولكن للوظيفة، ومن ثم فالعنوان ـ عنوان الراوية ـ عنوان مراوغ فالمحترم الوظيفة وليس عثمان بيومي الموظف، فهو محترم طالما كان على رأس وظيفته، أما خارج الوظيفة فقد سلب منه هذا الاحترام، إن صورة مصر هنا لا تنعكس من خلال شخصية عثمان بقدر ما تنعكس من مفهوم "الوظيفة".
ب ـ الباقي من الزمن ساعة..(سنية الخضراء):
كتب نجيب محفوظ هذه الراوية بعد رواية أمام العرش وظهرت في كتاب لأول مرة عام 1984، بعد وفاة السادات بثلاث سنوات، وهي تعد من أعمال نجيب السياسية التي تهتم بنقد الثورة مثلها في ذلك مثل اللص والكلاب وميرامار ومعظم أعمال السبعينات، إلا أن ثمة تشابه واضح بين هذه الراوية والثلاثية المشهورة، وقد رصد مصطفي عبد الغني هذا التشابه ودعاه ارتباطا " الواقع أن هذين العملين ـ الثلاثية و الباقي من الزمن ساعة ـيرتبط كل منهما بالآخر ارتباطا حميما لأسباب كثيرة:
 إن كليهما يحاول استخدام خط الزمن استخداما مطردا إلى الأمام.
 كلاهما يستخدم الحوادث التاريخية كأرضية تؤكد حركة الحكي الفني وتطوره.
 كلاهما يتخللهما خطان: الخط الخارجي / التاريخ و الخط الداخلي / الدراما.
 وكلاهما لذلك يمضي في تواز الخط الخارجي بالخط الداخلي فالأحداث تمضي تباعا مع أعمار الشخصيات وقضاياهم.
 وكلاهما يبدأ بتمهيد بثورة، بينما تبدأ الثلاثية برواية بين القصرين بين عامي 1917 ـ 1919، ويليها كل من قصر الشوق والسكرية بين عامي 1924 ـ 1934، فإن الرواية الأخرى "الباقي من الزمن ساعة" تبدأ بعام 1936 ( أي الانتهاء الفعلي بأثر ثورة 19) وتضع تمهيدا حتى بداية الخمسينات بين عامي 1936 ـ 1952، ثم تمضي الأحداث بعد ذلك لتحدد الستينات والسبعينات مجالا لها.

ـ وكلاهما بعد ذلك يرتبط ارتباطا عضويا، فالزمن في الثلاثية هو زمن ثورة 1919 وهو في الأخرى زمن ثورة 1952، فكلاهما ـ الثورتان ـ أحدثتا تغييرا حتميا في البنية المصرية.
 وكلاهما أخيرا يرتبط بالزمن ارتباطا فنيا خالصا، فالواقعية تمضي في كليهما خلال تقاليدها في هذا السياق " (4).
ولا نريد أن نتمادى في عقد المقارنة بين العملين مع تسليمنا التام بوجود هذا الارتباط، بيد أنه يمكن إضافة إلى ما سبق القول أن الروايتين تنتميان إلى ما يمكن تسميته برواية الأجيال، طبعا مع الاختلاف في الأسلوب بين العملين، فإذا كانت الثلاثية تجنح إلى الإطناب والاهتمام بالتفاصيل والحرص على تصوير المكان فإن الباقي من الزمن ساعة تميل إلى الإيجاز والتكثيف وسرعة الإيقاع وكثرة الأحداث.

لكن ثمة اختلاف بين العملين أراه مرتبطا بموضوعنا صورة مصر هو غلبة الرؤية السياسية على الرواية، ولنقل بعبارة أخرى الاهتمام بالأحداث الخارجية / المتخيل الواقعي. فعلى الرغم من ازدحام الرواية بالشخصيات والأحداث فإن الحدث الخارجي كان هو الأبرز، ولعل هذا ما جعلنا نرى في شخصية "سنية المهدي" التي تفتح وتختتم بها الرواية معادلا موضوعيا لمصر، أو رمزا لمصر وذلك لأسباب كثيرة.

السبب الأول يتعلق ببناء الرواية وأحداثها، كما قلت هذه رواية أجيال، فعبر مائتي صفحة نلتقي بثلاثة أجيال يمثلون جميع طوائف الشعب المصري بانتماءاتها السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثورية إذا جاز القول. فحامد برهان وزوجته سنية المهدي يمثلان جيل ثورة 1919، وأولادهما محمد ومنير وكوثر يمثلون الجيل الثاني الذي ولد في أعقاب الثورة وعانى ما بعد ذلك بعد وفاة الزعيم وقيام الحرب العالمية الثانية، ثم عانى بعد ذلك من ثورة يوليو أو العكس. والجيل الثالث الذي ولد بعد ثورة 1952، فهو جيل الثورة بحق ولكنه عانى أيضا تراجعها بعد نكسة 1967 وإن ثمل قليلا بنصر أكتوبر، ولكنه سرعان ما اكتوى بنار الانفتاح الاقتصادي.

إن الحديث عن فترة تاريخية تمتد من عام 1936 إلى أواخر السبعينات أي ما يربو على أربعين عاما في حد ذاته يستدعي مصر بوصفها متخيلا واقعيا وروائيا على السواء.
أما السبب الثاني الذي يجعلنا نعد سنية المهدي رمزا لمصر اهتمامها بتاريخها الشخصي وفخرها به وثباتها في وجه المحن، فعلى مدى أربعين عاما هي زمن الأحداث الداخلية للراوية تبقى سنية المهدي متماسكة تشارك في الأحداث وتلقى بالتعليقات الحكيمة.
والسبب الثالث ونكتفي به حرص سنية المهدي على عدم بيع المنزل الذي ورثته عن أبيها في حلوان، وحرصها طوال الأحداث على السعي لتجديد البيت، وكأن البت نفسه رمزا لمصر المكان.

هذه أسباب ثلاثة رأينا أنها كفيلة أن تثبت البعد الرمزي لشخصية سنية المهدي، ولكن على المستوى الفني ثمة لمحات كثيرة تؤكد هذا البعد الرمزي أولها جملة البداية أو مفتتحها "للصورة التذكارية تعود كلما نبض قلبها بالحنين، حجرة المعيشة تزدان جدرانها الخضراء بثلاث لوحات في أُطر مموهة بالذهب البسملة في الصدر، الشهادة الابتدائية القديمة بالجناح الأيمن، صورة الرحلة التذكارية بالجناح الأيسر، نسيت أشياء وأشياء ولكنها لم تنس عام 1936 تاريخ الصورة، ففي ذلك التاريخ كتب الخلود للحظة زمانية من تاريخ أسرتها... ولم يظهر فيها أثر للزمن، غير أن الزمن لم يتوقف لحظة واحدة خارج الصورة، ومن ضمن ما قضى به ألا يبقى في بيت الأسرة اليوم إلا مالكته سنية المهدي وكبرى ذريتها كوثر" (5).

إن اللوحات الثلاثة تمثل جوانب أساسية في شخصية سنية أو مصر والإيمان والثقافة والانتماء حيث الصورة المذكورة هنا كما يفصلها المؤلف صورتها مع زوجها حامد برهان وأبنائها الثلاثة كوثر ومحمد ومنيرة، وكون الصورة لم يظهر فيها أثر للزمن إشارة واضحة إلى عمق الانتماء وثباته في حين أن الزمن لم يتوقف لحظة واحدة خارج الصورة، ولما كانت الفقرة السابقة فقرة المفتتح فإن المؤلف يجعلها تقنية فنية لها تأثيرها في بناء النص ومحتواه، فعدم تأثير الزمن على الصورة إشارة ذكية إلى عدم تأثير الزمن على سنية المهدي خلال الأحداث التي زلزلت كيان معظم الشخصيات في الرواية، فسنية ثبتت أمام محنة زواج حامد برهان من ميرفت الجارة الجديدة التي قطنت العمارة المنشأة بعد الحرب العالمية الثانية في مواجهة بيت سنية، على حين يبدو أثر الأحداث على أبنائها الثلاثة قويا، فمحمد يخرج من السجن فاقدا عينا ورجلا ومنيرة تطلق من سليمان بهجت، وكوثر يموت زوجها وتعود لتقيم في البيت مع سنية.

ملمح آخر يشير إلى البعد الرمزي في شخصية سنية المهدي وهو ولعها باللون الأخضر وهو إشارة واضحة إلى مصر الزراعية، مصر النيل والخضرة وتجدد الحياة: "ولكن بيت المهدية يتميز بطلائه الأخضر وهو طلاء أغلب حجراته ذوات الأسقف العالية، وهو لون أغطية المقاعد بحجرة المعيشة والإصرار يعكس ولع المرأة به ويشير أيضا إلى ولهها بالبيت نفسه الذي وثقت بينهما محبة خلقت للأبناء والأحفاد مشكلة تعذر حلها في حينها " (6).

وهي طوال الرواية حريصة على تجديد البيت، فبعد زواج حامد برهان من ميرفت وتركه البيت وأتيح لها فراغ لم تعهده من قبل فتعلق اهتمامها بالبيت وشعرت أكثر من أي وقت مضى بأنه ليس على ما يرام، إن يطعن في القدم دون رعاية ولا عناية، ها هي تتجول بين الحجرات والحديقة تنظر وتتفحص، بهتت الألوان، تقشرت الأركان تشقق خشب الأرضية وفقد مرونته، ذبلت الحديقة وملأتها الوحشة وتراكمت في أجزاء منها الأوراق الجافة " (7)
وإشارات أخرى غير هذه الإشارة في الصفحات 37، 42، 49، 51، 66، 166، 188. من الرواية ولعل أهمها حلمها بتجديد البيت قبيل ذهاب الجيش إلى اليمن، حيث يوظف نجيب محفوظ الحلم توظيفا فنيا، فالبيت يتجدد ولكن البستاني ينسى زراعة شجرة الحناء، وهي رؤيا كما أشار الراوي، تنبأت فيها سنية بفشل المهمة:
" وتجلت رؤيا سنية فرأت البيت القديم يضيء بجرة ذهبية رممت أركانه ـ جددت أبوابه وسلاليمه ووافاه أثاث جديد، أما غرف النوم فحافظت على شرقيتها، ولكن العصرية شملت حجرات الاستقبال والسفرة،وبعثت الحديقة من جديد فاخضرت أرضها وانتشرت فوقها أشجار البرتقال والليمون والمانجو.. ولمحت حامد برهان يقوم بعمل البستاني مستردا صحته وبدانته، سعدت جدا، لكنها سألت البستاني بعتاب:
لم لم تزرع شجرة حناء ؟ "(8).

فالبستاني لم يزرع شجرة الحناء، و في ذلك إشارة واضحة إلى فشل المهمة.
لمحات أخرى تؤكد البعد الرمزي في شخصية سنية المهدي نراها بوضوح في تعليقاتهاعلى الحوارات الدائرة بين أفراد العائلة من وقت إلى آخر، من ذلك الحوار التالي بينها وبين كوثر بعد تأميم القناة وقيام فرنسا وإنجلترا وإسرائيل بالعدوان على مصر
"وتابع محمد وألفت الإذاعات الأجنبية حتى قال الرجل:
ـ انتهت حركة المجرمين ولكن ما أفدح الثمن !
وقالت سنية لكوثر:
ـ أُذني سعيدة وقلبي كئيب !
فقالت كوثر مدفوعة بالخوف الذي ركبها:
ـ البلد خرب يا ماما
فأشارت سنية إلى فوق مبتسمة:
ـ لكنه موجود " (9).
وعندمايختلف محمد ومنيرة حول عبد الناصر، حيث يرفضه الأول وتدافع عنه الثانية، تقول سنية:
ومن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره،صدق الله العظيم "(10).
وعندما يعاتبها أمين لأنها ترفض بيع البت فيقول لها ألا يحزنك ألمنا يا جدتي ترد في انفعال:
" - كيف. إنكم تعيشون في خواطري وأحلامي وإن تجاهلتم وجودي لا فرق بين من يقيم منكم في القاهرة أو ألمانيا " فهي مصر الأم التي تحتضن الجميع على اختلاف ميولهم وأماكن تواجدهم.

يبقى أخيرا أنها الشخصية الوحيدة من شخصيات الرواية التي بقيت محتفظة بقوتها وثباتها وعندما يكاد الفنجان يسقط من يد أم سيد بسبب الرعد ويتساءل محمد ضاحكا متى يا أم سيد تزول العقبات ؟ يكون رد سنية الحاسم ونهاية الرواية
" - عندما يتوقف الرعد " (11).
لقد أراد نجيب محفوظ لسنية المهدي رمزا لمصر لكى تكون شاهدة أحداث مصر السياسية عبر نصف قرن تقريبا من الزمان، حدث فيها ثورتان حقيقيتان كان لهما تأثيرهما القوي في تاريخ مصرالسياسى والاجتماعى ، ثورتى 1919 و 1952، وقد وظفت الشخصية الرمز توظيفا فنيا راقيا، فجاء شفافا وغير مباشر.

الهوامش :

1ـ نجيب محفوظ، حضرة المحترم، مكتبة مصر، القاهرة 1975، ص143، 144.
2ـ نجيب محفوظ، المصدر نفسه، ص205.
3ـ نجيب محفوظ، المصدر نفسه، ص3.
4ـ مصطفى عبد الغنى، الزمن فى رواية الباقي من الزمن ساعة، مجلة القاهرة –ع90، الهيئة المصرية العامة للكتاب،القاهرة 1988، ص31.
5ـ نجيب محفوظ، الباقى من الزمن ساعة ، مكتبة مصر، القاهرة 1984، ص 5،6.
6ـ نجيب محفوظ، المصدر نفسه، ص7.
7ـ نجيب محفوظ، المصدر نفسه، ص32.
8ـ نجيب محفوظ، المصدر نفسه، ص66،67.
9ـ نجيب محفوظ، المصدر نفسه، ص57
10ـ نجيب محفوظ، المصدر نفسه، ص154.
11ـ نجيب محفوظ، المصدر نفسه، ص169.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى