طلب انتساب للمخيم
تدخل من مدخل المخيم الخلفي سيارة من نوع بيجو حمراء وتتجه باتجاه البيت في الزقاقِ الثالث، يترجل منها ثلاثة رجال وعلى أكتافهم البنادق، ويهمون بدخول البيت ذي الباب الأسود الضيق الذي يحتاج الإنسان لأن يسير بشكل جانبي كما السرطان البحري كي يستطيع الدخول منه.
بعد لحظات يتبعهم الرجل الرابع بعد أن أوقف السيارة في إحدى زوايا المخيم قريباً من البيت ويتبعهم إلى داخل البيت.
يدخل فيجدهم قد صفّوا بنادقهم في زاوية البيت وهموا بخلع ذخائرهم ووضعها على الطاولة التي تتوسط البيت، فيبدأ الحديث مخاطباً الرجل ذي الزي العسكري الكامل: أما زلت مصراً على البقاء في المخيم رغم علمك أنه سيتعرض للهجوم في أي لحظة قادمة؟
نظر في وجهه وهو يخلع عن رأسه القبعة العسكرية ووضعها جانبا وأجابه: هل تحاول إخافتي من الموت في زوايا المخيم يا صديقي!!
تلافى خطأه مباشرة وقال له : لم أقصد هذا يا صديقي ولكني حقيقة استغرب إصرارك العنيد على البقاء في المخيم رغم معرفتك أنه سيتعرض قريباً للهجوم، وأن معاركَ ضاريةً ستدور فيه على غرار معارك حصار المدينة والتي غدت بعد المعارك كأنها قد تعرضت لهجوم بقنبلة ذرية وكأنها هيروشيما في الحرب العالمية الثانية.
كان كما قيل عنه بأن لديه دوماً جواباً لكل سؤال فقال : هل تظن أني جئت هنا للهرب من المدينة المدمرة أم أني جئت أبحث عن عمل!
لقد جئت هنا حتى أقاتل ربما حتى الموت في المخيم، بإمكانك أن تقول إني جئت أقدم طلب انتساب للمخيم، طلب انتساب للموت فيه ولست أنت المخول لقبول هذا الطلب أو رفضه، وحده المخيم الذي يقرر لأنه الوحيد الذي يعلم ما في قلبي تجاهه، يكفي أني حين أدخل هذا المخيم أشعر بلحظة أني أتحول إلى طفل عمره عشر سنوات كما أحمد العربي في قصيدة أحمد الزعتر لمحمود درويش، وكم كنت أتمنى أن يكون اسمي (أحمد) بدل (نضال) كي أتجسد بالقصيدة، لكني أيضاً راضٍ باسمي الحالي طالما هو يجسد حالتي التي أود أن أحياها في ثنايا المخيم الذي يتأهب مثلنا للدفاع عن سكانه المؤمنين فيه.
فأجابه ( ياسين): يا نضال ليست المسالة كما تتصور، ولسنا هنا لنردد قصيدة أحمد العربي كي نخيف الدبابات القادمة التي تحمل على أفواهها الموت للأطفال والنساء والرجال، ولا تفرق بين حجر وطير فكل شيء أمامها هو خصم قابل لأن تدوسه جنازيرها الضخمة أو تسحقه بلمح البصر كتلة اللهب المنطلقة من فوهة الدبابة أو ربما من طائرة تجوب الأجواء لتضرب كل ما يتحرك على الأرض، صدقني في المعركة السابقة على بوابات المخيم كانت طائراتهم تقصف حتى جنودهم الجرحى حين كانوا يشعرون أنهم عاجزين عن تحريرهم من أيدي الفدائيين كي لا يقعوا أسرى بأيدينا، كل شيء في عيونهم كان قابلاً لأن يموت حتى جنودهم في لحظة ضعف.
رسم نضال ابتسامة عريضة على شفتيه وقال : وهل هنالك أجمل من أن تقاتل حتى تجبر عدوك على الانتحار يأساً!!
يا صديقي إن قتلهم لجنودهم الجرحى لعجزهم عن إخلائهم ليس تخلصاً منهم كما تظن، إنه انتحار الغزاة على أبواب المخيم، من يقتل رفيقه في الخندق يعني أنه ينتحر بطريقة أخرى، فهنالك ألف طريقة للانتحار أكثرها بشاعة أن تقتل جنودك كي لا يهزموا أو يقعوا أسرى بيد خصمك.
فأجابه: لا أنكر في لحظتها أننا شعرنا بانتحارهم وبنشوة انتصارنا حين قتلوا جنودهم على بوابات المخيم، لكن في لحظات القتال العنيف لا يملك الإنسان لحظة واحدة أن يحدد مشاعره أو يحللها، حتى حبيبتي التي لم أكن يوماً أتصور أن تغيب عن بالي لحظة مرت من أمامي وسقطت على الأرض ولم اشعر بوجودها ولم أميزها في لحظات الجنون تلك، حتى أمي لم تأت في بالي لحظة إلا عندما رأيت الطائرة تقصف بيتنا.
يا صديقي لماذا تستغرب هذه اللحظات، إنها أكثر اللحظات روعة حين يمتزج كل ما فيك بتراب هذا المخيم، فيغدو كل المخيم أمك ومشاعرك وترابك والحبيبة التي لا ترى أحداً سواها، لكن حين تشعر أن الموت يمتزج برغبتك لن تستطيع ترتيب مشاعرك حسب الأولوية.
أنا لست ابناً للمخيم مثلكم لكن صدقني حين أدخل المخيم او حتى مجرد أن أمر من أمامه أحسُ بأني فراشةٌ قادمةٌ من بعيد في ليلةِ مظلمة، وجدت أمامها ضوءاً مُنيراً فبدأت تدور حوله بجنون، فلا هي قادرة على الاقترابِ أكثر لأنها كلما اقتربت شعرت بالحرارةِ المنبعثة من الضوء واقترابها يعني هلاكها، ولا هي قادرة أن تواصل سيرها ومفارقة الضوء لأنها تكره الظلام، هكذا يا صديقي أجد نفسي أتوحد مع زوايا هذا المخيم.
هكذا تكون حياتي حين اشعر أن حتفي موجود بداخل هذا المخيم، وأن موتي فيه مثل الطفل يكبر كل يوم، وأني أتصور اليوم أنه كبر ونضج بما فهي الكفاية لذلك قررت الدخول إلى داخل هذا الضوء فإما أن يتحول إلى نور أو تكون النار التي تهديني حتفي بفخر فأكن قد مت في النور.
قطع حوارهم (محمد) الذي منذ اللحظة الأولى التي دخلوا فيها البيت اتجه نحو الموقدة الصغيرة ذات العين الواحدة وأشعلها ووضع فوقه ر ِكْوَة القهوة وبدأ بممارسة هوايته بصنع القهوة، وقال لهم :
أكملوا حديثكم هذا بعد أن ننتهي من وضع الخطة للقادم، لا تنسوا آنا لم نأتِ هنا لننظم شعراً في المخيم أو أن نتبادل حديث العشاق في الأرض والبيوت، هذا المخيم يحتوي من التعقيدات أكثر مما تحتويه أي مدينة كبرى في العالم، فكل إنسان فيه يحمل رؤية مغايرة عن الحياة ولديه وجهة نظر كاملة بعكس أبناء المدن الكبرى الذين أراهم متشابهين جميعاً بأفكارهم ومتطلباتهم الحياتية، هيا تناولوا قهوتكم ولنبدأ بوضع الخطة.
(غسان) المستلقي على الأريكة المهترئة الأطراف منذ دخلوا البيت ويغطي وجهه بقبعته العسكرية كي يخفي إغفاءة عينيه في محاولة لاستراق بضع لحظات راحة بعد ليلة شاقة قضاها في السهر في نوبة الحراسة الليلية في الجبل، و كعادته دوماً يأتي ليضيف جملة واحدة في حديث الآخرين ولا يستكمل النقاش فيها قال وبلهجة سخرية ظاهرة:
المدن الكبرى ! هل فعلاً كل سكانها متشابهون؟
لا أعتقد فنضال قد كسر القاعدة، يا رفيقي في الموت تذكر دوماً أن المدن الكبرى ستعبس حين يبتسم المخيم، وبعد دقائق ستعبس كل المدن الكبرى حين يأتينا الضيف القادم بعد قليل.
نظر ( ياسين) باتجاه غسان وسأله مستغرباً : ضيف !! عن أي ضيف تتحدث؟؟
تجاهل غسان السؤال كعادته في عدم استكمال الحديث الذي يبدأه وهو يرفع قدميه عن الأريكة وينزلهما على الأرض ليسوي جلسته ويتناول كوب القهوة المليء حتى المنتصف، تناول علبة سجائره من جيب سترته الملقاة بجانبه وبدأ بنفخ دخان سيجارته موزعاً دخانها في أجواء الغرفة.
إلتف الرجال الأربعة حول الطاولة وبدأ في محاولة رسم خارطة للمخيم وتوزيع المهام فيما بينهم.
قطع حبل الأفكار المتصل فيما بينهم و التي اجتمعوا يحاولون ترجمتها إستراتيجية عسكرية صوت طرقات الباب المتسارعة.
قفز (محمد) إلى الزاوية وتناول البندقية ووجهها باتجاه الباب وصرخ: من الطارق.
نهض غسان بهدوء ومد يده باتجاه البندقية المشرعة صوب البوابة الصغيرة وقال : هبط هذا المدفع المجنون لأسفل فإن لم يكن الضيف المُنتظر، سيكون أحد أبناء المخيم، فلا ترفع السلاح مرة أخرى في وجه أبناء المخيم، وفكر أكثر من مرة قبل أن تشهرَ السلاحَ في وجه المجهول، فقد يكون المجهول هذا وجهك الأخر.
سار بخطوات هادئة باتجاه البوابة وفتح الباب بثقة وعانق الشاب ذا الوجه الأسمر والملابس البسيطة وقال له:
دوما كعادتك تتأخر.
وأكمل حديثه لكن كان الحديث موجها هذه المرة إلى لرجال الثلاثة في الحجرة الذين وقفوا منتظرين تفسيراً حول هذا الغريب الأسمر الوجه الذي يحمل كيساً على ظهره وقال لهم:
هذا أحمد صديقي من القرية المجاورة جاء هو الأخر كما نضال ليستكمل عشقه في مشاركتنا معركة المخيم، أحمد هذا يا نضال يشبه أحمد العربي الذي قلت عنه قبل دقائق في قصيدة درويش فهو بسيط مثل القصيدة، أنظر لوجهه الغامض مثل الظهيرة وتأمل في إشهاره وجهه الشعبيَّ فينا، هل توافقني أنه يشبه القصيدة؟
الم أقل لكم إن المدن الكبرى ستعبس عما قليل حين يجتمع الرجال من المدينة والقرية في المخيم فيبتسم المخيم لقدومهم.
ضحك ( غسان ) وأجاب : وليكن ... ما دام مستعداً للموت معنا فإنه يشبه المخيم، وسيشاركنا في تلاوة وصيَّتنا على الموتى إذا ماتوا، وكي نرمي ملامحنا على الأحياء إن عاشوا!
ارتفعت ضحكات الرجال الخمسة لتملأ أجواء المكان وكأن المخيم كان يشاركهم الفرحة في اجتماع الرجال للقتال دفاعاً عن الفكرة.. دفاعاً عن المخيم.
تعرف الرجال الثلاثة إلى ( أحمد) وجلسوا مرة أخرى بشكل دائري حول الطاولة و (محمد) يرسم على ورقة أمامهم خارطة للمخيم ويحاول تقسيمه وتوزيع المهام مرة أخرى مضيفاً قسما خامساً للرفيق الجديد الذي التحق بهم، ويحاول أن يحصي كمية الذخائر التي معهم وعدد البنادق التي بحوزتهم والقنابل اليدوية وكل شيء يمكن أن يستخدموه للمعركة، ثم بدأ بسؤال (أحمد):
أي نوع من البنادق تجيد استخدامها كي نحاول إيجاد بندقية مناسبة لك؟
أجاب احمد:
وهل تظنني جئت أقاتل بكفين فارغتين، هذه بندقيتي وذخائرها في الكيس الذي أحضرته معي أم تظنني بابا نويل أحضرت لك في الكيس هدية عيد الميلاد!
ثم توجه للكيس وأخرج منه بندقية قديمة الطراز لكن تبدو عليها علامات الاعتناء المتواصل ما يوحي بأن البندقية تضحك، رغم أن البنادق لا تضحك أبداً لأنها لا تصنع إلا الموت.
وأثناء اجتماعهم وقبل أن ينتهوا من تقسيم المهام تعالت صرخات في الخارج وكأنها صرخات رعب دبت في أرجاء المخيم، فصرخ (غسان) في الرجال الملتفين حول الطاولة:
إنها المعركة يا رجال فإلى الهجوم ... لنجعلهم ينتحرون اليوم على أبوابه مرة أخرى.
لم يكد يكمل (غسان) صرخته حتى ركض باتجاه الزاوية وبدأ بتناول البنادق المصطفة في الزاوية وإلقائها تباعاً لرفاقه الذين بدءوا يستعدون بحمل الذخائر وإعداد البنادق وتفقدها.
هذه المرة كان الغزاة أسرع منهم جميعاً فمجرد أن همّ (ياسين) بفتح الباب حتى طار أمامهم في الهواء مرتفعاً وسقط على الأرض مصاحباً هذا الطيران صوت عنيف جداً أصمَّ آذان المقاتلين الواقفين خلفه يملأهم الغضب والجنون والرغبة العارمة في خوض المعركة.
لم يكن هنالك مجال للصمت أو حتى مجرد التفكير فيما يحدث، لقد وصل الجنود إلى البيت، ما يعني أن الغزاة وصلوا إلى داخل المخيم، فما كان من المقاتلين إلا أن تراجعوا للخلف وبدأ كل واحد منهم يتخذ مكاناً مناسباً بدون تفكير.
سارع (غسان ) بتحطم زجاج النافذة أمامه بكعب بندقيته وشرع بإطلاق النار بغزارة على كل شيء ذي زيٍّ أخضر يتحرك أمامه.
وبدأت المعركة مع المقاتلين الأربعة المحاصرين في داخل غرفة واحدة والذين فقدوا قبل أقل من دقيقة رفيقهم الخامس بقذيفة أطلقها أحد الغزاة الواقفين بالباب.
لقد فهم المقاتلون الأربعة إستراتيجية المعركة، فقد قامت الطائرات بعملية إنزال مفاجئ لجنود الموت مستغلين حلول الظلام بعد أن تكبدوا في المرة السابقة هزيمة ساحقة حين حاولوا اقتحام المخيم من بواباته الرئيسية، هذه المرة حددوا أهدافهم بدقة ويبدو أنهم قد راقبو تحركات السيارة التي أقلت المقاتلين الأربعة وحددوا كذلك البيت الذي دخلوه فهاجموهم مباشرة حين دخل الجنود كذلك المخيم في سيارات مدنية وهم يرتدون الملابس المدنية ليخفوا معالمهم.
بدأت المعركة تشتد وصوت الرصاص والقنابل تملأ المكان ضجيجاً عالياً، والأجواء تعج بضباب رخامي اللون، جنود مسلحون حتى أسنانهم بأحدث الأسلحة الأوتوماتيكية يقارب عددهم المائتي جندي في مواجهة أربعة مقاتلين محاصرين وشهيد ومخيم.
ضجيج مثل الأغاني الصاخبة، وصوت الرصاص يتوزع في كل الأنحاء، ولا شيء يسيطر على العقول سوى كيفية تبديل المخزن للبندقية المجنونة وتحديد الهدف بسرعة متناهية.
كان جنود الغزاة يتساقطون بسرعة رغم عددهم الكبير وعدتهم المتفوقة على عدّة المقاتلين المصرين على الموت دفاعاً عن المخيم.
بدأ الجنود في الخارج يتراجعون للخلف ويجرون معهم جرحاهم وقتلاهم بعيداً عن مرمى النيران التي بدأت تضيء الأجواء من كل النواحي، وكأن الجنود لم يتوقعوا هذه القوة في التصدي لهم من خمسة مقاتلين محاصرين في بيت لا تزيد مساحته على العشرين متر مربع.
في الخارج انطلقت أصوات الناس فأدرك المقاتلون أن الجنود بدءوا باقتحام البيوت المجاورة لتأمين الحماية لأنفسهم وتأمين مستشفيات ميدانية لجرحاهم.
والمقاتلون صامتون وبنادقهم وحدها التي تنطق بالغضب.
بدأ أحمد بالصراخ على رفاقه:
كونوا أكثر حذراً الآن فقد دخلوا بيوت المخيم وربما يستخدمون الأهالي كدروع بشرية، حافظوا على ذخيرتكم وحاولوا أن تحددوا هدف كل طلقة تنطلق من بنادقكم، سأكسر بندقيتي قبل أن تصيب أحد سكان المخيم فلا تدعونا نندم على دخولنا هذه المعركة.
هدأ إطلاق النار باستثناء طلقات متفرقة تنطلق بين الحين والأخر من الجانب المقابل فيرد عليها أحد المقاتلين المحاصرين في البيت بعدد من الطلقات باتجاه مصدر النيران المقابل.
قال (محمد) : احموا ظهري، سأخرج من هنا لمحاولة تشتيت المعركة فربما أنجح في إخراجكم جميعاً من هذا الحصار الذي يجعل منا هدفاً مفتوحاً للأعداء والموت.
زحف باتجاه (ياسين) الملقى على ظهره على الأرض والدماء تملأ ملابسه والأرض حوله وجسده ممزق وملامح وجهه لم تعد واضحة من إثر الجراح التي انتشرت في كل مكان في جسده، تفقده من كل النواحي وتأكد أنه فعلا قد فارق الحياة ولا أمل في نجاته، فسحب بندقيته التي لم تزل معلقة على كتفه ويركن كل جسده فوقها وأخرج ذخيرتها وأخرج بقية الذخائر من جيوب رفيقه المسجى على الأرض واتجه نحو الشباك الذي يقف عنده (غسان) وقال له:
سأخرج من هنا فاحمني، لأن الباب تحت مرمى النيران بالتأكيد ولا بد أنهم قد وضعوا قناصة يوجهون بنادقهم باتجاهه.
قفز من النافذة وتمدد على الأرض وبدأ بالزحف وبندقيته موجهة للأمام، وبمجرد أن تقدم أمتاراً للأمام حتى بدأ الجنود المتمركزون على الأسطح المحيطة بالبيت الذي تحصنوا فيه بإطلاق القنابل المضيئة لتضيئ المكان.
ومجرد أن أضاء المكان حتى انهمر سيل من الرصاص والقذائف باتجاه (محمد) محولاً إياه جسداً بلا روح خلال ثوانٍ قليلة، وتجددت المعركة من جديد، لكن بأكثر وطأة وبمزيد من الغضب.
بدأت القذائف تنهال باتجاه البيت الذي يحاصر بجدرانه المقاتلون.
والمعركة تستمر، ولا شيء سوى الموت وأهداف تسيطر على عقولهم مرة أخرى.
تفادى (نضال) رصاصات الحقد القادمة من خلف الباب والشبابيك، وهو يضمد جراح رفيقيه الجريحين بأشلاء قميصه ويراقب بوعي يائس مفارقة أحدهم الحياة.
كان رفيقه يتمسك بالموت كما تمسك بالحياة من قبل، وكأن كلا الحالتين صارتا متشابهتين في لحظات المعركة الحاسمة التي تحدد مقامات الرجال.
كان يذوب كدموع الشموع المشتعلة.
حمل الرفيق الأخير المتبقي في غرفة الحصار الخانقة ووضعه في زاوية الغرفة وجرَّ الطاولة التي صنع الرصاص القادم من كل مكان فيها ثقوباً واسعة ووضعها مقابله بعد أن ضمد جرحيه في الفخذ الأيمن وفي الصدر، وضع بندقيته بجانبه وقال له:
لا تمت قبل أن تفرغ ما تبقى فيها من رصاصات في صدورهم.
عاد واحتمى في زاويته وبدأ في محالة اقتناص هدف يتحرك من الجنود المتمركزين حوله.
فجر هدوء المكان قذيفة لهب ضخمة جاءت من السماء، من طائرة مجنونة تحاول اصطياد هدفها بدقة، أخطأت الطائرة في إصابة الهدف الذي يعتبر مصدر النيران التي تسقط بالجنود تباعاً فسقطت في منتصف البيت بعد أن صنعت فجوة هائلة في السقف وتبعثرت أشلاء الغرفة في كل الأماكن.
سادت لحظة هدوء في المكان بعد الانفجار الكبير الذي أصاب المكان والدخان يتصاعد من كل مكان وشعلات من اللهب تنتشر في أجواء المكان.
دخان أسود يغطي الجو ويحجب الرؤية، والأعداء في أشد لحظات الانتظار لمعرفة النتيجة.
بدأ يستفيق من غيبوبته التي لم تدم طويلاً.
وبمجرد ما استفاق من غيبوبته بدأ بتحسس جسده الذي لم يعد يشعر به من شدة الآلام التي ألمت به من كل النواحي وفي كل الأجزاء، وبدأ يتحسس بيده أعضائه وجراحه التي انتشرت في كل مكان من جسده، في الكتف جرح ينزف بشدة، في الوجه عدة جروح متفاوتة بشدتها لكن كلها تنزف.
في الرجل اليسرى جرح عميق، وأشد الجروح ذلك الذي زرعته شظية القذيفة في صدره بمحاذاة القلب وكما يبدو أنه تسبب بجَرح أحد الشرايين في صدره.
حاول تجاهل جراحه والنهوض لتفقد رفيقه الجريح فلم يساعده جسده المثخن بالجراح والذي انتشرت فيه الشظايا كما تنتشر حبات القمح في الأرض المعدة للزرع.
بدأ في استجماع قواه وزحف حتى وصل الحائط وبدأ بالاستناد للحائط بيد واحدة سليمة قادرة على القيام بذلك.
عين واحد كذلك قادرة على تفقد المكان والبحث عن بندقية طارت من يديه بلحظة لم يشعر بها.
والدقائق تمر وهو يسند ظهره للحائط ويسمع من بعيد خطى أقدام كثيرة تركض باتجاه المكان المدمر.
إنهم قادمون بعد أن ظنوا أن الحياة انتهت في المكان، لكن ككل مرة تخونهم التقديرات، وبدأ يفكر في كيفية جعلهم ينتحرون أيضا هذه المرة.
لم يجد بندقيته في أرجاء المكان فقد كان الانفجار شديداً وغطى الركام الذي إنهار من السقف كل شيء حوله، لكنه لم ينسَ أنه يملك مسدساً لم يفارق خاصرته التي تنزف أيضاً، فتناوله بيده اليسرى السليمة وبدأ يحرك بالمسدس كي يعود نفسه على استخدامه باليد اليسرى التي لم يسبق له أن استخدم المسدس فيها والخطى تزداد قوةً واقتراباً وهو يزداد شجاعةً واستعداداً للقتال حتى اللحظة الأخيرة.
كان الجرح في الصدر ينزف بشدة ويزيده وهناً وضعفاً على المواجهة المؤكدة القادمة.
وبدا يحدث نفسه وكأنها حالة المواساة الأخيرة قائلاً:
أيها الجرح قاوم ... أيها الجرح تماسك قليلاً ... أيها الجرح قاوم فإني أخشى إن فقدت الحياة بنزفك، أن يأتيَ بعدي سمسار فيساوم.
تمر ذكرياته سريعاً بشريط طويل يدور حوله، يرى وجوهاً لم يتذكرها منذ سنين.
بمرور تلك الوجوه المنسية بدأ يشعر أن لحظات الرحيل قد حانت ولأن ذاكرته أيضا تشبهه تماماً في حب الآخرين فقد قامت في استحضارهم جميعاً في هذه اللحظة كي يراهم هو أيضاً ويلقي عليهم تحيته الأخيرة.
الذاكرة تستحضرهم لتثبت أنها ذاكرة حية حتى اللحظة الأخيرة في حياته.
كان الشريط الذي عبرَ الذاكرةَ هو مخاضها في إخراج كل الوجوه العتيقة في داخلها، فهي تود أن تقول له إن المرحلة تبدلت وإن اللحظاتِ القادمة ميلاد لحياة جديدة.
طوفان من الأسئلة والأسماء الدافئة تمتزج في أوردته وتخرج مع دمه النازف من أعماقه.
ينقطع الشريط بسرعة فائقة حين يدخل أول الجنود حاملاً بندقيته ويبدأ بالبحث في أجواء المكان عن بقايا حياة ينهيها في هذا المدفع المتطور والموجه لأي حياة حوله.
يحاول استجماع قواه، في حين يدخل الجنود واحداً تلو الأخر إلى المكان المملوء برائحة الرصاص والنار والدخان والموت.
قوة غير مسبوقة تجتاح جسده فيرفع مسدسه ويطلق بسرعة طلقات المسدس بيده اليسرى باتجاه الغزاة، وفي اللحظات نفسها يتراجع الجنود إلى الخارج تاركين خلفهم في داخل المكان جنديين مصابين من الطلقات التي أطلقها.
يحاول أحد الجرحى أن يزحف باتجاه البوابة ليهرب من الجحيم الذي أسقطه في غرفة الموت، لكن نضال كان الأسرع في إفراغ طلقته الأخيرة في المسدس في ظهر الجندي الذي يحاول الهرب.
ومجرد لحظات أخرى عبرت الزمن حتى دوى انفجار آخر في الغرفة جاء من الخارج عبر قنبلة ألقاها أحد الجنود في محاولة لقتل آخر أنفاس في جسد يحاول حتى اللحظة الأخيرة أن يقاوم.
لقد نجح في هدفه حين أجبرهم مرة أخرى على الانتحار في في ذات المخيم حين أجبرهم على إلقاء القنبلة وقتل جرحاهم في داخل الغرفة... نعم لقد انتحر الغزاة أمام المسألة.
كان الانفجار يسبب (لنضال) عبور طوفان المسألة ويسير به على جسر الموت بلا أسئلة.
كان استشهاده التوحد في العشق عندما فارقت الروحُ الجسدَ في شظايا قنبلة.