الخميس ٢٧ أيلول (سبتمبر) ٢٠٠٧
بقلم موسى نجيب موسى

ظل الذاكرة

الشمس تختفي فجأة..تلتهمها سحابات حمقاء..أراه يسيرعلى الجانب الآخر من الشارع..خطواته متثاقلة..يستندعلى عصا نخر السوس أسفلها وأعلاها.. وجه مألوف لدي وان لم يكن هو فغيره؛ فهم يملئون الشوارع والطرقات ..منهم من يطرق الأبواب سائلين أصحابها، ومنهم من يتخذ من الشارع مسرحاً لالتقاط الرزق ..غطاء رأسه ممزق من جميع نواحيه عيناه قاحلتان غائرتان تبدو فيهما بقايا نوم سنوات مضت.. ملابسه لعب فيها الزمن لعبته تختلط فيها الألوان حسب عدد الرقع الموجودة فيها .. لحيته طويلة بيضاء جعلتها عوالق الأيام أشبه ما تكون بلون
الطين .. شاربه كث .. يسير حافي القدمين .. لا يبالي برودة الأرض .. يجذبني منظره .. أتابعه.. أتواري خلف إحدى الأشجار التي يزخر بها الشارع.

فالشارع خالي تماماً من المنازل ماعدا فيلا رائعة الجمال ترقد في نهايته.. يمد يده سائلا الله في الناس .. تعود كما مدت خاوية .. لا أحد يعيره اهتماماً ولو بنظرة .. الناس يتناقص عددهم .. برودة الجو .. وموت الشمس.. يجعلهم يهرولون لمنازلهم ؛فهي المكان الآمن الوحيد لهم الآن .. قطرات المطر أخذت تتساقط ببطيء وتثاقل .. ما زلت أتابع ذلك العجوز البائس..يمد يده ثانية تعود خاوية.. يمدها مرة أخرى لكنها لم تكون خاوية تماماً هذه المرة.. هناك من وضع بعض القروش .. يضعها في جيبه بطريقة آلية معتادة.. لا يقنع بتلك القروش .. يترك مكانة يسير بقدميه الحافيتين يشق طريقه وسط بركة مياه تراكمت بفعل توالى سقوط قطرات المطر التي أخذت فى الازدياد ..أتابعه بنظراتي .. فضولي يمنعني من العودة إلي المنزل ..وصل إلي الفيلا .. ما زلت أرقبه .. وقف أمام بابها الخارجي .. لم يشأ الدخول ..ربما ليطمئن للمكان.. عاد يسأل بعض الناس الذين لم يعودوا لمنازلهم بعد.. يتركونه ..لا أحد يهمه أمره ..أو أمر ملابسه الممزقة .. الجميع هدفهم الهروب من هذا الزمهرير المتساقط الذي أخذ يشتد ويشتد .. لا ييئس.. يرسل ناظريه في كل مكان .. يتمني أن يجد أناسا في الشارع فهم مصدر رزقه الوحيد .. تلفت انتباهي بنظراتها الحزينة الممتلئة بالشفقة و التي ترسلها عبر نافذتها حيث تقف كمن تترقب عودة حبيب غائب.. يجذبني جمالها الهادئ .. أتفرس وجهها الملائكي .. عدت أمارس هوايتي .. كنت أبادل النظرات بينها وبين هذا العجوز البائس .. ولكن سحرها شدني إلي شواطئ الأحلام.

ذهبت بخيالي بعيداً.. تنبهت فهذا رجل يحن ويشفق علي ذلك العجوز.. يضع في يده ورقة مالية كبيرة لمحت طرفها عن بعد .. أعتقد أنها جنيهاً كاملاً .. فجأة بعد أن راقب العجوز الطريق جيداً .. وبالطبع لم يرني .. ترك عصاه.. واتجه ناحية الباب الداخلي للفيلا تحسس شاربه ولحيته .. شككت في الأمر؛ فربما يكون هذا هو حبيبها المنتظر !! لكن يديه المعروقتين التي تطرق الباب بوهن تمحي أي فكرة تراودني بهذا الخصوص .. لم تشأ أن تفتح له .. عرفت أن هو .. اقتربت من خلف الباب .. سألته .. رد عليها .. محتاج لقطعة خبز تسد رمقي..جاوبته .. لكني بمفردي.. جميع من فى المنزل ذهبوا إلى أعمالهم وأنا هنا لأستعد للامتحانات .. رد عليها أحتاج لقطعة خبز تسد رمقي .. صوته الواهن ونبراته المستعطفة حركت نوازع الخير والإحسان بداخلها .. أسرعت دون أرادتها .. تفتح له الباب يطلب منها تجبيه .. يعاود الطلب .. تجبيه ثانية .. كل هذا وهو يشيعها بنظرات جائعة نهمة من خلفها .. اقتربت من النافذة لكي أمارس هوايتي .. رأيتها تحضر له حذاء وبالطو ليسترانه .. سألها بمكر .. بمفردك أنت ؟ ردت عليه .. قد قلت لك منذ قليل .. تلاعبت برأسه الأفكار .. اقترب منها... تراجعت .. خافت .. أقترب أكثر .. لمعت عينيها ببريق الخوف .. لا يبالي ..

تساءلت بيني وبين نفسي ماذا يريد أن يفعل ؟ جاءتني الإجابة سريعة .. اقترب منها أكثر وأكثر وفجأة أنقض عليها لم يبال بصرخاتها ولا توسلاتها.. لا أعرف لماذا ماتت داخلي نوازع النخوة والمروءة ؟ نال منها ومن جسدها .. ربت "مصطفي" علي كتفي من الخلف وقال لي تأخرت عليك ، لكن لماذا أنت مختبئ وراء الشجرة هكذا ؟ نظرت إليه طويلاً ثم رفعت رأسي للسماء رأيت الشمس لم تغب بعد والسماء صافية إلا من بعض البقع التي تزيدها جمالاً وبهاءً ،والعجوز مكانه لم يتحرك بعد، والفيلا مازالت تكتحل بها عيناي، والناس كثيرون في الشارع يذهبون ويجيئون .


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى