السبت ٢٠ أيار (مايو) ٢٠٢٣
بقلم توفيق الشطي

عائشه

لذت الحكاية. وعذبت. وحلا طعم سردها الحالم. كأنه العسل في الريق أو الشهد في الحلوق. حتى صار أشخاصها لحما ودما على سطح الصفحة يتهامسون. وأمام عينيه وبين جدران أسطرها مثل لاعبي الغميضة يتلاحقون. وفوق فواصلها وعلى مرأى منه ومسمع يقفزون قفز العصافير في بركة الماء الصيفية. و قريباً منه بنقاطها كاللاعبين بالثلج كانوا يتراشقون.

وشيئا فشيئا صار مداد الحبر من شرايينهم. بنسكب دافئا ورديا دافقا. وانقلب بياض الصفحة سحابا قطنيا لسمائهم.

فانغمس في القراءة حتى صار يلمحهم. وكاد يلمسهم. وبدأ يسمع حديثهم. كأنه الوشوشة أو الهمس في أذني الصبي. فعلق في القص. وتشوق. حتى أطربه ايقاع الحكاية. وغدا نبضا لقلبه كمهجة الهائم الطارق على أول باب يجده. وانهمك في التعقب. وأصابه الفضول مستترا وراء هدب العين. يلتهم الوقائع شرها.

ويتفحص الملامح كالرائي للأحلام أو النائم يقظا. ينظر من بعيد، ومن فتحات الخشب والحديد. واستحالت القراءة فرجة الى أن كشفه نبضه فقلب الصفحة مسرعا ليختفي وراءها عنهم فاذا هو أمام لوحة من عمل الملائكة وأناملها استدار فيها قمر"أسبل الظلام على الضياء"فتعطل السرد. وهفتت الحركة. وتوارى الأشخاص عن نظره. وغابوا. وغمر الضياء عينيه فضيا ساطعا. فأغرق في الحملقة. وتاه في التحديق. فلاح له معلم أو معبد. هيكله كأنه قامة القمر وقده. واذا أثمار فردوسية كالكواعب. لازالت تنضج. وبماء النكهة تنضح. أشكالها شهية. يدور التفاح والرمان فيها كما لم يدر في عينيه من قبل. والورود كأنها الخدود. والأغصان كأنها القدود. وتحت قدمي القمر٫ ينبت عشب ليموني أخضر أصفر مذبب مثل أسنة الرماح القائمة مرصف متراص. يهيجه الريح. فلا يهدأ. يتطاول. كأنه سور المعبد أو سياج المعلم. واستهواه منظر العشب. وأغراه. وتحول الفضول لديه الى ذهول حرك يده الصغيرة الناعمة. فمدها باردة ساذجة. يلمس بها عشب اللوحة. وأحس بالرغبة في التمرغ عليه ليمتع بالنظر الى القمر العالي عينيه. فلاح له سرب من طيور الليل السوداء كأنها حبال غسيل. بعضها يظهر على وجه القمر. والبعض الآخر يختفي بين خصلات الظلام. ويطوق جيد البدر كالتميمة أو القلادة. وما بقي من الطير يتوارى داخل المعلم.

وبالرغم من كثرة عدد الطير وشدة سواده فانه لم يتطير.

ورمقه البدر الطالع بعينين باسمتين. كأنهما ثغر الوليد المناغي. ثم إنقلب القمر الى برتقالة كبيرة. فاض لونها على كامل اللوحة. فسرع المشهد عزف نبضه. وصيره كإيقاع الموسيقى الراقصة أو كوقع الدبكة أو كالطرق على الأبواب. وطرب أيما طرب. وكساه العرق. وقفز نبضه الراقص. حتى كاد الصدر يحترق.وأنهكه الاحساس بالوجد. وانغلقت جفونه. وأظلمت عيونه.

ولم يدر أنه كان فقط يخيط ذاكرة غده.

وأخذه النعاس حتى غلبه. وقطع تثاؤبه. فأسلم للكتاب خده يافعا غضا. وتوسده. ونام كالعريس. وخطب القمر في منامه. وقدم وسادة خده مهرا لعروس أحلامه. وطرد طير الليل من أوهامه. ومرغ على العشب الليموني جسده ووجدانه. وأكل من الثمار الفردوسية ماحلا له. وكمن أنهضه أحد، استيقظ من غفوته. ولم يكن يدري أنها غفلته. يتلمظ طعم البرتقال في ريقه. وأحس أنه نام زهاء العام. وأدرك وهو يفرك هدب العين أنه قد أفاق في اخر منامه من أعذب أحلامه كمن أطرد من جنانه. فاستاء.واغتم. وحزن. واهتم. وتحسس اللوحة والكتاب بيده. فلم يجدهما. فقفز كمن لسعه ثعبان ذلك العشب الليموني، أو كمن نعق في أذنه طير الليل الأسود. فنظر. وبحث. ودار. وسأل. واحتار. ولطم خده كالثكلى أو الأرملة. وبكى بكاء الطفل الذي سرق قطاره. وبقيت سكته ومساره. وسكنه الألم. وعصره. وعسكر عنده السؤال. وبرح به. وحيره :

هل أخذه القمر؟ أم خبأه القدر؟

ما أبشع اليقظة تسلمه من الحلم الى العلم! كم كان حلمه قمريا برتقاليا! لكنه حين أفاق منه أدرك أنه قد ضيعه. ولم يقدر على أن يحميه ويحتفظ به. لقد كان عليه أن يعض عليه بأظافره وأسنانه.

وما هذا المغنى الناشئ ساخرا بين"القدر"و"القمر"معا؟ أي جناس هازئ هو؟

أثقله الهوس بالسؤال وكاد الشعور بذنب المتحسر أن يكسر رأسه الصغير المستدير بالكاد وسط شعره الكث. وأراد العودة الى النوم. لكن يدا كبيرة خشنة امتدت الى رقبته تداعبها. وتمسح عرقها. وسمع صوتا يقول:

"يا أشقاهم التقط أقلامك من تحت الطاولة. واجمع أشياءك المبعثرة. وعدل وسادتك. وأغلق هذه النافذة.

وأسكت هذا اللحن. انه لم يحن أوان أغانيك الحزينة بعد. هذا النغم هو ما جعلك تهذي في رقادك."

لقد كانت جدته تستعذب أن يناديها باسمها فالتفت إليها وقال:

"يا عائشه اجلسي بجانبي فاني أشعر بالبرد والألم والشجن."

فجلست على حاشية السرير. والتفتت إليه. وقالت:

فضولك هذه الأيام تعطش غريب كعطش العجائز مثلي إلى الماء. بينما ماء الشبيبة في محياك عنفوان صارخ. وانك كلما قلقت أو انزعجت زاد حسنك. وحلت عيونك. وطالت أهدابك. وغمق كحلها وسوادها.

وقبلته فوق عينيه. فخشخش حليها الفضي في أذنيه. ونفذ الى صدره. فتنهد. وغادرت غصة غائرة مستعصية صدره. وكم كانت يدها الخشنة الكبيرة بلسما وهي تعيد وضعها على شعره. وتخلل أصابعها كالمشط بين خصلاته الحريرية. كأنها تفليه من الثقل والعبء. فتنهد مرة أخرى تنهيدة متقطعة كمن كان يبكي. فنظرت إليه عائشه مستغربة. واقتربت منه أكثر. تريد أن تضمه إليها مشفقة على صباه من هول تلك الأسئلة. وقالت له في لهجة اللائم وفي نبرة الناهر الناهي عن الاثم:

"ما بك الليلة؟ انك ترتجف كعصفور العاصفة أو كمن زاره طائر الموت. رفقا بهذا الرأس انك تعصره ولن يسعفك إلا بالسؤال."

أمسك يدها. ووضع كفها الكبير بين كفيه. وقبل أصابعها بشفتين ساخنتين. ونظر إليها في عينيها متوسلا. وقال لها :"اروي لي قصة طائر الموت هذه يا عائشه.. أرجوك."

فلقد تذكر طائر الليل في اللوحة الضائعة. فاسترسلت جدته في القص. وقالت عن طائر الموت انه من فصيلة البوم. عيناه بشعتان. أذناه بارزتان. منقاره معقف حاد غائص في ريش ثعباني اللون والملمس مخطط بالسواد والرماد. لكنه أكبر من البوم. وأضخم. يخرج وقت الغروب ليقتات. لا أحد يعرف مضجعه. يقول بعضهم انه يسكن قمم المرتفعات. ويقول البعض الآخر إنه طائر سماوي. يحدث بمنقاره وأجنحته من الأصوات ما يرعب ويخيف. فرائسه الرضع أو الأطفال. يتسلل الى مضاجعهم مهما كانت ضيقة أو نائية أو محصنة أو محمية. فيمتص ألسنتهم. فيختنقون إلى حد الموت.

وصمتت عائشه لتمرر اصبعها على خده وحول شفتيه. كأنها ترسمه. وأضافت تقول:

يسمى طائر الموت أيضا"أم الصغار"!

أما أنت يا أغلى ناسي، فقد زغب وجهك. و نبت لك رقيق شعر في ذقنك وخديك وما بين أنفك وشفتيك. وقريبا قريبا يا قطعة السكر الأسمر ستذوب خارج فنجاني. وتأخذك مني عصفورة فاتنة لتذوب في منقارها. وسيصبح رقيق شعرك هذا جناحين دافئين. تطير بهما أنت وعصفورتك الجميلة لتطرزا عشكما سندسيا وثيرا. ما أقرب ذلك اليوم منك. وما أبعده عني. ليتني ألحقه.

فابتسم حتى انغلقت عيناه خجلا. واحمرت وجنتاه وجلا. وأفرغ فضلة غصته من صدره متنهدا. ونظر الى جدته مادا عنقه كالفرخ الجائع. وقال لها:

 لقد خطبت القمر يا عائشه..

فوضعت كف يدها على صدره. ومالت إليه برأسها المعصفر في نوار اللوز. وقالت له مستغربة :

 متى كان ذلك؟ لم لم تعلمني حتى أذهب معك لأخطبها لك؟

فأجابها بجدية الصبيان:

 خطبتها للتو.

كتمت عائشة ضحكة فاجأتها. وقالت له :"منامك صار ورديا أيها الشقي.. وبدأت تتذوق لذيذ عذابات العشاق.. صف لي حسن آسرتك أين كانت تقيم قبل أن تسكن هذا القفص الصدري؟"

وأين يسكن القمر يا عائشه؟!

ابتسمت وأجابته قائلة:

لأذهبن الى سمائها ولو بذلت الروح يا مهجة عائشه. ولأزفن لك القمر. لكن بعد أن أشبع منك ياعمري ويا حلاوة فنجاني. ولن أشبع.أعدك بأن أصعد الى السماء لآتيك بالقمر.

تمددت عائشه على فراشها الأرضي بعد أن فككت حليها الفضي ككل ليلة. ووضعت قطع خشخاشها بجانب ابريق مائها الليلي وعلب عقاقيرها. واستسلمت للرقاد في إحدى ليالي الصيف الحارقة بعد أن تشهدت كعادتها كل ليلة. واستغفرت. وتمتمت بما حفظت من قصار السور وطوال الأدعية. شعرت بدوار خفيف أصاب رأسها. لم تحمله محمل الجد لتعودها عليه الى أن اشتد الطنين في أذنيها. فعكر صفوها. ورغبت في القيء. لكنها لم تقو على رفع رأسها. حاولت لكنها لم تفلح. ولما يئست من القدرة على الحراك قررت أن تنادي أحدا لينقذها. لكنها لم تقو على النطق. كأن أحدهم شرب صوتها. وبقيت على تلك الحال وقد خارت كل قواها إلا من نفس كالمد والجزر. حتى نهض من في البيت. فتسلل بين سيقانهم ليراها ممددة على ظهرها شاحبة الوجه ممتقعة. غرس الطبيب إبرة رفيعة حادة في مواطن متفرقة من جسدها. ولكنها لم تتحرك. ولم تستيقظ من غيبتها. حينها قال ذو البدلة البيضاء والحقيبة الرفيعة السوداء"أمرها الآن عند السماء". أما عائشه فقد ارتسمت على شفتيها ما بدت كأنها ابتسامة ساخرة هازئة كشفت عن أسنان صفراء محطمة كأرصفة المرفأ القديم. حينها أدرك أنه قد تحول الى قارب تائه في اليم بلا بوصلة. فمنارة المرفأ ضوؤها أرمش والوجه جلده كرمش. فنتأت العظام. وغارت المآقي. وانحفرت الخدود. وبهت اللون.

كم ذبلت يا عائشه! لقد صرت كوتر العزف المترهل أو كجدول متروك هرب ماوه فتاه يبحث عن مساره مهدم الضفاف من فرط العطش.

وغلبته العبرة والشهقة. فانهمرت دموعه مدرارا ساخنة كمن أحس باليتم وتقطعت كل صلاته بالحياة. فاقترب منها. وانحنى على ركبتيه. وقبلها من جبينها. فاذا هي باردة الجسد جامدة في عز القيظ شاحبة اللون. كأن أحدهم امتص دمها. ووضع رأسه على صدرها برفق. فوجده صامتا موحشا خاليا من النبض كالخلاء أو كقارورة العطر الفارغة. فطوق جسدها بذراعيه. يريد عبثا أن يضمها أو أن تضمه.

ما كاد الرأس يشقى..
ويضنيه الأرق.
ويعصره مر السوال..
ويكسوه العرق..
ويستهويه الفلق.
حتى حزمت حقائبك..
وعزمت على الترحال.
وتواريت بعيدا،
وفي المحال.
خلف الاشفاق
والشفق.
من لليتيم بعدك..؟
يا عائشه.
من لأشيائي المبعثرة..؟
والقلق!
من لأشلائي الممزقة..؟
ومحني لما تأتلق!
وجوع نيراني..؟
حين يلتهم أوصالي.
وأوتاد وصالي.
فأحترق.

وجلس بين قبرين يسترق النظر من بين سيقان الحضور الى كدس التراب يحثى على عائشه في عجلة ويقين لملء حفرة رمسها أسود ثقيلا. حينها أدرك أن الحياة يخوضها الناس مجتمعين. أما الموت فانهم يواجهونه فرادى. وتأكد أن من أخطأه طائر الموت فانه لن يسلم من الموت. فالموت موعد ووعد. وتذكر وعد عائشه له حين قالت له سأصعد الى السماء لأزف لك القمر. لكن كيف ستصعدين يا عائشه الى سماء القمر وقد ثقلوك بكل ذلك التراب؟ وحتى ان صعدت يا عائشه فانك لن تعادي ولن تعودي ولن تزفي ذلك القمر.


مشاركة منتدى

  • أقصوصة : حمية معجزة
    توفيق الشطي

    عسكرت عند قدمي بكرها الموجوع مكلومة ، مثل عصفورة تحضن قشر بيضها ، في الوكر ، وسط الأيك . كأنه الخدر . توغلت في مداراته عن الفضول . وأوغلت في اخفائه بعيدا عن العيون جدا . أدمنت التراتيل الصامتة والابتهال، متبتلة ، ناهضة الليل القائم كله ، خاشعة ، كليمة للسماء من فتحة في أغصان الشجرة الوارفة وأوراقها الكثة . كأنها الدغل .القمر الفضي أنيسها والأنجم . حتى عاودها حمل بكرها الموجوع حملا في الأهداب والرموش ، كالرحيق في سيقان النحل .

    وما يكاد الليل يغور ، حتى كانت تلبس ريشها قزحيا بديعا . وتزدرد الوجع . وتبتلع الدمع في المآقي ، بحري المذاق . وتحرك الريح نسيما فجريا ، بجناحين وثيرين . فتنفض غبار الظلام . وتقفز . فتطير كقارب الجو محلقة في بهائها ، غير عابئة بمداه . تمخر عباب الأفق الرحب . ترتجل من قلقها ومن الذعر عذب المعزوف بمنقارها الأحمر كالشفاه . والصدر المعصفر بسندسي الريش ورقيق الديباج بارد كسكة القطر . صامت . فارغ من نبضه المودع في العش المبارك ، كمدن الحرب المقفرة وجداول النهر العطشى .

    وتعود العصفورة الراهبة في كل مرة الى محراب معبدها في الأكمة ، مثقلة حيطة ، محملة خيفة . وتدلف اليه حذرة كالوالج في الظلماء . تراوغ الروع رائعة . أملها مدى عنيد في الفتحة السماوية . وما أن تحط وتهبط من السماء الى السماء كبعض وحي بركبتيها على حاشية العش ، حتى تسترجع الهجعة . وتسترد النبض أدفق حلما وأشهى وقعا . فتقرفص في العش ، فوق القشر . وتغفو . ولا تغفل بمقلة مفتوحة ساهرة ،كعيون القلب المتيم .

    لم تكن تعد الليالي وما انقضى منها . ولا تستعجل الأيام وما تبقى . انها لا تعبأ . ولا تكترث . فقط كانت تحتسب . ولا تحسب . تبتهل الى السماء من فتحة الفضة الليلية في عشها المبارك . وتبذل الدفء للقشر بمقدار . كأنها دفق منه لا ينضب . ولا يفيض . حتى تحشرج البيض كالصدر المتعافي . وتكورت الروح فيه . وزارته الحياة ضيفة على حين غرة . ودبت فيه الحركة . كأنها الوشوشة أو الهمس .

    حينئذ وقفت العصفورة على ساقيها بتودة ورفق . تتعثر . وتتمايل على جانبي العش . تكاد تقع من فرط الحذر والغبطة معا . فتستقوي كالسكرى بجناحيها . وتستعين بهما حتى لا تسقط فوق البيض منهارة . فترفسه . ولما تماسكت غاصت برأسها الصغير كحبة العنب في القش . تنقر بيضها المزور بمنقارها . كأنها تقبله وتناغيه . ثم تقلبه على الجنب الآخر . كأنها تهدهده وتسليه . وعادت مقرفصة تفرك جناحيها متململة . تملأ العش . وتفيض على الببض بريشها . فتحفظ ماء الحياة فيه . ومدت عنقها الفاخر من ضوء الفتحة الليلي ومن ثناياها الفضية ، بين أفراخ الشجر ، كمن يرفع قبعة أو يحمدل .
    وقبل فجر ، تصدع القشر . فانفقص البيض كما ينفلق الزرع عن الحب أو البرق عن السحب . وغادر الفرخ المشيمة والرحم متمرغا في الريش . يدغدغ العصفورة . كأنه يوسدها . فأفرغ روعها . وأفرخ قلبها . وذهب خوفها . وسكنت . فأسبلت الجفون . وأغلقت العيون . وارتخت . ونامت .

    وعند كل فجر ، صارت الراهبة المزركشة تترك ديرها في الأيك طائرة من شدة الفخر . تجول بين الحقول والأيام . وتنوع القوت للفرخ حبا ونبتا وماء . وتجرب هذه الوجبة أو تلك في حمية معجزة . تجمع طري العشب وشهي الفاكهة ولذيذ الثمر وصافي الماء . تمضغها جميعا بالحويصلة . وتتبلها بالنفس الساجد والريق الذاكر . كأنها الترياق . وتزقه كالمرضعة أو الممرضة مرات هي تعدها وتحددها . كأن الحكيم بها قد نصحها . أو أن الطبيب عنها قد حدثها .
    وزغب الفرخ . واشتد عوده . وأنبتت الحمية المعجزة في جسده الريش جميلا لينا . فاضت ألوان لوحات حقول الحمية عليه . فكسته بحلتها.

    وذات عودة من البراري ، كانت العصفورة تغني كالصبية . وظفائر ريشها تحرك الريح . فيداعبها . ويراقصها . ويدفعها في كل الجهات وأعلاها . ثم يتلقفها كالبساط .فأوقعها صياد طيور الزينة في سهوها وغفلتها وفي شركه المحكم . وأمسك بها والحمية في حويصلتها . قلبها . ونفخ في ريشها هواء وهوى . فارتاعت . وارتجفت. والتاعت . وتمنعت . وقاومت بمنقارها تظن أنها تنقره وقد كانت تدغدغه . حتى يئست . فحركت ساقيها النحيلتين كسائق العجلة . لكنه أمسك القبضة على جناحيها وجسدها الغض وساقيها ليهدئ من نبضات قلبها المتسارعة. فغردت تنادي ساكن العش التائه . لكن الفتحة كانت بعيدة . فناحت . وبكت . حتى ابتلت جوانحها . وكلت . فأسلمت الجسد حتى تفلت الروح . عندئذ طوق الصياد رقبتها بماء الذهب ليفرزها . وأحكم اغلاق باب القفص الفضي عليها . وصنع لها علبة العش كاللعبة . ووفر لها الحب والماء . وملأ القفص وردا وريحانا . ومن فرط ما مشقت العصفورة ورقت أعضاوها وحسن قوامها كضامر الخيل ومن فرط السحر في عينيها وشهي الحمرة في منقارها وروعة اللين وجمال الألوان في ريشها استفرخها .ففي عينيها تتوهج الشمس وتبرق من فرط الألق . وفيهما يخفر القمر كما تستحي الصبية المتبرجة . وفي مائهما مذاق بالعين للعسل .

    وحل عيد الميلاد على شجرة العش المبارك وقد تجلت كالعروس خضراء فيحاء شهية . فاختيرت لتزيين القداس . وقطعت بعض أغصانها . ونقلت الى الكنيسة . فذهب العش بالفرخ في أحد أفراخ الفتحة الفضية لمباركة القداس .

    ومن شدة الوجع والولع وطول سهر الأم المكلومة واليقين والأمل برئ البكر الموجوع من الألم . وشفي من المرض . فنهض كمن أنهضه أحد بعد قعاد يأس ورقاد قنوط . فأسرعت الأم الى القداس لتصلي . وتروي رؤية الحمية المعجزة . وما أن انتهت من سردها الدامع حتى رفرفت أجنحة كأنها التصفيق . ومن أحد أغصان الشجرة المباركة التي تزين القداس ، ومن الذهول والفجأة طار الفرخ من العش المبارك بجناحي العصفورة الراهبة وفي بهائها غير آبه بمداه . وحط على كتفي الأم المكلومة وعلى شعرها بساقين رشيقتين . يدغدغ بريشه وجنتها الدامعة . كأنه يكفكف عبرتها . ويمسحها . لقد كان ينصت إليها بعناية وشوق . فأخذه الحنين الى العصفورة الراهبة . واختلط عليه الحلم بالعلم والوحي بالوعي . وعلا الصوت حتى اضطرب القداس . وتسمرت العيون على كتف الأم والفرخ .

    أما الراهبة المطوقة بماء الذهب ، أسيرة القفص الفضي ، فان روعها لم يهدأ . وانما انتفض جفناها . واختلجت عيناها . وارتجف قلبها كما تتخلج الأغصان في الريح . وكانت تنط . تقفز . وتحط بلا هوادة أو كلل . تجرب الفتحات كلها . تحاول التسلل منها . أو أن تنزلق من بين قضبان القفص لتعود ساكن العش التائه . وتعود اليه . لكن هيهات . كم كانت تفلت من الغياهب والمتاربس . لكن فتحات القضبان الفضية صارت تضيق عليها . فتعصرها . وتدفغ بها في كل مرة خائبة الى ساحة القفص كما ينقلب البصر خاسئا وهو حسير . ولم تكن قضبان محبسها سميكة . بل كانت في رهافة قلادة الزينة . ورغم ذلك أدمتها . وآذتها . وعددت الكدمات تحت ريشها الآسر .ولما استنفذت الحلول والجهد قرفصت في العش المعلب . ومن ثنايا فتحات القفص شدت وناحت تقول :

    أيها الراحل عني ..
    ماذا أخذت مني ؟
    لا الريح تقتلعك ،
    ولا الأمطار ،
    تغسلني ..

    عالق أنت ..
    في ضلوع الصدر .
    ياحسون القفص ..
    تقتات من غروري ،
    ومني .
    تنط ،
    تقفز وتحط .
    كالنبض ،
    فتؤلمني ..

    يا وهج الحمى ..
    ما كدت أبرأ منك ،
    حتى عدت تسكنني ..

    تدور الأقمار من بعدك
    وتتعاقب ..
    وأنا أرقبك ،
    وأراقب ..
    وعطر اللقيا
    يأسرني ..

    كطريدة الجو
    قنصك أنزلني..
    أصاب سمائي ،
    ولم يقتلني ..

    يا فاكهة الصبى ..
    مابين التين والتوت
    الطعم ،
    لازال يذهلني ..
    ما أعذبك ، ما أشهاه ..
    يا رجلا ،
    لا زلت تفتنني ..
    أشتاقك ..
    أشتاقه
    فأتلمظك واياه ..
    طعمكما
    يرهبني ،
    ثم يبهرني ..

    تحت اللسان أكتمك
    خلف الشفاه أواريك ..
    ألوك طيفك
    أمضغه
    ولا أنطقك
    أستعذب بقايا الرطب
    في النوى
    ولا أناديك ..
    تخنقني الزفرة
    عند ذكرك
    ليت بين ضلوعي
    الشبابيك ..

  • ( " أوْجِدِينِي " )

    أَوْجِدِينِي ...
    فِي الذِّهْنِ الشَّارِدِ ..
    في لَيْلَاتِ الأَمْسِ ..
    وَوَيْلَاتِ القَلْبِ الوَاجِدِ ..
    إِذَا مَا عَانَقَكِ الشَّوْقُ ،
    أَوْ عَانَدَكِ الْهَمْسُ ..
    أَوْ عَاوَدَكِ الْحَنِينْ ...

    أَوْ ، جِدِينِي ...
    حَيْثُ أَغْلَلْتِنِي ..
    وَإِيتِينِي ...
    حَيْثُ أَوْغَلْتِنِي ..
    بِالدَّمِ الْبَارِدِ ..
    فِي أَيْكَاتِ الطَّمْسِ ..
    وَمَهْدُورِ السِّنِينْ ...

    أَوْقِدِينِي ...
    فِي تِبْنِ التِّبْغِ ،
    جمرةََ كَحُمْرَةِِ ،
    كَجَذْوَةِِ وقَبَس ..
    فِي نَارِ الْعَابِدِ ..
    أُرَوِّي بِالْمَذَاقِ ،
    أُنَكِّهُ كُلَّ نَفَسِِ ..
    تَنْشُقِينْ ...
    فَلَا تُطْفِئِينِي ...

    أَوْ، قُدِّينُي ...
    نَيِّرََا وَصُوَرََا ..
    وخُطُوطََا وَنُوَّرََا ..
    كُلَّمَا طَرَّزْتِ بِالْعَدْسِ ..
    أكمامَكِ وَمُذَيَّلَ الفَسَاتِينِ ...

    أَوْصِلِينِي ...
    إِلَى شُطْآنِ الْفَيْرُوزْ ..
    حَتَّى أنْغَبَ الشَّمْسَ ..
    وَألْعَبَ بِالنَّيْرُوزْ ..
    إنِّي ظَمْآنٌ للضَّوْءِ ..
    فَالنَّهَارُ فِي دُنْيَايَ رَمْسٌ ..
    كَمَا تَعْرِفِينْ ...
    وَالْأَقْمَارُ فِي دُجَايَ نَوْءٌ ..
    وأنا الآن ،
    في الظلماء محجوز ..
    فترَفَّقي وأنتِ تقودين ...
    أو احذري من العفس ..
    على المطرَّزِ بالعدْس ..
    وأنت في أقدام الكفيف ،
    تتعثرين ...

    أَوْ ، صِلِينِي ...
    بِمَعْسُولِ اللِّسَانِ ..
    ولا ترثيني ...
    ولا تُضِيفي إلَى أَكْفَانِي ..
    مَا لاَ أُطِيقْ ...
    بل اُنْثُرِينِي ...
    فَوْقَ جَاحِظِ الْمَعَانِي ..
    حَتَّى لَا أُلْقَى قَبْلَ أَوَانِي ..
    عَلَى قَارِعَةِ الطَّرِيقْ ...

    . توفيق الشطي .
    السواسي . تونس .

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى