الخميس ٣١ آب (أغسطس) ٢٠٠٦
بقلم تيسير الناشف

علاقة متبادلة بين طبيعة نظام الحكم وحجم دور المثقف؛

تقييد دور المثقف يلحق ضررا كبيرا بالشعب والمجتمع والدولة

يكثر الكلام في هذه الأيام عن الدور الذي يمكن للمثقفين أن يقوموا به في توعية من يحتاجون إلى التوعية من أفراد المجتمع وفي النهوض السياسي والاجتماعي والاقتصادي بالمجتمع والدولة صوب تحقيق نوع التنمية المرغوب فيه.

وللظروف الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والتاريخية وللتكوين الفكري والنفسي لأفراد المجتمع أثرها في موقف المثقف ونظرته ودوره. وعلى الرغم من أن المثقف جزء من المجتمع ونتاجه بظروفه الاجتماعية المتغيرة فإن طريقة تفكيره قد تختلف إلى حد ما بحكم ثقافته عن سائر شرائح المجتمع. ويمكنه أن يؤدي دورا أقوى أثرا وأشد تميزا في المجتمع. وبالنظر إلى أنه يرجح أن يكون أد وعيا ببعض الامور من سائر شرائح المجتمع فيتعين عليه أن يؤدي دورا أكبر وأشد أثرا. ومرجع هذا الأثر هو أنه يمكنه من خلال كلمته أو قلمه أن يقوم باستعراض المشاكل ووصفها وتحليلها وأن يتوصل إلى الاستنتاج وأن يشيع فكره على نطاق أوسع وأن يكون على علم بمعاني ومتضمنات ومؤديات الاتجاهات السياسية والاجتماعية على الساحتين الداخلية والخارجية.

ومن الخطأ القول بأن بإمكان المثقف الباحث أو بأنه ينبغي له أن يعالج جميع أو معظم المشاكل التي يواجهها أفراد المجتمع. فذلك يتجاوز طاقته. ولكن له أن ينخرط في دراسة مجال أو عدد محدود من مجالات حياة المجتمع. والواقع أن البلدان العربية لا يوجد فيها ما يكفي من الهيئات العلمية التي تقوم بالأبحاث في ميادين الطبيعة والمجتمع والنفس والتاريخ وعن التفاعل التاريخي بين هذه المجالات. وفي إمكان المثقف الباحث أن يسهم في هذه الأبحاث التي ينبغي أن تنشر لتعميم الفائدة منها.

ولمدى جو الحرية الفكرية أثره في تحديد مضامين كتابات المثقفين. وفي إيجاد هذا الجو تسهم عوامل هامة منها تقاليد الإعراب بحرية عن الفكر والتسامح مع الإعراب عن هذا الفكر ودور الذين يمسكون بمقاليد السلطة الحكومية وغير الحكومية في تشجيع أو كبح الحرية الفكرية.

للذين يمسكون بمقاليد السلطة أثر في تحديد مضامين كتابات المثقفين الكتاب. الحكومات تختلف بعضها عن بعض في مدى احتمالها لحرية الإعراب عن الفكر. وبالتالي تختلف الحكومات بعضها عن بعض في مدى تحديدها لمضامين الكتابات. ومن بين الاعتبارات التي توليها الحكومات الأولوية الأولى اعتبار مواصلة توليها السلطة. وفي النظم الشمولية والاستبدادية والإملائية وفي نظم حكم الاقلية الثرية أو البيروقراطيةا وحكم الفرد يولي النظام الاعتبار الأولي لبقاء النظام السياسي الحاكم القائم، مما يسهم في لجم فم الكاتب عن الاعراب بحرية عن فكره أو يقيد إلى حد بعيد ممارسة هذه الحرية، وذلك لأن اعتبارات مواصلة تولي السلطة تختلف عن اعتبارات توخي التوصل إلى استنتاجات موضوعية إذا كان ذلك قصد الكاتب وتتعارض في بعض الحالات مع تلك الاعتبارات.

ويمكن للمثقف الباحث أن يعالج مسائل في شتى مجالات السياسة والاجتماع والثقافة والتاريخ والتراث والاقتصاد، وتختلف هذه المسائل بعضها عن بعض في مدى قوة صلتها بعوامل مواصلة ممارسة السلطة الحكومية أو في مدى انقطاعها عنها. ويتوقف مدى هذه القوة على الظروف الاجتماعية والاقتصادية والإقليمية والدولية السائدة. ونظرا إلى هذا الاختلاف فإن الحاصل أيضا أن المتولين للسلطة الحكومية يبدون قدرا أكبر من المقاومة لكتابات الكتاب الذين يعالجون مسائل لها صلة أكبر بمواصلة ممارسة السلطة ويبدون قدرا أقل من المقاومة أو لا يبدون مقاومة لكتابات تعالج مسائل ليست لهل صلة أو ليست لها صلة قوية بمواصلة ممارسة السلطة.

وفي ظل نظم الحكم الاستبدادية أو الإملائية أو الباغية أو الشمولية تمس الحاجة - ابتغاء كبح سطوة وطغيان هذه النظم وبطشها - إلى معالجة الكتاب للمسائل ذات الصلة الأقوى بمواصلة ممارسة الحكومة للسلطة. وبالتالي فإن صد المتولين للسلطة للكتاب عن معالجة هذه المسائل في كتاباتهم من شأنه أن يعني صدهم عن معالجة مسائل الممارسات الاستبدادية والباغية والشمولية وأن يعني، بالتالي، عدم الإشارة إلى تلك الممارسات وعدم نقدها وعدم الإشارة إلى نتائجها الوخيمة فيما يتعلق برفاهة الشعب ومعنوياته وقيمته وحسه بالكرامة وتأكيد ذاته وفيما يتعلق بمصير الدولة ومركزها على الساحة الدولية.

ويختلف المثقفون الكتاب بعضهم عن بعض في كيفية استجابتهم لمحاولة الدوائر الحكومية لثنيهم عن معالجة المسائل المتصلة بتولي مقاليد السلطة الحكومية وبالمحافظة عليها. فمن الكتاب من يمتثل لتوجيهات هذه الدوائر وينصاع لها، ومنهم من تتوفر لديه الإرادة على عدم الانصياع وعلى إبداء الرأي النقدي في هذه المسائل، ومنهم من يتخذ في كتاباته سلوكا يقع بين هذا الانصياع وهذه الإرادة. ويتوقف السلوك الذي يتخذه المثقف الكاتب إزاء توجيهات الدوائر الحكومية على عوامل منها مدى الاستغناء المادي للكاتب. فهذا الاستغناء، الذي قد يعتمد على مصادر دخل مختلفة، لا يحوج الكاتب إلى الاستعانة المالية بالحكومة. ومن تلك العوامل أيضا مدى الحس الوطني والقومي لدى الكاتب ومدى وعيه بأهمية المعالجة النقدية للمسائل المتصلة بالممارسات الحكومية وبأهمية دوره الإعلامي والتنويري. ومنها أيضا كيفية تنشئته، فمن شأن التنشئة على الصدق والصراحة والنزاهة والتفاني أن تجعل من الصعب ثني الكاتب عن أداء الأدوار التي يعتبرها ضرورية في حياة الشعب والمجتمع والدولة التي ينتمي إليها.

ويبدو أنه تقوم علاقة متبادلة بين طبيعة نظام الحكم وحجم الدور الذي يؤديه المثقف. يبدو أنه يؤدي دورا فكريا وإعلاميا أكبر في ظل النظم الأكثر ديمقراطية ودورا أقل في ظل النظم الاستبدادية والشمولية والإملائية. في ظل النظم الأكثر ديمقراطية للمثقف متسع أكبر لأخذ زمام المبادرة في المجال الثقافي والاعلامي ومتسع أكبر للحرية الفكرية وللإعراب عن الرأي. وفي ظل النظم الاستبدادية والشمولية لا يوجد مثل هذا المتسع. وبالتالي فإن المثقف في النظم الأكثر ديمقراطية يؤدي دورا أكبر وأشد أثرا في تحقيق التنمية الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية وفي الإسهام في وضع سياسة الدولة في هذه المجالات وفي تكوين مستقبل البلد والمجتمع وفي تحديد هوية القيم والرؤيا التي يستلهمها الشعب. والعكس هو الحاصل في ظل النظم الاستبدادية والشمولية والإملائية التي يكون للسلطة الحكومية فيها دور أكبر في تحديد دور المثقف في هذه المجالات ودور أكبر في وضع سياسة الدولة فيها.
وتنطوي هذه الحالة - حالة قيام السلطة الحكومية بتقييد دور المثقف في وضع سياسة الدولة في هذه المجالات - على إلحاق ضرر كبير بالشعب والمجتمع والدولة. إذ بقيام السلطة الحكومية بذلك - وهي طبعا محدودة بتفكيرها، شأنها شأن أي جماعة بشرية أخرى وتولي الأولوية لاعتبارات ومقتضيات مواصلة البقاء في سدة الحكم - تحجب عن نفسها وعن الشعب رؤية بدائل أخرى في حياة الشعب والمجتمع قد تكون أكثر صلاحا من البديل الذي تأخذ السلطة الحكومية به وتحجب عن نفسها وعن الشعب أيضا رؤية تحديات وتهديدات أو فرص وشيكة أو كامنة أو ممكنة للشعب والدولة. ومن شأن هذا الحجب ألا يتيح للسلطة الحكومية ولأفراد وجماعات من الشعب التصدي بالوسائل الفكرية والمالية والعملية المتاحة لهذه التحديات والتهديدات وألا يتيح للسلطة الحكومية ولأفراد وجماعات من الشعب كيفية اغتنام الفرص المبشرة بالخير التي من شأن اغتنامها أن يكون له أثر كبير في تحسين حالة الشعب ومستقبله ومصيره.

تقييد دور المثقف يلحق ضررا كبيرا بالشعب والمجتمع والدولة

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى