الأحد ٣ آذار (مارس) ٢٠١٣
بقلم محمود عبد القادر حبوش

عندما أصبحت صوفياً

سيدي جمال:

بينما كنت جالساً على مائدة الإفطار الرمضانية في الزاوية البوتشيشية في بركان – في ضواحي مدينة وجدة في أقصى شرق المغرب قرب الحدود الجزائرية – في 27 أغسطس 2009، أتى رجل طويل القامة يناهز الستين من العمر وجلس إلى جانبي. لا أذكر إن كنت قمت من الكرسي حين سلمت عليه. جرى الأمر بسرعة. أُذن للمغرب بعد قليل وبدأ جميع الجالسين على المائدة الدائرية بالأكل. كان هناك خمسة أو ستة رجال، كلهم من أتباع الزاوية من أساتذة جامعات ومحامين بالإضافة إلى رجل استرالي.

وُضع على المائدة وعائان كبيران من البورسلان الصيني بداخله كل منهما حساء.الحساء الأول حريرة، وهي شوربة خضار مغربية تقليدية؛ والآخر دشيشة، وهي شوربة من الشعير وبعض الخضار وقليل من اللحم. وكان على الطاولة أيضاً ثلاثة أنواع من الخبز؛ أرغفة من الخبز المغربي السميك، وأرغفة صغيرة االحجم مغطاة بنوع من شراب الفواكه، ربما كان خلاصة مربى برتقال، ونوع ثالث يشبه خبز القطايف غير أن حجمه أكبر بكثير وأكثر سمكاً. ووُضع فضلاً عن ذلك تمر، وحلوى تسمى الشباكية، وهي نوع من العجين المقلي والمحلى، ومربى تين كامل القطع.

بدأ الجميع بالأكل. ويفعلون ذلك يتناول الرغيف وقطع جزء منه ثم يقوم الواحد منهم بمناولته لمن يجلس إلى جانبه. قام سيدي جمال - والذي لم أكن أعرف من يكن بعد، لكنني لاحظت من تعامل الآخرين معه أنه ذو أهمية - بصب الحساء لي وبمناولتي الخبز المغطى بالشراب الحلو.

وبينما كنا نأكل أخذ الرجل يتكلم عن الصوفية والتصوف. وكان جل حديثه عن أن التصوف هو أصل الإسلام، وأن الرسول وصحابته كانوا جميعاً من المتصوفين. وجعل يقرأ آيات من القرآن تحث على الذكر. فجأة أصبح فهمي للتصوف أوضح، عرفت كيف يفكر الصوفيون حين يتحدثون عن الذكر وما هي مرجعيتهم القرآنية لذلك.

لاحظت كيف ينصت الجميع بعناية تامة إلى كل ما يقوله هذا الشيخ ذو اللحية البيضاء والجلابية السمراء. كان يتكم بثقة وسكون في الوقت ذاته، وهي السمة التي يتشح بها بعض رجال الدين. في لحظة ما، ملت إلى الرجل الاسترالي الذي كان قد اعتنق الإسلام قبل 16 سنة وسألته إن كان الشيخ ابن سيدي حمزة، شيخ الطريقة البوتشيشية، فَردَّ بالإيجاب.

بعد انتهائنا من الأكل قلت للشيخ - والذي كنت أحادثه بنوع من الأريحية وعدم التكلف، ربما لأنني لم أخضع لقانون الهالة التي تحيط بالمشاهير لسبب بسيط وهو أنني لا أعرفه - أنني أتمنى أن لو زرت الزاوية في سياق مختلف في مرة قادمة؛ كمريد للطريقة وليس كصحفي. عندها قال الشيخ كلمة سمعتها أو فهمتها على أنها "تتصفح"، فجال في خاطري أنه يحاول أن يعطيني بعض المنشورات حول الطريقة لأتصفحها، ولكنني في الوقت ذاته لاحظت أنه يمد يده إلي، فمددت يدي إليه بعد ثانية أو اثنتين من التردد ليس من قبيل الرفض بل لعدم إدراكي ما يحدث.

وإذ قمت بمصافحة يده، بدأ الرجل يقرأ آيٍ من القرآن بصوت خفيض، يمكنني سماعه على شكل تمتمة. وبعد انتهائه قام الرجال المحيطون بنا بتلاوة نوع من الدعاء بصوت عال، حاولت أن أردده معهم ولكني لم أستطع لأنني لم أكن أحفظ أي من تلك الأدعية. وبعد انتهائهم من الدعاء الذي دام 10 أو 20 ثانية قاموا بمصافحتي والمباركة لي، وعندها فقط أدركت أنني أصبحت عضواً في الطريقة البوتشيشية.

حدث الأمر بسرعة كبيرة بحيث لم أدرك ماذا كان يحدث إلا بعد وقوعه. وبعد ذلك تغيرت معاملة الجميع من حولي، وأصبحوا فجأة ينادونني بسيدي، وبعضهم يقبل يدي حين أسلم عليه كما يفعل الفقراء أو المريدون مع بعضهم. سألني بعضهم إن كنت أريد الوضوء والصلاة. توضأت ثم قام الرجل الاسترالي بإعطائي جلابية. كان معه جلابيتين، واحدة صفراء والأخرى زرقاء. ارتديت الزرقاء فكانت كبيرة فأعطاني الصفراء والتي كان من الواضح أنها لم تغسل لمدة طويلة حيث فاحت منها رائحة العرق القديم.

بعد صلاة العشاء، أصر الرجل الاسترالي أن يشتري لي جلابية جديدة، وبالفعل ذهبنا إلى المعرض المؤقت التابع للزاوية والذي وضع داخل خيمة كبيرة. اشترى لي جلابية بقيمة 200 درهم مغربي وبنطال داخلي أبيض بقيمة 30 درهم.

نظرات الفرحة كانت بادية على وجوه الجميع بسبب انضمام فقير جديد إلى الطريقة. بعد مصافحتي لسيدي جمال، قام أحد المريدين بإعطائي مسبحة مئوية. مسكها الشيخ وقام، بينما كان يمررها عبر أصابعه، بتلاوة كلام لم أسمعه، ربما مزيج من القرآن والدعاء. المقصد أنه قام بمباركتها. أصر الجميع أنني محظوظ لأنني قمت بمصافحة سيدي جمال لأنه من النادر أن يقوم بذلك.

سيدي جمال هو الرجل الثاني في الطريقة البوتشيشية والخليفة المتوقع لأبيه الذي يقال أنه في أواخر الثمانينيات من عمره، ويقيم حالياً في قرية يقال لها نعمة، تبعد ما بين 70 إلى 80 كم من بركان (لا أعرف بأي اتجاه، لكن غالباً إلى جنوب) نصحه الأطباء بالذهاب إلى هناك بسبب قلة الرطوبة.

وأثناء ذهابنا لصلاة العشاء في مسجد الزاوية، المجاور لمسكن سيدي جمال حيث تناولنا الطعام، قلت للرجل الاسترالي أن الأمر حدث بسرعة بحيث لم أدرك ماذا كان يجري، فقال باستغراب ونوع من خيبة الأمل: "ألم ترد فعل ذلك؟" قلت له بنوع من الجبن: "بلى، أردت". رغم أنني في الواقع لم أدر كيف حدث الأمر. ولكن يجب أن أعترف بأنني من دعاه إلى ذلك بإبدائي الرغبة في المجيء إلى الزاوية كمريد. وهو أمر فيه جانب من الصحة لأنني أردت بشكل شخصي أن أعرف المزيد عن التجربة الصوفية، خاصة بعد زيادة قرائتي لكل من ابن عربي والغزالي.

الزاوية البوتشيشية في بركان
تبعد الزاوية عن بلدة بركان حوالي ربع ساعة بالسيارة. وهي تقع على رأس تلة صغيرة، مواجهة بذلك بساتين كثيرة من البرتقال، وهو المنتج الزراعي الأساسي لهذه القرية. يمكن رؤية الحجر القرميدي اللون للزاوية من بعد 2كم تقريباً، لدى دخول الشارع المؤدي لها.
هي أشبه بدير من حيث وجود أماكن للسكن والصلاة وأماكن أخرى للراحة والعبادة أيضاً. وثمة مطبخ موجود في قبو إلى جانب المسجد الرئيسي للزاوية. البعض يعيش في الزاوية على الدوام مثل سيدي جمال، والبعض يأتون في مواسم معينة أو أثناء النهار فقط. فالصوفيون ليسوا تماماً زاهدين عن الحياة مثل الرهبان المسحيين أو البوذيين.

الزاوية هي مؤسسة كاملة يتزعمها الشيخ ويدير أنشطتها المختلفة مجموعة من المسئولين. فهناك من يتابع أمور المريدين الجدد، وهناك من يقفون بالمرصاد لمراقبة الغرباء لا سيما الصحفيين. هذا الدور الرقابي، أظهر الحرص العميق للمشرفين على الزاوية أن لا يظهر هذا المكان كمرتع للبدع كما يصوره السلفيون. بطبيعة الحال، من يقوم بهذا الدور الرقابي هم أناس مسئولون عن أنشطة تعليمية وتنظيمية أخرى، لكن وجودي كصحفي غريب وضعهم في موقف حرج، ولم يعرفوا كيف يتصرفون حياله.

سيدي خالد
سبب لقائي بسيدي خالد هو رغبتي في التعرف على شخص مريد لأحد الطرق الصوفية منذ زمن، والهدف من ذلك الكتابة عن تجربته وكيف أثرت على حياته العملية والروحية. كان من الواضح منذ البداية أن خالد رجل عملي، فهو يشغل عدة عدة مناصب حكومية وأكاديمية. لا بأس من ذلك بالطبع، فهدفي في النهاية هو معرفة كيف يمكن لشخص أن يكون صوفياً دون أن يتخلى عن حياته المهنية.

لكن الغريب في أمر خالد، وهذا اتضح تدريجياً خلال اليومين الذين مكثتهما معه، أن الرجل بيروقراطي ديني أكثر من متصوف روحي. والسبب في ذلك هو أنه كان يحاول دائماً الحفاظ على صورة معينة للزاوية، وبالتالي فإن تصوير المطبخ القذر مثلاً استحال إلى كارثة.

والأكثر من ذلك هو أن سيدي خالد من النادر أن يبتسم، على عكس بقية المريدين. من الممكن أن يكون الإنسان عابساً بالطبيعة، يمكن الجدل حول ذلك. لكن مشكلة خالد أن وجهه كان خالياً من أي نوع من السكينة التي من المفترض أن ترسيها وتطبعها التجربة الروحية في وجه المريدين.

سي أحمد
كان اللقاء الأول مع سي أحمد في أواخر شهر أغسطس بعد الظهر في دار دباغة سيدي موسى في قلب مدينة فاس القديمة. كان الرجل ذو اللحية البيضاء الخفيفة يقف في حوض مليء بالجلد وأمامه بركة قذرة ملئى بمخلفات جلد الخراف وتفوح منها رائحة مقيتة تشبه رائحة الحظائر غير أن روائح أخرى من الصعب تمييزها كانت تملأ المكان أيضاً.

كان يقوم بعمل واحد وهو فتح الجاعد المغلق وإزالة بعض الأجزاء الزائدة ورميها في البركة التي أمامه. تحدثت معه على عجلة اثناء عمله ولم أحصل على الكثير لصعوبة فهم لهجته المغربية وعدم فهمه لهجتي الفلسطينية أو الفصحى. لكن بعد قضاء نصف يوم تقريباً معه وتناول وجبة الإفطار في بيته أصبح من السهل لكلينا التواصل.

(كتبت هذا الجزء الأخير في 9 سبتمبر 2010)

سي أحمد هو صوفي حقيقي بالرغم من عدم ممارسته للتصوف. هو صوفي عارف، ويكمن ذلك في رضاه العميق بنصيبه رغم وفاة عدة أبناء له، أحدهم كان في العشرين من عمره.

يمتلئ وجه سي أحمد بسكينة لم أجدها في متمرسي التصوف، هي سكينة البسطاء الذين يعيشون حياتهم على نسق واحد. يذهبون إلى العمل، يصلون، يتبضعون لوجبة اليوم، يقضون وقتاً مع الأسرة وآخر مع الأصدقاء في أحد المقاهي المحلية. يتابعون الأخبار ويتأثرون لمآسي الإنسانية.

سي أحمد هو الإنسان كما ينبغي أن يكون. ينشغل بهمومه وهموم الآخرين دون مبالغة، دون يأس، دون قلق. هو أشبه بالرجل العجوز صاحب العبّارة في قصة "سيدارثا" للكاتب "هيرمان هيسه". فهو يستمد حكمته، ربما، من المدبغة، من الجلود والمراحل التي تمر بها؛ من جزء لا يتجزأ من كائن حي إلى حقيبة أو حذاء، كما كان صاحب العبّارة يستلهم الحكمة من النهر الذي يجري أمامه بلا توقف. سي أحمد هو كل ما لا يتمتع به سيدي خالد. هو السكينة والرضا والطمأنينة. هو الناسك دون أن يدري بذلك، هو العارف برسم وجهه لا بلقب سعى لأجله.

بعد لقاءاتي بالصوفيين وحديثي معهم حول تجاربهم الروحانية، والحال الذي يمرون به إثر الذكر المطول وبعد زيارتي لعدة أديرة بوذية في أعالى جبال التبت، اتضح لي أن التجربة الصوفية، والتجربة الدينية ببعدها الروحي وما تنتج عنه من تجليات وانكشافات، هي تجربة اصطناعية لا تقل في تكلفها عن تجربة الشامانات في الحضارات البدائية والذين يتعاطون المواد المخدرة والمهلوسة لأجل الوصول إلى تجارب روحانية معينة.

يبدو لي الآن أن سعادة سي أحمد، التي ربما لا يشعر بها، تفوق سعادة الكثير ممن خاضوا غمار التجربة الصوفية أو غيرها من التجارب المثيلة.

من الواضح بالطبع أن التجربة الصوفية، عبر ممارسة الذكر، تهدف إلى الوصول إلى أبعاد ذات طبيعة مختلفة من المعرفة وليس مجرد البحث عن المتعة الوقتية أو الدنيوية، لكن المشكل في هذا الأمر أن هذه الحالة العقلية التي يبتغون الوصول إليها هي ذات الحالة التي يصبوا إليها الشامانات أو حتى راقصي القبائل البدائية.

وبالتالي أصبحت بعض ممارسات المتصوفين ليس طريقاً للسعادة الدنيوية أو الأخروية، بل تجربة معرفية آنية صرفة. تجربة معرفية بديلة يمكن الوصول إليها عن طريق تغير حالة الوعي إلى حالة بديلة عبر وسائل مختلفة ليس من الضروري أن تكون مرتبطة بإيمان ديني أو عقيدة. لعل الكثير مما يعتقدون أنها كشوفات ربانية هي نشاطات "عقلوعصبية" حُفزت عبر إخضاع الشخص لمؤثرات حسية قوية، في هذه الحالة جلسات الذكر المطولة.

لكن ثمة احتمالات قد تكون أكثر عمقاً من ذلك، وهي كما افترض أحد العلماء المتدينين أن الله إذا أراد التواصل معه فإنه سيفعل ذلك حتماً عبر جهازه العصبي ولن يكون ذلك في عالم برزخي.
وبصرف النظر عن هذا التنظير الروحاني، فإننا إذا كنا نبحث عن منهج للسعادة في حياتنا، لربما آنستنا حياة سي أحمد البسيطة ببصيص من الحكمة العادية. الحكمة البسيطة الممتنعة، التي نراها مرتسمة على وجوه بعض الناس دون أن يدرون أنها تسكن جباههم وعيونهم.

كُتب الجزء الأكبر من هذا المقال في الطريق في القطار من فاس إلى الدار البيضاء- قطار يوم الثلاثاء، الموافق 1 أيلول 2009


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى