الاثنين ٢ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠١٧
رُؤى ثقافيّة «276»
بقلم عبد الله بن أحمد الفيفي

عن أيِّ شاعرٍ نتحدث؟

حين نَصِف إنسانًا بـ«شاعر»، فلسنا نعني ذلك الشاعر العدميَّ، الذي يقف العالم عند عَذَبة لسانه، وهوى ذاته، فيَنْحَر أو ينتحر، على طريقة أولئك الشعراء الذين رصدتْهم الشاعرة (جُمانة حدَّاد)، في كتابها القيِّم الذي صدر عن (دار النهار، والدار العربية للعلوم، بيروت، 2007)، تحت عنوان «سيجيء الموت وستكون له عيناك: مئة وخمسون شاعرًا انتحروا في القرن العشرين»! كلَّا، بل هو ذلك الإنسان الإنسان، الذي يشعر بأنه ضمير أمَّته، الناطق الشِّعري باسمها، الرائد الذي لا يَكْذِب أهله. أمَّا الشاعر الذي لا يستشعر إلَّا بحوافز الجنس والجوع والحاجة، فهو ألدُّ أعداء نفسه وأُمَّته، مكانه الطبيعي السجن أو مصحَّة نفسيَّة، متخصِّصة في علاج ذلك النوع من الشعراء، الذين هم في كلِّ وادٍ يهيمون، يقولون ما لا يفعلون!

إنه الشاعر الذي لا يهدِم بشِعره لغة أُمَّته، ولا يهجِّنها، ولا يدجِّنها، ولا يجعلها مطيَّة نزواته الصبيانيَّة باسم التجديد أو التجديف، وإنما يمنحها نسغ الحياة، وترياق البقاء، ورحيق التجدُّد.
الشاعر الذي يبني، معتزًّا برصيد قومه، ليضيف إليه، لا يهدِم بنيانًا ورثه بمحض مراهقات فارغة، ثمَّ يدَّعي أن فِعلته النكراء أدبٌ جديدٌ، لم يستطعه الأوائل!

الشاعر الذي ينطلِق من فِقهٍ بلغته، لا بجهل بها، وبَلادة في تذوُّقها، وبعِلْمٍ بتاريخ شِعرها، وتقديرٍ نقديٍّ لمُنجَز ذلك التاريخ، لا بحقدٍ عليه، وخروجٍ عنه، وسعيٍ إلى تفجيره من الجذور.
الشاعر العالِم، المفكِّر، الفيلسوف، المسؤول ضميريًّا عن وطنه وإنسانيَّته، الذي أَهمُّ بحور وزنه بحر العقل والروح، فلا يطغى عقله على عاطفته ولا عاطفته على عقله. فهو من وزن (أبي الطيِّب المتنبِّي)، مثلًا- في بعض أطواره، لا كلِّها- أو (ويليم شكسبير)، و(أبي العلاء المعرِّي)، و(فريد الدِّين العطَّار)- صاحب «منطق الطير»، ذلك الشاعر الطبيب، والعاشق المتصوِّف، والمتفلسف (لا الفيلسوف)- لا من وزن صعلوكٍ ساذج، يتَّبعه الغاوون!

على أن من اصطُلِح على تسميتهم بالشعراء الصعاليك في تاريخنا العربي لا أدري- كما يقول كاتب المقال أ.د/ عبدالله بن أحمد الفَـيْـفي- كيف صحَّت تسميتهم بذلك، إلَّا أن تكون تسميةً عنصريَّةً طبقيَّة. وأنَّى يكون (تأبَّط شَرًّا- ثابت بن جابر) صعلوكًا، بما نفهمه من كلمة «صعلوك» من معنى، وهو القائل:

إِذا المَرءُ لَم يَحتَلْ وقَد جَدَّ جِدُّهُ
أَضاعَ وقاسَى أَمرَهُ وَهْوَ مُدبِرُ
ولكِنْ أَخو الحَزمِ الذي لَيسَ نازِلًا
بِهِ الخَطْبُ إِلَّا وَهْوَ للقَصدِ مُبصِرُ
فَذاكَ قَريعُ الدَّهرِ ما عاشَ حُوَّلٌ
إِذا سُدَّ مِنهُ مَنْخِرٌ جاشَ مَنْخِرُ
أ فـ«تأبَّط شرًّا» هذا، أم «تأبط شِعرًا»؟!
أ هذا صعلوك؟ أم هو حكيم، وشاعرٌ مبدع؟!

وكذا القول في (الشَّنفرَى)، وسِواهما من الشعراء الموصوفين بـ«الصعاليك». ما يعني أن الشاعر، من حيث هو شاعر، الأصل فيه أنه ذِهنٌ وقَّاد، ولغةٌ صَناع، ورؤية مستشرفة، من أيِّ طبقةٍ كان وبأيِّ لغةٍ جاء.

ذلك هو الشاعر، الذي لا يكافِح لإماتة الشِّعر، وإزهاق روحه، وتحويله إلى نثرٍ بارد، وترويج هذه الفِرية لتجريد الروح العربيَّة من إحساسها، وذوقها، وشاعريَّتها، وتأثُّرها وتأثيرها.

الشاعر غير المخصيِّ، ولا مخصيّ القصيدة. وليست الفحولة بفحولة الذكورة، بل فحولة اللغة والانتماء والوعي!

الشاعر الذي ليس ممَّن إذا ابتُلي بعاهة في لسانه وذائقته، إذا هو- بدل أن يَجبر كسره ويُقوِّم معوجَّه ويُثقِّف نفسه- يُنظِّر لعِيِّه وعَتَهِه عبر كل الوسائط والمنابر، كي يسلب الشِّعر وظيفته اللغويَّة والنفسيَّة والقوميَّة والإنسانيَّة، ويجرِّد أبناء العربيَّة من سلاح الكلمة الحُرَّة.

الشاعر الذي يؤمن بأن الكلمة، شِعريَّة أو غير شِعريَّة، مسؤوليَّة؛ فلا يتَّخذ الإبهام مطيَّةً للتخلِّي عن مسؤليَّته، أو رطانة، وكهانة، وشعوذة، يواري بها سوأته اللغويَّة، مع سوآته الفكريَّة. مؤمنًا بأنَّ ثَمَّة فرقًا جوهريًّا بين غموض الشِّعر وحالات «التحشيش» والعمالة! وهل تنقصنا الشعوذات والعمالات وخطاباتهما المستشرية، مباشرة أو غير مباشرة؟!

الشاعر الذي لا تنطلي عليه دعوةٌ، قد تبدو قَولة حقٍّ يراد بها باطل، تنادي إلى التجافي عن لغة العرب القديمة، والأخذ بلغة الصحافة، بركاكتها، وبسوقيَّات بعض اللهجات الحديثة. في غفلةٍ أو تغافلٍ عن أن لهجات الجزيرة العربيَّة، بصفة خاصَّة، ما برحت تمتح من معين العربيَّة العريق. فإذا استعمل الشاعر هذا المستوى اللغوي الأصيل، الذي ما زال جُلُّه لغة الدارجة اليوميَّة، في القبائل العربيَّة العرباء، نبا عنه الذوق لدَى أدعياء النقد، منادين بامتطاء لغةٍ كتلك التي تشرَّبوها عن شاعرٍ يأخذ بالعربيَّة المتعرِّبة، التي راجت عبر العصور الإسلاميَّة، والتي ساد فيها أبناءُ الفُرس والرُّوم، ومَن لَفَّ لفَّهم، الثقافةَ العربيَّةَ ولسانَها! مؤسِّسين بدعوتهم تلك لإفقار المعجم الشِّعري العربي الحديث، من جهة، وتنميطه وَفق صبغةٍ إعلاميَّةٍ واحدة، من جهةٍ أخرى، فضلًا عن اجتلاب العربيَّة الصريحة إلى دركات من السماجة والركاكة والضَّحالة، لتهبط عن رصيدها، فصاحةً وبلاغةً وجماليَّات تعبير، فتزيد الهُوَّةُ هُوَّةً بين لغة العَرَب العَرِبَة وما بقي منها في اللهجات المعاصرة.

عن أيِّ شاعرٍ نتحدث اليوم في ضوضاء الديوك؟!


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى