الجمعة ١٠ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠١٠
بقلم محمد خليل

عن «ثلاثية الموت» للكاتب زكي درويش

قصة تنبثق من حصيلة ثقافية واجتماعية ونفسية تلاقت معًا كما تعكس قلقًا وجوديًا حقيقيًا «العشاء الأخير» نموذجًا

(زكي درويش: ثلاثة أيام، دار الهدى للطباعة والنشر كريم، ص5-39، كفرقرع، د. ت.) .

مرة أخرى، يطل علينا الكاتب زكي درويش بمجموعة قصصية جديدة تحمل العنوان «ثلاثة أيام» هي أقرب ما تكون إلى روح العصر، لتنضاف بذلك إلى ميزان نتاجه الأدبي الحافل، وهو بذلك العطاء الإبداعي المتميز إنما يواصل إثراء مسيرة حركتنا الأدبية المحلية شكلاً ومضمونًا. وكما عودنا دائمًا بحضوره المتألق والراسخ، فإن نتاجه الأدبي سوف يظل مثار اهتمام الدارسين وإعجاب الباحثين. يقول المرحوم إحسان عباس في مداخلة أدبية له في إحدى الندوات "قرأت أوراق قصيدة الغزالي لصديقي أدونيس إحدى عشرة مرة وتأثرت بها كثيرًا وأردت أن أكتب عنها، وفي كل مرة يفلت طرف الخيط مني ولا أستطيع أن أكتب شيئًا. هذه تجربتي. لم تكن عوائق تعوقني، إلا أنني لم أستطع أن أعرف من أين أبدأ، وأن المشكلة لم تتضح لي ولم أستطع أن أقول فيها شيئًا رغم أنها قصيدة أثّرت في نفسي تأثيرًا عميقًا" [1]. إلى هنا ما يقوله إحسان عباس. وهو من هو في مثل حكمه ومكانته وخبرته وتجربته! الأمر الذي يعني من بين ما يعنيه: أن الكتابة في النقد الأدبي، وهو فن جميل وساحر، لا تنقاد لصاحبها، كائنًا من كان بسهولة، ولا تكون دائمًا رهن الإشارة أو قيد الطلب، لأنها تحتاج إلى جهد شاق، وهي نتاج تعب ووصب، ومجاهدة نفس ومعاناة.

لقد واجهت حرارة التجربة ذاتها بعد أن فرغت من قراءة قصة «ثلاثية الموت» بأجزائها الثلاثة للكاتب زكي درويش، لاسيما قصة «العشاء الأخير» منها، التي استوقفتني بشكل خاص بينما كنت أفكر في الكتابة عنها، لا لسبب إلا لأن كاتبها، في منظوري الخاص، هو كاتب «متعب»، على أنه في الوقت نفسه هو كاتب مبدع، ثم استدركت في ذات نفسي قائلاً: وهل يكون الكاتب مبدعًا إلا إذا كان «متعبًا»؟!

في مجموعته الأخيرة الموسومة «ثلاثة أيام»، يطلعنا الكاتب على قصته «ثلاثية الموت» ذات الحلقات الثلاث أو قل الأجزاء الثلاثة، وهي عبارة عن ثلاث قصص، كل واحدة فيها مستقلة بذاتها، لكن عقدًا واحدًا يجمعها ويؤلف بينها كما سوف نرى لاحقًا: الأولى قصة «العشاء الأخير» (ص5-12)، والثانية قصة «زهور بيضاء بلون الثلج» (ص13 -22)، والأخيرة قصة «ثلاثة أيام» (ص23-39).

يوحي العنوان «ثلاثية الموت» إلى غير معنى، كما يشي برغبة الكاتب في جعل تلك القصة أقرب ما تكون إلى ثلاثية الأجزاء أو ثلاثية الحلقات، في ما يشبه، إلى حد كبير، الروايات المؤلفة من ثلاثة أجزاء لدى بعض الكتّاب [2]. ويمكن للمرء أن يتفهم إلى أي مدى يمكن أن يتناسب العنوان «ثلاثية الموت» والحلقات الثلاث تلك، إذ لربما بجامع غير قاسم مشترك واحد يجمع بينها، مثال ذلك: وحدة الموضوع والفكرة والشخصيات والأجواء الخريفية وأحيانًا السوداوية التي تظلل القصص الثلاث، والسياق والأسلوب وما إلى ذلك، والأهم من ذلك كله أن ثلاثتها تعرض لإشكالية واحدة هي الموت. فالموت فيها يشغل حيزًا كبيرًا من مساحات تلك المجموعة. من هنا، قد تكون جاءت التسمية «ثلاثية الموت» اسمًا على مسمى. وبالطبع، من نافلة القول التأكيد على أن تلك القواسم المشتركة بينها حيوية وضرورية، لكل محاولة لمقاربة فهم النص وتذوقه وإدراك أبعاده ودلالاته.

أكثر ما يطغى على تلك الأجزاء الثلاثة في «ثلاثية الموت»: الحضور الكلي لذات الكاتب أو ما يطلق عليه:المشرف الكلي. أي أنه يمكن تصنيفه في خانة الكاتب العارف بكل شيء فيها، حتى أدق التفاصيل لا تفوته، في محاولته الحثيثة والمستمرة تجميع ولملمة شعث النفس العصرية المتشظية. ومما يلفت النظر ويستثير الاهتمام حقًا، أن الكاتب يبدو شفافًا بقدر معتدل، في بوحه وكشفه وهو مما يحسب له لا عليه. إنه يقودك إلى حيث هو يريد لا أنت، ويأخذ بمجامع القلب والذهن والروح معًا، وأنت تتابع ما يسرده باهتمام متزايد، إذ إن كل جملة لديه بل كل كلمة تحتاج إلى تفكير وتأمل وترو. إنه يخاطب العقل، وهذا يعني أن الكاتب يحترم القارئ ويحترم عقله بالدرجة الأولى، فهو يجعله يفكر ويتأمل ويتمتع لا أن يقرأ لمجرد القراءة فحسب، ناهيك بأنه يضعه في قلب الحدث لا مشاركته في صنعه. باختصار إنه يريد أن يضعه في الصورة.

وتعد تلك القصص ثمرة تجربة وجهد حياتي متواصل، يمكن أن تنطبق على الكاتب نفسه وعلى كثيرين سواه إلى حد كبير، في بعض جوانب تلك الكتابة التي تعد، أحيانًا، روح الكاتب وخلاصة ما اختزله من تجربته الحياتية. وكأني بالكاتب في أسلوبه مشاركة القارئ، مثله في ذلك مثل عميد الأدب العربي في رائعته «الأيام»، حين يجعل القارئ يعيش الحدث لا بل شريكًا فعليًا وحقيقيًا وإن لم يكن في إنتاجه أو صنعه ففي مشاركته الفكرية أو العاطفية في أقل تقدير، وهو ما يؤكد على ضرورة اعتبار فعل القراءة فعلاً منتجًا لا مستهلكًا، في ضوء ما طرأ من تحولات على وظيفة الأدب ووظيفة القراءة الأدبية. من هنا، يأتي التفرد والأصالة لدى كاتبنا، ليس لأنه يسرد لأجل السرد بل لأنه ينقل القارئ إلى أجواء المشاركة الحقيقية والفاعلة، ليحقق التفاعل والتجاوب معه. إنه يكتب، وهو مدرك ذلك جيدًا، لا لأجل أن يقرأ القارئ فقط كما سبق أن أشرنا، إنما لأجل أن يفكر ويتأمل وينظر إلى الأفق البعيد، وبالتالي لكي يتمتع. وهو ما يجعل القارئ يندمج في النص ومع النص، وفي ذلك المعنى يقول توفيق الحكيم "إن واجب الكاتب يحتم عليه أن يحدث أثرًا سامي الهدف في الناس: هو أن يجعلهم يفكرون تفكيرًا حرًا، أن يدفعهم إلى تكوين رأي مستقل وحكم ذاتي" [3].

2

يبدي الكاتب تمكنًا بارزًا في أسلوب السرد، وقدرة على تعميق رؤيته لقضايا العصر المتشعبة، والتي تثقل كاهل الإنسان، وتقض مضجعه، وتشتت تفكيره، وتبدد جهده، على مدار الساعة تقريبًا، كما ينعكس ذلك جليًا على «ثلاثية الموت» بأجزائها الثلاثة. وقد كان من باب أولى لو تم تمكين الشخصيات من أن تعيش الحدث وتؤديه على سجيتها بنفسها. لكن الذي حدث، كما يبدو، أن فكرة القصة قد استهوت الكاتب فسيطرت على ذهنه، ومن ثَم راح يستغرق في السرد مما أدى إلى إعاقة تطور الحدث ومنع تناميه بالقدر الكافي. من هنا، أمكن تسمية هذا النوع من القصة قصة الفكرة. مع ذلك، لا بد من الإشارة إلى أن الكاتب قد بقي محافظًا على مزايا النضج والعرض، والصدق في التوصيل، جنبًا إلى جنب التركيز والتكثيف، وتخيره لجمالية الألفاظ ودلالاتها، ومتعمدًا، في الوقت نفسه، أن يبقي على إنسان العصر وهمومه في المركز.

أما بالنسبة للبطل أو الشخصية الرئيسية في القصة، فإن الكاتب يحركها ويوجهها كيفما شاء ومتى شاء، وهو ما يمكن أن يدفع القارئ إلى الاعتقاد بأن في ذلك التوجيه ما قد يسيء إلى البطل، كأن يظهر مدى عجزه في سعيه لتغيير واقعه وتحسينه، أو أن يحد من شخصيته ويعيق من حركته في أقل تقدير.

وشيء آخر، أنه لو جاز للمرء أن يتجرأ على الكاتب ويقتحم مناطق نفوذه، ويتدخل في حقه في تحديد هُوية النص، لاقترح عليه أن يكون العنوان «ثلاثية الموت والحياة» بديلاً للعنوان «ثلاثية الموت» المثبت في متن القصة، فتلك العبارة يمكن أن تشكل لوحة فنية أكثر إضاءة. ذلك بأن الموت والحياة وجهان مقترنان لعملة واحدة يصعب الفصل بينهما. وهكذا، ففي منظور ما قد يبدو العنوان المقترح أفضل تعبيرًا وأصدق تصويرًا، لاسيما إذا ما رغب الكاتب وحرص على الإبقاء ولو على كوة واحدة فقط، يمكن أن يجد القارئ فيها وبها مصدرًا للإشعاع والتشجيع والنهوض ودافعًا قويًا لقبول التحدي وتحقيق الإرادة في النفس البشرية، بروح عامرة بالتفاؤل والأمل. وفي الوقت نفسه، تتيح لشخوص القصص أن يطلوا، من خلالها، على الحياة من جديد، وينهضوا لأجل مواصلة مسيرة الصمود والصعود في مدارج الحياة، في مختلف تجلياتها وتبعاتها المتزايدة. مع ذلك، فقد تكون تسمية الأبناء والبنات حقًا أساسيًا غير قابل للمناقشة أو الاعتراض، للآباء والأمهات وحدهم.

ولا بد من التأكيد على أهمية الالتفات إلى سياق تلك القصص لاحتمالات الدلالة. فالسياق في كل عمل إبداعي له أهميته الخاصة، على الرغم من أن الخيال يظل السبيل الأفضل لإعادة وصف الواقع وتصويره أو صياغته من جديد، كما يمكن أو يجب أن يكون لا مجرد محاكاته، كما عبّر عن ذلك أرسطو. فالرسالة الأدبية للقصة بشكل عام، ترتبط ارتباطًا عضويًا بالسياق، وبما أن السياق الذي يحضنها أو يظللها هو الأسبق إلى الوجود فيكون إذًا هو الأصل. لذا فإن للسياق أهمية من الصعب تجاهلها في عملية تفكيك النص أو تشريحه، بغية مقاربة الوصول إلى ما أراد الكاتب قوله من رسالة، وقد تنبّه على تلك الحقيقة ابن قيم الجوزية الذي يقول "السياق يرشد إلى تبيين المجمل، وتعيبين المحتمل، والقطع بعدم احتمال غير المراد، وتخصيص العام، وتقييد المطلق، وتنوع الدلالة، وهذا من أعظم القرائن الدالة على مراد المتكلِّم، فمن أهمله غلط في نظره وغالط في مناظرته" [4].

يركز الكاتب اهتمامه في «ثلاثية الموت» على الإنسان بشكل عام، وذلك من خلال ما يعرضه من نماذج خاصة بالإنسان العصري على وجه التحديد، وفي أيامنا هذه بالذات، فهو يلامس حياة تلك النماذج الإنسانية العصرية التي تبدو مثقلة بمشاعر القلق وهواجس الخوف من أوجه متعددة، كما يرصدها في مراحل ومواقف عينية محددة من مظاهر حياتها اليومية وهمومها وأعبائها المختلفة. مثال ذلك قوله حال بلوغه سن الثمانين "إلهي لماذا تخليت عني؟!" (ص25) في تناص واضح مع صرخة المسيح "إيلي إيلي لم شبقتني أي إلهي إلهي لماذا تركتني" (متى 27:46). كذلك، نراه يتابعها ويقوم بتصويرها في لوحات فنية معبرة، موظفًا في أسلوبه آلية التبئير التي تضع إشكالية ما كالإنسان العصري مثلاً في المركز، نزولاً عند رغبة جلالة الحداثة في بعض تجلياتها.

من جهة أخرى، ثمة إشارة لافتة ألا وهي أن معظم اللوحات الفنية التي يترجم لها الكاتب، في تلك الثلاثية، إنما تعرض للمجتمع الشرقي والعربي منه بخاصة، سواء من خلال تحديد هوية الأشخاص في القصص أو من خلال هوية الأطعمة (الكبة، الشلباطة، المغربية) التي تجهز وتحضر وتقدم كالمعتاد، في الحياة اليومية التي يمر بها الكاتب أو تمر به. وأيضًا، من خلال الصراعات التي تنتابه والإشكاليات التي تواجهه من حين لآخر، في غياب أي نوع من الاستقرار أو الهدوء النفسي. وفي ذلك وحده ما يشي بأن الأوان قد حان لكي يلتفت إنسان هذا العصر إلى راحته وسروره وهنائه، لا إلى همومه وبؤسه وشقائه فحسب!

من غير المستبعد أن تعكس «ثلاثية الموت»، في بعض جوانبها، وبالذات لجهة أبعادها الفلسفية والفكرية، تطورات ذاتية مرحلية هي: مرحلة النضوج الفكري والتأمل الفلسفي في حياة الكاتب نفسه. فقد تحركه معاناة شخصية خاصة وقد تكون إنسانية عامة. ولنتذكر أن الأدب، أحيانًا، يعد مرآة صادقة تعكس حياة الأديب في بعض محطاتها الزمنية التي يمر بها.

تمتاز القصص في «ثلاثية الموت» بواقعيتها مع ما يوافقها من الأسلوب البسيط وأكاد أقول الواضح، الأمر الذي يقربها من القارئ ويجعلها مقنعة أكثر فأكثر. إضافة إلى ذلك، بشفرتها الخاصة، إنها اللغة التي تبدو محتفى بها لذاتها، من جهة السهولة والبساطة والفهم، مع ما يمكن أن يجعل القارئ يميل إلى الاعتقاد بأنها قصص من لون السهل الممتنع. يقول هوفمان "إن عنصر البساطة الجميلة لا يقتصر على التمسك بالحقيقة العارية، وإنما هو كفاح من أجل الدقة المطلقة في جعل الكلمات مساوية للتجربة"(5). لكنها، في المقابل تخبئ خلف تلك البساطة أفكارًا عميقة ومواقف مركبة، تكلف القارئ مئونة إعمال الذهن بالنظر والتأمل والتفكير، بعيدًا عن القصص الساذجة ذات الأجواء الحكائية أو التعليمية، التي يميزها أكثر ما يميزها الخواء الفكري وافتقارها إلى الحد الأدنى من شروط الفن القصصي. وليست الجواهر تلك التي تطفو على سطح الماء، إنما تلك الموجودة في الأعماق، وتحتاج إلى غواص ماهر يتقن مهنة التنقيب ومتعة الغوص. إضافة إلى ذلك، فإنها لا تنسى أن تجعل من التناص متكأً قويًا، في كل قصة وقصة تقريبًا.

في السياق ذاته، يمكن أن نسوق، مثالاً لا حصرًا، ما يعرض له الكاتب من إشكالية الموت، تجربة الإنسانية جمعاء. فالموت، في هذا الكون، ما زال يعد سرًا من أسرار الحياة ولغزًا من ألغازها، لنقرأ ما يقوله الكاتب "كان الرجل يحزن عندما يموت واحد من معارفه والولد الصغير.. يسأل عن معنى الموت" (ص37)! فالكاتب يعرض لإشكالية الموت على الرغم من أنه، إلى الآن، لم يتوصل الإنسان إلى معناه أو سره الحقيقي، ولم يتمكن من فك شفرته أو رموزه، فلا الدين ولا العلم استطاعا أن يجيبا عن هذا السؤال المحيِّر. لكن، من الواضح والمتفق عليه، تقريبًا، أن الشيء الوحيد الذي يكاد يكون ثابتًا، هو أن الموت يظل جزءًا لا يتجزأ من الحياة وضرورة من ضروراتها.

ومثل ذلك، ثمة أفكار أخرى تداعب خاطر الكاتب وتقلقه، فجميل أن يُلتفت إليها من زواياها وألوانها المتعددة. حتى الصمت، يجب أن يُصغى إليه، كما يُفترض، يقول "وأمه تعلم مدى معاناته، وربما كانت الوحيدة القادرة على فهمه، وعلى ترجمة صمته وتشخيص همومه بدقة متناهية" (ص8)، يقول جبران خليل جبران "إذا كنت لا تسمع إلا ما يقال، ولا ترى إلا ما يُرى، فأنت في الحقيقة لا تسمع ولا ترى شيئا". هذه لافتة ضوئية موجهة إلى كل إنسان وبالذات إلى المبدع لكي يرهف الإصغاء إلى صوت الصمت، وأن يتوقف عنده لبعض الوقت في غمرة هموم الحياة وتبعاتها وما فيها من سرعة وتغير وتلون، ولو في ما يشبه استراحة المحارب. ليتوقف الإنسان قليلاً يراجع نفسه ويعيد حساباته بهدوء وراحة نفس وروية، وذلك لكي يستطيع أن يستأنف حياته من جديد برغبة صادقة وروح متجددة. لقد بلغ الأمر ببعضهم كما في قصة «زهور بيضاء بلون الثلج» على سبيل المثال لا الحصر، بأنه لا يوجد لديه متسع من الوقت ما يكفيه لتأدية الواجب في مناسبة ما، يقول "ناوله القادم الزهور واختفى. كانت هناك بطاقة صغيرة وهي أيضًا بيضاء اللون، وعليها سطر واحد مكتوب باللون الأزرق: آسف، لم نستطع القدوم، كل عام وأنت بخير" (ص19). وصار أحدهم يؤدي هذا الواجب من باب إسقاط الواجب لا أكثر ولا أقل، فما بالك إذا كان هذا الإنسان عزيزًا على قلبه؟! إنه لأمر لا يُطاق بل ويندى له الجبين. فهل تلك هي الحياة التي يحلم بها إنسان هذا العصر؟! مثل تلك الحياة ما طعمها وماذا تساوي؟! وما هي فائدتها أو قيمتها؟! تلك تساؤلات مشروعة تفرض نفسها دون استئذان من أحد.

مهما يكن، فإن «ثلاثية الموت» نتاج أدبي نوعي بامتياز، ومحطة مشرقة في مجمل مسيرة الكاتب الإبداعية. إنها خطوة متقدمة أخرى، وعلامة فارقة في رحلته الأدبية الطويلة، لاسيما على طريق مرحلة ما بعد الكتابة الوجدانية والعواطف والحنين، إنها مرحلة التأمل والفلسفة والتفكير، وبطبيعة الحال كذلك، أن تتبوأ مكانتها المرموقة في مسيرة القصة الفلسطينية المحلية.

3

سوف نخصص القراءة في هذه الجزئية للقصة الأولى في المجموعة وهي «العشاء الأخير» (ص5-12)، منطلقين من النص ذاته، فحقيقة النص تكمن في معناه، في مقاربة لكشف الأوراق بعد أن اختلطت في فضاء تلك القصة. ويشار، في السياق ذاته إلى أن القراءة الآتية ككل قراءة أخرى ذات معرفة نسبية لا قطعية، يمكن أن تخضع للتشريح مثلها في ذلك مثل أي نص آخر.

على مدار القصة، يواجهك سيل متدفق، له أول ليس له آخر، من الشبابيك المتداخلة والمنفتحة بعضها على بعض، وكلما تتعمق بالدخول، من خلالها، أكثر فأكثر تشعر بأن الأمور أمامك تبدأ بالتشابك والتشعب أكثر فأكثر.

ينتقل القارئ، بمعية الكاتب، من شباك إلى آخر، ومن مشهد إلى آخر، وما أن
يتجاوز شباكًا أو يغادر مشهدًا سرعان ما يقف أمام شباك آخر ومشهد آخر، وهكذا دواليك. وحين كان يعتقد أنه موشك على بلوغ الغاية أو القيمة المشتهاة وما هو ببالغها، وإذا به يكتشف أن المشوار أمامه ما زال بعيدًا والغاية أبعد مما كان يتصور، مما يؤكد على أن فعل الكتابة لا تكتمل دائرته إلا بفعل القراءة أو التلقي. فإن كنا نتلمس الكاتب كمرجعية أساسية بين ثنايا النص، وبإمكاننا أن نلمحه ونستشعر حضوره في كل زاوية من زوايا القصة، بل وفي كل حركة من حركاتها، فليس القارئ بغائب منه من جهة مرجعيته الوظيفية كذلك.

تلك تجربة حياة، يرغب الكاتب بأن يسقطها على القارئ لجهة تحقيق اللقاء بين الكاتب وهو المرسِل وبين القارئ وهو المتلقي، وذلك بغية تحقيق التكامل بينهما: بين الخاص/الذاتي والعام/الآخر. يقول الشاعر والناقد الإنجليزي كولردج "إن الأدب هو نقد الحياة "، بل هو أفضل وسيلة نقد للحياة.

يعي الكاتب جيدًا ما يناقشه مع القارئ الضمني، على شكل شريط يعرضه أمامه وهو يمتح من ثقافة وخبرة وتجربة حياة، ما يمكن أن يجعل القارئ يميل إلى الاعتقاد بأن: تلك القصة قد تعكس، في بعض جوانبها، ملامح الكاتب نفسه إلى حد كبير. فهو يحاول بلورة وعيه الغني وتجربته الثقافية والحياتية الواسعة بما يمكن أن يساعد على اكتشاف الذات لديه هو أولاً، ومن ثَم لدى كل واحد وصل أو قد يصل إلى تلك المرحلة العمرية ثانيًا، وهي مرحلة قد لا تروق بعضهم إلى حد ما. هي حياة يومية قلقة ومتوترة في ظل أجواء الزمن المعاصر المتسارع. هذه هي الحقيقة، والكاتب يحاول من خلال كتابته أن يجلو لنا الحياة كما هي، على حقيقتها من دون زيف أو خداع.

ويثبت واقع الأحداث، في القصة، بأن الكاتب يمعن في التمويه حتى ليبدو كأن الأمر لا يعنيه شخصيًا لا من قريب ولا من بعيد، لذلك تجده يعمد في لغة خطابه إلى ضمير الغائب، تمامًا كفعل عميد الأدب العربي طه حسين في أسلوبه في كتاب «الأيام». إنه يريد أن يبعد الشك عنه، لذلك تجده يأخذ القارئ إلى البعيد البعيد، إلى ما وراء البحار، يقول "جاءت الفرصة من وراء البحار" (ص7) كي يوهم القارئ وكأن المقصود ليس هو إنما سواه، أو شيء آخر، أو شيء غير ما
في نفسه. على كل حال ، هكذا تبدو أصول اللعبة وشروطها.

يُرى الكاتب وهو يسلط الضوء بصبر وأناة على جوانب عينية من الحياة الخاصة والعامة بألوانهما المختلفة، مستفيدًا من خبرته ومعرفته وتجربته في الثقافة والاجتماع وسواهما، ومتخذًا منها أساسًا لصوغ إبداعه القصصي الذي نحن بصدده. إنه يشعر بعدم الرضا، لذا فإن القصة تعكس لديه قلقًا وجوديًا حقيقيًا يتمظهر في حالات ومواقف متعددة من التجليات الخاصة، لا يلبث أن يسقطها على القارئ المتلقي أيضًا كما تقدم، لكن بشكل غير مباشر. لذلك قد لا نجانب الصواب إذا قلنا: يهدف الكاتب من وراء ذلك كله إلى إعادة التوازن الحقيقي لحياة الإنسان جسدًا وروحًا.

والقصة، من ذلك المنظور، أداة حقيقية لتنمية القدرة الإبداعية على التفكير والبحث والتوعية وتعميق الإدراك، من خلال المواجهة المباشرة مع أية إشكالية قد تعترض طريق الإنسان في حياته، بغية ارتياد آفاق فكرية رحبة، جديدة وجديرة بالاهتمام، لا لمجرد الاستهلاك العبثي أو للتسلية. ومما يثير الإعجاب حقًا أن تمضي القصة انسيابية بشكل تلقائي لافت، أو كما يقول غوركي على طريقته الخاصة "بطريقة مقنعة صريحة وببساطة مذهلة ووضوح تام وصدق لا يدحض" [5]. إنها قصة حيوية وممتعة وآسرة، تنساب كماء النهر في تدفقه وجريانه، في أجواء من فيض المشاعر والحرارة والتشويق.

تعد قصة «العشاء الأخير» كسائر القصص في «ثلاثية الموت»، بما تبدو أنها حافلة باللوحات المثيرة والمؤثرة في الوقت نفسه، مع ما تشتمل عليه من حركة وإثارة وتفاعل لا تعرف التوقف، والأهم من ذلك كله أنه حتى بعد أن تفرغ من قراءتها فإن الإشكاليات التي تواجهك أو تواجهها لا تكاد تنتهي، إنما تبقى قائمة على حالها كما هي، ماثلة أمام القارئ وجهًا لوجه من دون حل يذكر ترسو عليه. كذلك هي الموضوعات فيها فإنها متداخلة ومنفتحة بعضها على بعض.

يمهد الكاتب، في مستهل قصته، بعرض مسهب للأجواء القاتمة التي تظلل أحداثها في ما يشبه أن يكون مقدمة لكي تتناسب مع روح القصة، يقول "هبط الظلام سريعًا ذلك اليوم، كما يحدث عادة في أواخر الخريف، فما أن تفارق الشمس حافة السماء، شاحبة متعبة، حتى يسود الصمت، ويليه ظلام مفاجئ"(ص5)! ولا يكتفي الكاتب بما توحي إليه تلك الأجواء، إنما سرعان ما يُسقطها على الشخصية الرئيسية أو البطل في القصة، على نفسه ونفسيته سواء بسواء. وقد يبلغ الأمر به حدًا يُرى فيه وهو يوشك أن يغرق في بحر من هواجسه وهمومه التي تهاجمه وتنهل عليه من كل صوب وحدب، حتى إنها لتكاد تجهز عليه، يقول "وقد بدأ مؤخرًا يشكو ضيق النفس وارتفاعًا وانخفاضًا في ضغط الدم، وآلامًا في الساقين...على أن ظروفه المادية ساءت مؤخرًا. صار يكثر من الجلوس وحيدًا يحط عليه سهوم مفاجئ، ويكثر من النسيان، يعرّض حياته للخطر في أخطاء لا يقوم بها إلا السائقون الجدد. لم يشارك أحدًا متاعبه. تجنّب التحدث بشأنه. لم يبخل بشيء على البنات حتى وصل إلى الحد الذي وصل فيه الماء إلى فمه"(ص7)! ثم يضيف قائلاً لقد "فقدَ الكثير من مرحه المعتاد"(ص9)، كذلك "إنه يعد الآن القهوة. ستقتله هذه القهوة اللعينة مع السجائر التي يكن لها أعمق أنواع الصداقة"(ص10). فالأجواء مكفهرة وشاحبة على نحو غير اعتيادي ، وعلى معظم المستويات تقريبًا.

في تلك الأثناء، لم يكن حال الطبيعة بأفضل من حال البطل في القصة، لقد أشبه حال الطبيعة حاله إلى حد كبير، فكانت تحزن لحزنه، وتأْلَم لألمه. إنه يرى الطبيعة في حالة تماثُل تام مع حاله ونفسيته لا حالة تشابه فحسب، حتى كأن أحدهما أصبح انعكاسًا للآخر، يقول "وكان الشتاء يوحي من بعيد بأصابع الغيم والرياح، وطيور أضاعت اتجاهها. في تلك الليلة كانت إيماءات الشتاء أشد وضوحًا، أوراق الكرمة المتساقطة كانت تقع مباشرة فوق الطاولة التي توسطت الساحة الصغيرة، أمام الدار على مرأى من شجيرات الورد التي كانت ذابلة في تلك الليلة...كل شيء يطلق بريقًا حزينًا...بدا كل شيء على وشك الانفجار... عاصفة مفاجئة...أوراق الكرمة تهطل بخشخشة كالحشرجة...خبا ضوء المصابيح في الساحة حتى اختفى تمامًا، وغمر المكان ظلام كثيف"(ص5،6،11،12)!

تشي أجواء القصة، كما يلحظها القارئ منذ بدايتها، بالسوداوية، لا شيء فيها تقريبًا يبعث على الأمل والتفاؤل، حتى ليتخيل المرء بأنه لا يوجد فيها ما يدفع إلى الأمام! ففي اليوم "هبط الظلام سريعًا ذلك اليوم"(ص5)، وفي الليل "في تلك الليلة كانت إيماءات الشتاء أشد وضوحًا"(ص6)، فليس الليل بأحسن حالاً من اليوم والعكس صحيح أيضًا، فيومه كليله وليله كيومه، لا شيء إطلاقًا يسر البال أو يسعد الحال! وفي ذلك المشهد ما قد يدفع القارئ إلى الاعتقاد بأن الكاتب ربما قد بالغ فبلغ حد الإفراط في تلك الأجواء السوداوية المتجهمة. فالتشاؤم، كما يبدو، غالب على أمره أكثر مما هو متوقع، الأمر الذي قد يجعل لسان حال القارئ يميل إلى التفكير أو الاعتقاد بأنه كان يُفضل لو أنه ترفق وترك كوة صغيرة مشجعة واحدة فقط، أو منفذًا يطل القارئ من خلاله على عالم مختلف ولو قليلاً، عالم يكون أكثر إشراقًا وأكثر تفاؤلاً، انطلاقًا من قوة الدفع باتجاه إرادة الحياة التي يجب أن تستمر متوهجة فينا في كل الأحوال. ذلك ما تتطلبه ضرورات الحياة. يقول الشاعر السعودي غازي القصيبي:

" تذكري:
أن الجرح عندما يتعب من البكاء
يبدأ في الغناء
تذكري:
أن اليأس في سبيل الإنسان
أعلى مدارج الأمل " [6]!
لكن الأهم من ذلك كله وعلى الرغم من ذلك كله، أن الوضع لم يصل حد اليأس بعد، وفي ذلك وحده ما يمكن أن يشكل بارقة أمل مهما كانت صغيرة، فاليأس لم يتسرب إلى نفسية البطل في القصة، إنما على العكس تمامًا، نجده لا يعرف اليأس أبدًا وإن بدت الصورة قاتمة أو مظلمة، ولا يفقد ثقته بنفسه وبوعيه، وهو ما يُحيل إلى مقولة: إن معرفة المرء أو الأديب المبدع لنفسه لا يمكن أن يعادلها في الأهمية شيء، وأما الثقة بالذات والوعي بما يدور من حول الإنسان فقيمة راسخة القدم لا يمكن أن يتخلى الإنسان عنها أو تتزعزع.

4

من الواضح، أن للزمن تأثيرًا على الإنسان بشكل عام والمبدع بشكل خاص.
فالإنسان محكوم أبدًا بالتراجع أمام الزمن. والكاتب يعي ذلك ويتقنه جيدًا، من منطلق وعيه بالذات أولاً، وبشخوصه ثانيًا، لاسيما بعد أن ضاق مجال حركته الزماني والمكاني على حد سواء. فهو عرضة لتقلبات الزمن الذي بات يترك أثره خطوطًا رأسية وأفقية ومائلة وفي كل اتجاه على تضاريس جسده، منطلقًا من حقيقة أنه: لا شيء يحدث في هذا الكون خارج نطاق الزمان والمكان والإنسان. الأمر الذي يقوده ويدفعه إلى النظر بعمق أكثر في دور العلاقة الجدلية بين الإنسان وظروفه، في صنع التجربة الإنسانية لدى كل فرد فينا.

في ضوء ذلك كله، يُرى البطل، في مرحلة زمنية محددة، وهو يفكر في إعادة تشكيل واقع الحياة من جديد من خلال نظرة علمية دقيقة، وفكرية تقدمية جريئة، في المواجهة والبحث على أساس قانون الطبيعة: العلة والمعلول. على الرغم من كل الصعوبات التي تعترض طريقه في مسيرة الحياة، خاصة بعد أن ضاقت سبل الحياة أمامه، وأصبحت حياته سلسلة من الإخفاقات والتراجع: حزن، مرض، فقر، إخفاق انتكاس، سوداوية مفرطة. لكنها حياة مفعمة بالمسؤولية والإحساس بما يدور حوله، فهو أب عطوف مع بناته، وابن حنون مع أمه، ورب بيت مسئول مع زوجته، يحبهن جميعًا ويسهر على راحتهن. يقول الكاتب المصري أبو المعاطي أبو النجا "فحين يلوح للمرء أن كل شيء قد انتهى تكون ثمة دائمًا بداية، وحين يلوح أن كل ما نعيش من أجله قد تبدد فإننا نكتشف القيمة العظيمة للحياة " [7].

ما أجملها شمس الحياة عندما تشرق من جديد! ذاك هو السبيل إلى تجاوز الهموم والمحن وتعزيز الثقة بالنفس بإمكانية التجدد والنجاح، مهما قست الظروف أو ساءت الأحوال. ويمضي في بحثه عن اتجاهات وإمكانيات وآفاق جديدة محاولاً أن يصل إليها، ما يجعلنا نراقب تطور الأحداث عن كثب ونحن نشاركه في بحثه وتفكيره وهمومه. كأن يستوقفنا الإنسان ونتأمله في وحدته وقلقه وحيرته وبحثه عن حلول جديدة وما إلى ذلك. وهو وإن كان مستقلاً بذاته، لكنه بكل تأكيد غير منبت عن مقومات شروط الزمان والمكان ودورها في صنع الأحداث، لينقلنا إيحاؤها ودلالاتها إلى ما يشابهها من التجارب، التي مر هو بها أو قد يمر بها أحدنا.

ويلحظ القارئ أن بين ثنايا الأسطر ما يشي بوجود إشارات موحية على أنها تلامس بعض جوانب حياة الكاتب نفسه التي يريد أن يطلعنا عليها، فالكلمات وحمولاتها الدلالية التي تحيل إليها هي رموز حالات النفس. ففي حين يلحظ القارئ على القصة، أنها وإن ترسل غير إشارة حداثية، لكنها في المقابل تبدي حنينًا إلى الماضي، ما يعني المحافظة على عادات المجتمع الشرقي وتقاليده، أو ما يمكن أن يُطلق على ذلك الموقف: بين بين، في مسعاها لأجل محاولة التوفيق بين عراقة الماضي وأصالة المعاصرة. وإن كان ذلك يظل مجرد احتمال ليس أكثر، وهو ما نتركه لذكاء القارئ. مثال ذلك أيضًا علاقة بطل القصة الخاصة بوالدته أو بالأحرى تعلقه بها، يقول "لكنه لم يتخل عن شيء من عاداته في التعامل معها. كان يمر عليها كل صباح قبل أن يغادر إلى عمله، ويدخل عليها فور عودته ويكون آخر من تراه قبل أن تنام "(ص9). وكذلك قوله "كان يدخل إليها كل يوم قبل الغداء أو بعده، فيتناول قطعة خبز صغيرة، يأكل أي شيء يجده لديها. لطعامها مذاق خاص"(ص9). وحين أراد غسل يديه "اختار أن يستعمل صابونًا مصنوعًا من زيت الزيتون، صنعته بيدها منذ زمن"(ص12). كذلك هو واقع الحال بالنسبة لوالده الذي ترك وقعًا خاصًا في نفسه، يقول إنه "يشرب الماء من نفس الكأس التي كان أبوه يشرب منها، حتى القهوة يشربها في نفس الفنجان الصغير"(ص9)!

يسرد الكاتب في هدوء وثقة تامين مواقف أو محطات هي من صميم الواقع في رحلة الحياة المتحولة، وأقرب ما تكون إلى المواجهة بين الذات والواقع الذي يعيشه البطل ويحياه أو يمر به، ليرسم لنا صورة ذات أوجه متعددة وخيارات متنوعة، وخلال ذلك يقدم لنا مكاشفة صريحة ذات شفافية عالية، ثم يتوقف في محطات مختلفة أخرى على ضفاف الذات، في ما تبدو أنها محاولة العودة إلى الداخل داخل الذات، بعد أن كان قد غادرها إلى سواها أي إلى الخارج. إنها عودة الذات إلى الذات، أو عودة الروح إلى الروح، وجعلها في مركز الحدث لا في هامشه. لقد حان الوقت للمصارحة والمكاشفة مع الذات، وذلك بعد أن حل ما حل في الواقع. فالمعرفة والتجربة التي تمثل روح الحياة، في هذا العصر، أغنت حياة الكاتب وزادت رؤيته الذاتية عمقًا وشمولاً، فانعكست في محاولاته تجسيد أبعاد المرحلة التي يعيشها ويمر بها هو شخصيًا وربما آخرون كثر سواه. عوامل ذاتية وموضوعية تعتمل في ذاته، من خلال ما يرتبط بالواقع الاجتماعي والإبداعي الذي يحياه، ويتعامل معه بكل جدية وانتباه واهتمام، لدرجة أنه أصبح يجعل من الأشياء الصغيرة ذات مغزى وحيوية ملفتة للأنظار ومثيرة للاهتمام.

5

توحي قصة «العشاء الأخير» بما توحي إليه في سياق متصل وتناص واضح مع العشاء الأخير للسيد المسيح ـ عليه السلام ـ قبل أن يصلب. فالكاتب يذكرنا بالعشاء الأخير، الرباني أو السري، الذي تناوله المسيح في لقائه الأخير مع تلاميذه الاثني عشر قبل أن يغادرهم للمرة الأخيرة ولا يعود. وإن كان ثمة ما يوهم القارئ، للوهلة الأولى، بأن هنالك عشاء حقيقيًا تناولته الأسرة لدى الأم، وهو المعنى الظاهر أو القريب، يقول "دخلوا إلى غرفة الأم. كان كل شيء معدًا على مفرش على الأرض، هكذا يتناولون الطعام لديها، جلسة شرقية...كانوا يأكلون بسكون"(ص11). يبدو أنه سكون ما قبل العاصفة! وأما النهاية المفاجئة فكانت في مفارقة الأم للحياة، يقول "غادر الجميع. لم تبق إلا هي. طنين وأزيز يغمر رأسها. عاصفة مفاجئة...لم تعد قادرة على الوقوف...انكفأت على وجهها. خبا ضوء المصابيح في الساحة، حتى اختفى تمامًا، وغمر المكان ظلام كثيف"(ص12). وببراعة لافتة، يحمل الكاتب «العشاء الأخير» على المجاز لا على الحقيقة، وهو المعنى الباطن أو البعيد، إذ يوحي كأنما يريد هو الآخر أن يقدم للقارئ «العشاء الأخير» مما يعدّه هو ويحمله في جعبته من ناتج أدبي أخير، أو مما يود أن يترجم له من مشاهد تصويرية للمرة الأخيرة وعلى طريقته الخاصة. فالأدب الجيد وكل فن آخر هو بمثابة غذاء حقيقي، لكنه غذاء من نوع آخر، إنه الغذاء الروحي.

يذكّر الكاتب من فاته أو نسي، في غمرة تزاحم أعباء الحياة وتبعاتها، بأن الإنسان محتاج دائمًا إلى شيء آخر مختلف عن الغذاء المادي، في إشارة واضحة إلى قول الإنجيل "ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان"(متى 4:4)، على الرغم من أن الخبز طعام أساسي وضروري لا يستغني عنه إنسان في حياته. لكن، بما أن الإنسان جسد وروح وهو متنازَع ومتصالح أبدًا بينهما في ذات الوقت، فإنه بحاجة ماسة إلى غذاء روحي أيضًا لا مادي فحسب.

وبالإجمال فإن ما تعرض له قصة «العشاء الأخير» هو «الخبز» أي الغذاء الروحي، علمًا بأن الإنسان، كما أشرنا، يحتاج فى حياته، إلى غذاء مادي ينمي البدن ويمنحه الطاقة. لكن في المقابل هو محتاج أيضًا إلى غذاء من نوع آخر، غذاء معنوي روحي يغذي الروح والوجدان، لأجل تحقيق التوازن بين الروح والجسد. وبذلك يظهر الكاتب وعيًا كليًا بالذات لجهة العطاء والفعل الإبداعي. ولا نستبعد أن يحيل الكاتب مشيرًا من طرف خفي، إلى أنه قد أراد أن يقتفي أثر المسيح بالسير على هدي خطاه لقوله "أنا هو الخبز الحي الذي نزل من السماء. إن أكل أحد من هذا الخبز يحيا إلى الأبد. والخبز الذي أنا أعطي هو جسدي الذي أبذله من أجل حياة العالم"(يوحنا 6 :51). يلحظ القارئ في ما تقدم بأن المسيح لم يقدم طعاماً مادياً كالذي قدمه للجموع وكان مكونًا من خبز وسمك، لكنه يقدم هذه المرة جسده "الخبز الذي أنا أعطي هو جسدي "هكذا يقول المسيح. والمعنى: هو الخبز الحي الذي نزل من السماء، إنه خبز الحياة الذي يهب حياة أبدية لكل من «يأكله».

أوليس هكذا هم الكتّاب والمبدعون الحقيقيون في عذاباتهم مع الحروف والكلمات؟ وفي سيرهم في دروب الآلام لأجل خلاص الآخرين، تمامًا كفعل السيد المسيح؟ ألا يقربون أنفسهم على مذبح الإبداع إكرامًا وفداءً، لكل متلق يسعى للإنعتاق من ظلمات العبودية والجهل إلى أنوار المعرفة وآفاق الحرية؟ وهل ينكر أحد بأنهم المصابيح التي يستضاء بها في ليالي الحياة الحالكة؟ وهم حين «يحترقون» أو يتعذبون، أليس لأجل أن يحيا الآخرون؟ أو حين يشقون، أليس لأجل أن يسعدوا من حولهم؟

ومما جاء في الإنجيل المقدس كذلك "وأخذ خبزًا وشكر وكسر وأعطاهم قائلاً: هذا هو جسدي الذي يبذل عنكم، اصنعوا هذا لذكري. وكذلك الكأس أيضًا بعد العشاء قائلاً: هذه الكأس هي العهد الجديد بدمي الذي يسفك عنكم "(لوقا 22:19-20). هكذا هم المبدعون الحقيقيون، حتى الدماء التي تجري في عروقهم قد لا يترددون في جعلها زيتًا ووقودًا، في سبيل رفعة القراء ولأجل متعتهم وسعادتهم.
والإشارة في التناص السابق، إلى مائدة المسيح التي سيعدها لمختاريه في ملكوت السموات لقوله "وأنا أجعل لكم ملكوتًا كما جعل لي أبي ملكوتًا لتأكلوا وتشربوا على مائدتي في ملكوتي"(لوقا 22: 29-30)، وكأني بالكاتب يود أن يقول هو الأخر: «كلوا واشربوا» من طيبات ما رزقتكم من كتاباتي، وانهلوا من معين إبداعاتي، كتلك المجموعة القصصية التي بين أيدينا «ثلاثة أيام»، على سبيل المثال أو «العشاء الأخير» تحديدًا، أسوة بما ورد على لسان المسيح عليه السلام في العشاء الأخير، في تشابه تام بين الموقفين، وإن اختلف السياق. مع أن الكلمات ليست مقصودة لذاتها، إنما بما تحمله من علاقة ضمنية وتؤديه من معان وهنا مكمن قوتها.

وبذلك، يكون الكاتب قد ألمح إلى أن هذا العشاء إنما هو «العشاء الأخير» الذي يريد أن يقدمه للقراء، ولا نريد للقارئ أن تذهب به الظنون مذاهب شتى، أو أن يصدق الحدس في ما يمكن أن يذهب إليه، خشية أن تنتهي تجربة أدبية رائدة، بعد أن أثرت الحياة الأدبية، ورفدت الكثير من الطاقات الفكرية، ولامست الأحاسيس الإنسانية لدى العديد من البراعم الإبداعية الواعدة.

ومع أن الكاتب، والمبدع بشكل عام، أدرى بنفسه، لكن الذي نود أن نقوله: على كل كاتب، كما يُفترض، أن يبقى في أعلى درجات النشاط والحيوية والإبداع مهما قست الظروف واشتدت الصعوبات، فالشمس لا تغرب إلا لتعود وتشرق من جديد، وأن يكون تمامًا على نسق جبران خليل جبران في مسيرته الحافلة بالعطاء الإبداعي الزاخر، الذي يقول في إحدى رسائله لصديقته مي زيادة "لا لم أقل كلمتي بعد"! على الرغم من كل ما واجهه من مصائب وأحزان في رحلته مع العذاب، لأن القادم من الإبداع دائمًا يمكن أن يكون هو الأفضل. والإنسان المبدع لا ينضب معين عطائه المتجدد أبدًا، ولا يقول كلمته نهائيًا مهما بلغ من محطات العمر أو من حالات الضعف والوهن، فدائمًا لديه ما يقوله، وفي الحياة ثمة محفزات لا تحصى ولا تعد على الإبداع.

في ضوء ذلك يمكن القول: يعد التناص عاملاً حيويًا من عوامل التدليل إلى المعنى، لا بل من أهم الوسائل الفنية في نسيج النص، ولا يهم اكتشاف دور هذا التناص إن كان تاريخيًا أو دينيًا أو اجتماعيًا لأن ذلك شيء معروف، بقدر ما يهم الكلام على دور ذلك التناص في النص وتفاعله معه. فالتناص يحدث تفاعلاً داخل النص وداخل القارئ على حد سواء، كما يساعد في توليد الدلالات، "فالتناص من وجهة نظر ريفاتير، يلعب دورًا أساسيًا في تمويه المعنى وتحويله نحو قابلية النص للتدليل، تبعًا لنوعية القراءة واختلاف القراء" [8].

ويحسب المرء أن من أهم عوامل نجاح تلك القصة وكل فن آخر، هو في إجادة صناعة الأسئلة أو في الإبقاء عليها أو بعضها، لا في صناعة الأجوبة، إذ ليس بالضرورة أن يجد القارئ جوابًا لكل سؤال أو حلاً لكل إشكالية تعرض في القصة وذلك ما تحقق. "ومن المناقشة ينبثق النور" هكذا يقول أرسطو. وأمام ذلك التوسع في الأفكار والموضوعات المعروضة، يقتضي الأمر من القارئ الحصيف وتلك مهمته، إجادة العرض والتوصيل على طريق القراءة المنتجة والمضيئة.

زكي درويش كاتب فلسطيني ولد في قرية البروة المهجرة عام 1944. يقيم اليوم في قرية الجديدة قرب مدينة عكا، وهو شقيق الشاعر المرحوم محمود درويش. من أعماله: «شتاء الغربة» قصص 1971، «القميص والطابور» قصة 1971، «الجسر والطوفان» قصص 1973، «الرجل الذي قتل العالم» قصص 1978، «الجياد» قصص 1989، «الكلاب» قصص 1980، «الموت الأكبر» رواية 1989، «أحمد ومحمود والآخرون» رواية 1989.


[1إحسان عباس : ندوة (أزمة النقد الأدبي العربي الحديث) ، الجديد ، العدد 11 ،
ص34، 1981 .

[2مثال ذلك ثلاثية نجيب محفوظ الروائية : بين القصرين، وقصر الشوق، والسكرية .
توفيق الحكيم: فن الأدب، ص181، مكتبة الآداب، القاهرة، د. . ت. .

[3ابن قيم الجوزية: بدائع الفوائد، دار الكتب العربية، ج4، ص9-10، بيروت ، د. ت. . كذلك، انظر : عبد الله الغذامي : الخطيئة والتكفير من البنيوية إلى التشريحية ، ص9، النادي الأدبي الثقافي، جدة، 1985 .

[4عبد الجبار عباس: في النقد القصصي، ص99، دار الرشيد للنشر، بغداد ، 1980 .

[5عبد الجبار عباس : في النقد القصصي ، ص99 ، دار الرشيد للنشر ، بغداد ، 1980 .

[6عبد الله الغذامي : ثقافة الأسئلة ، مقالات في النقد والنظرية ، ط2 ، ص163 ، دار سعاد الصباح ، الكويت ، 1993 .

[7عبد الجبار عباس : في النقد القصصي ، ص30 .

[8حميد لحمداني : القراءة وتوليد الدلالة ، تغيير عاداتنا في قراءة النص الأدبي ، ط2 ، ص27 ، المركز الثقافي العربي ، الدار البيضاء و بيروت ، 2007 .


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى