الأربعاء ٢٨ نيسان (أبريل) ٢٠٠٤
بقلم أحمد الخميسي

فاطمة زكي ونساء الثورة في مصر

الثورة الروسية نساء كالأساطير . عرفت " لاريسا " بجمالها الباهر وشجاعتها المذهلة ، وكبريائها الذي يتجمد الآخرون عنده . لاريسا التي صعدت إلي سطح المدرعة " أفرورا " مساء 7 نوفمبر 1917 ، ووقفت في عرض النهر تتأمل السكون لحظة ثم أعطت أوامرها للبحارة بإطلاق المدفعية على القصر الشتوي، وتحطيم آخر قلاع القيصرية . وبذلك دفعت لاريسا البشرية خطوة إلي الأمام ، وغدت أسطورة .

وقد لا يكون في تاريخنا الحديث أساطير عن النساء والمدرعات البحرية وطلقات المدافع ، لكن لدينا حكايات و بطولات أخرى : لدينا فاطمة زكي ، وشفيقة محمد التي استشهدت في مظاهرات ثورة 19 ، وأم صابر أولى النساء الشهيدات في غمرة الكفاح المسلح بقناة السويس عام 1951 ، ونساء أخريات احتشدت صدورهن بآمال الحركة الوطنية قبل ثورة يوليو ، قبل أن تحتشد بأحلام البيوت والأطفال . فتيات كانت تقرأ الكتب خلسة في الليل ! ، وتوزع المنشورات ، وتخط على جدران الشوارع بالطباشير عبارات الاحتجاج على القصر الملكي ، والاستعمار ، وتخفي المطابع السرية ، وتنظم المظاهرات ، وتندفع إلي التطوع لحمل السلاح ، وتقيم أسرة ، وترعى أطفالا ، وتواصل المسيرة . لدينا أساطيرنا الخاصة بنا ، وكانت فاطمة زكي إحدى أجمل تلك الأساطير العذبة التي مشت مع محامي الشعب المصري نبيل الهلالي دربه الطويل ، إلي أن فارقته مؤخرا. من الذي لم يأت إلي جامع عمر مكرم ليقدم العزاء ؟ جموع وراء جموع من كل الأجيال التي تقدم الهلالي إليها بواجب الدفاع على امتداد نصف القرن ، واختلاف السجون ، والقضايا، والمحاكمات ، والعصور ، والتهم .

ولدت فاطمة زكي في 21 ديسمبر 1921 ، ونما وعيها في ظل ذكريات ثورة 1919 ، وظلت تذكر جيدا أن جدتها كانت تفاخر بأنها هي التي أخفت عن عيون البوليس الورداني الذي اغتال بطرس غالي عميل الاحتلال . وهي نبت لحركة النساء اللواتي قمن بمظاهرات كبرى لإعادة دستور 1930 ، ونبت الاحتجاجات النسائية التي تفجرت ضد تصريح " هور " الاستعماري ، ونبت لحركة اليسار المصري العارمة في الخمسينات حين ترسخ الوعي بأن تجويع الشعب المصري صناعة استعمارية ، وأن جوهر الاستقلال الوطني ينطوي على الاستقلال الاقتصادي والعدالة الاجتماعية . وعام 1942 التحقت فاطمة زكي بكلية العلوم ، وكانت الكلية بؤرة للنشاط الثوري ، يتحرك فيها د . عبد المعبود الجبيلي الذي أصبح وزيرا للبحث العلمي وآخرون ، واجتذبتها فكرة العدالة وهي بعد شابة في مقتبل العمر ، تعتقد أن جزيرة السعادة الفردية في محيط من تعاسة الجموع أمر مستحيل ، وأن على المثقف واجبا واحدا : الدفاع عن بلاده ، وإجلاء المحتلين ، والإطاحة بالنظام الملكي ، وإقامة الجمهورية ، ونشر الديمقراطية ، وضرب الإقطاع ، وبناء المصانع ، وتمكين الناس من العلم والثقافة . هذه كانت أحلام فاطمة زكي ونساء الثورة . وانخرطت فاطمة بحماسة في الحركة الطلابية داخل كلية العلوم ، وكانت تقود الطلاب في مظاهرات ضد الملك والاحتلال في العباسية والمناطق المجاورة ، وحين رشحها زملاؤها لدخول مجلس اتحاد كلية العلوم ، حل عليها الذهول ، وسألت : أنا بنت وأرشح نفسي ضد الأخوان المسلمين؟ وأصر زملاؤها ، وخاضت التجربة ونجحت ، وكانت أول فتاة تفوز بمقعد داخل الاتحاد في تاريخ الكلية .

وأخذت تصدر مجلة اسمها " هي " . في عام 1946 شاركت بقوة في الإعداد للانتخابات التي أثمرت فيما بعد " لجنة الطلبة والعمال " التي كان ظهورها حدثا سياسيا ضخما في تاريخ مصر . عام 1947 أنهت فاطمة زكي تعليمها ، وفي المظاهرات التي جرت في 21 فبراير 1948 ألقي القبض عليها في ميدان سليمان باشا ، ودفعها رجال البوليس بالقوة إلي السيارة مع زميلاتها ،! وارتبكت الفتيات ، لكن فاطمة زكي ما لبثت أن قفزت من السيارة إلي أرض الشارع واندفعت تختفي عن أعين البوليس ، لتواصل كتابة الاحتجاجات على جدران الشوارع وتوزيع المنشورات وتنظيم اللقاءات السرية . عام 1949 انتقلت إلي الإسكندرية بتعليمات من التنظيم ، وهناك عكفت على توعية عمال شركة سباهي وغيرها بحقوقهم ، وهي تشير للجميع إلي طريق الخلاص الوحيد الذي تعرفه . واعتقلت فاطمة زكي وظلت في السجن نحو العام ، وكانت المسئولة عن مطبعة سرية . ما الذي جعل فاطمة زكي وهي شابة في تلك السنوات تفضل دفء الأحلام الكبيرة على دفء عش صغير ، وتواجه السجن بشجاعة ، إلا أن يكون المرء إنسانا حقا ؟ . وعندما اندلع الكفاح المسلح في قناة السويس عام 1951 كانت وثيقة الصلة بتعبئة الممرضات وتقديم المساعدات والإسعاف وتدبير الموارد للفدائيين . وخلال العدوان الثلاثي على مصر تطوعت للدفاع المدني ، وتلقت تدريبا في معسكرات الجيش بالقلعة . وعام 1959 ألقي القبض عليها ، وظلت رهينة الحبس أربع سنوات كاملة ، نظمت خلالها إضرابا عن الطعام من أجل تحسين أحوال المعتقلات ، والإفراج عن الجميع . في الفترة الأخيرة ، وهي على فراش المرض ، وأحوج ما تكون إلي لمسة تقدير رفضت جائزة من ملتقى المرأة لأنه قائم على التمويل الأجنبي . فأيقظت في الحركة النسائية من جديد أن على المصريات أن يخضن معاركهن بالاعتماد على القوى المصرية .

في الحركة الوطنية نساء للثورة احتشدت صورهن في ضمير فاطمة زكي منهن : لطيفة الزيات ، ووداد ديمتري ، وثريا شاكر، وإنجي أفلاطون، وثريا أدهم ، وأسماء حليم ، وانتصار خطاب ، ومحسنة توفيق ، وأخريات . نساء لم تحقق بمسيرة الثورة ما راود الخيال لكنها كسبت نفسها ، وكسبت شعورها بالإرادة ، وكرامة التحدي . رحلت فاطمة زكي دون أن تظهر يوما أنها قامت بشيء خاص ، ودون أن تجمع تاريخها ، وكانت قليلة الكلام ، كثيرة العطف ، فارقت محامي الشعب نبيل الهلالي بالرقة التي يتبدد بها العطر من حول الزهرة ليتقدم هائما فوق كل الحقول .
E


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى