الأحد ٧ أيلول (سبتمبر) ٢٠٠٨
بقلم أحمد الخميسي

فالنتين راسبوتين.. بحثا عن الحقيقة

توجهت إلي روسيا في زيارة سريعة فوجدتها منشغلة على الصعيد السياسي بالحرب الروسية – الجيورجية.

أما على الصعيد الثقافي فكانت أنظار العاصمة كلها مصوبة نحو الكاتب الروسي الكبير فالنتين راسبوتين وماقام به مؤخرا.

راسبوتين لمن لا يعرفه، ولد في 15 مارس 1937 في قرية على نهر "أنجارا" بمقاطعة إركوتسك في سيبيريا،وعندما ظهرت أولي مجموعاته القصصية"نسيت أن أسأل ليوشكا" عام 1961 ثم مجموعته الثانية " إنسان من عالم آخر " عام 1965 اعتبره النقاد فتحا أدبيا متميزا، وعندما خرجت روايته الأولى " نقود لماريا" عام 1967 رسخت بصفته أحد أهم الكتاب الذين يكتبون عن القرية الروسية.

لكن راسبوتين شغل مكانة خاصة لأنه استمرار لتلك التقاليد العزيزة في الأدب الروسي التي يجمع الأديب يراسبوتين وهو شيخ تجاوز السبعين إلي قاع بحيرة بايكال في غواصة مفاجأة للجميع، ألقى بعدها راسبوتين كلمة بديعة قال فيها: " هبطت لأتأكد مع العلماء من سلامة قاع بحيرة بايكال، وشاهدت على عمق خمسمائة متر حياة مذهلة لم يتعرف العلم إليها بالكامل بعد، لكنها حياة غنية، لامثيل لها في الأعماق القريبة ولا على سطح الأرض،، تشعر وأنت تتأملها بوجود نسق وجمال خاص ونزعة سلامية ومودة والأهم الغياب الكامل للعدوانية. نعم، هناك تعيش كائنات عضوية أقل تطورا من الإنسان، لكن فيها شيئا ما أرقي منا ". وقد سبق غوص الكاتب العجوز حملة قام بها الأدباء بزعامته لحماية بحيرة بايكال التي تعد أكبر مخزن طبيعي للمياه العذبة في العالم، كما تشتمل أعماقها على حيوانات وأعشاب نادرة. قام الكاتب برحلته في 14 أغسطس لكنها مازالت حديث الصحافة، ذلك أن بحيرة بايكال تشغل مكانة خاصة في التاريخ والوجدان الروسي بطولها الذي يبلغ 395 ميل، وبالأنهار التي تصب فيها وعددها 336 نهرا. وبوسع هذه البحيرة أن تنقذ العالم في حالة الجفاف والعطش، ومن ثم جاء عنها في الأدب الروسي القديم " إن الطبيعة الأم تتسم بالحكمة، فقد أخفت بعيدا عن أبنائها الحمقى، هناك في وسط سيبريا، البئر الأخيرة لمياه الكرة الأرضية ".

وهناك أسطورة روسية عن البحيرة ونهر " أنجارا " الذي يتفرع منها ويصب في نهر" إينيسي "، تقول إن " بايكال " في الأزمنة القديمة كان رجلا قويا وطيبا، يحب ابنته الوحيدة " أنجارا " حبا شديدا، إذ لم يكن لجمالها مثيل في العالم، لكن بايكال نام ذات يوم واستيقظ فوجد أن ابنته قد هربت إلي الشاب " إينيسي "، فغضب بايكال غضبا شديدا وضرب الجبال حوله وأخذ منها قطعة وقذف بها وراء ابنته الهاربة، وسقطت القطعة على رقبة " أنجارا " التي راحت تستنجد بوالدها بايكال وتهتف به أنها عطشى والموت على رقبتها وترجوه أن يمنحها قطرات من مائه العذب، لكن بايكال أجابها بأنه لم يعد يستطيع أن يهبها سوى دموعه. ولهذا تجري " أنجارا" منذ الآف السنين بمائها المالح إلي " إينيسي ". أما بايكال فصار عجوزا متجهما ووحيدا.

والرحلة الأخيرة التي قام بها راسبوتين ليست أولى علامات اهتمامه بسيبيريا، وطنه حيث ولد، ففي عام 1976 نشر راسبوتين روايته الشهيرة " وداعا ماتيورا " التي وضعته على مصاف كبار الأدباء، وفيها يتناول راسبوتين قصة قرية هي " ماتيورا " أغرقها ضمن مائة وخمسيين قرية أخرى بناء محطة كهرومائية في الخمسينات. وعرض فيها راسبوتين قرية غارقة تحت الماء مع ذكرياتها وعالمها. وللزميل الكاتب النوبي يحيي مختار قصة جميلة في نفس الاتجاه عن النوبة أتمنى أن ترى النور قريبا.

لقد اكتسب راسبوتين شهرته ليس فقط من إنجازاته الأدبية، ولكن من مؤلفات ومواقف أخرى عديدة رسخت فكرة الكاتب المعنى بقضايا الوطن، ففي عام 1969 ظهر كتابه "سيبيريا هي مصيري" وفيه يتناول تلك المنطقة الشاسعة من الناحية البيئية، ثم كتابه " ذكريات عن نهر " عام 1971، و" إلي أسفل وإلي أعلى مع التيار " عام 1972، وهذا الشعور بالهم العام هو الذي أدى براسبوتين لتأجيل العديد من خططه الأدبية والخوض في الشأن السياسي والاشتباك مع السلطة الروسية الحالية، وراسبوتين الذي يؤرقه الحفاظ على بيئة وطنه، يؤرقه بالقدر ذاته الحفاظ على العادات والتقاليد الشعبية التي تختزنها بطلات رواياته من العجائز. يؤكد راسبوتين ماأكده من قبل على نحو عنيف سولجينتسين، ودوستيوفسكي، وتولستوي، وكل الكتاب العظام، وهي أنه مامن أدب بعيدا عن هموم الوطن، وأن البشرية مازالت بحاجة إلي نسق وجمال ودرء للعدوانية.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى