فلسفة الضرار واقعٌ كارثي
كان قوم من المنافقين أتوا النبي محمد(ص)، وهو يتأهب لغزوة تبوك، فقالوا له: إنا قد بنينا مسجداً لذي العلة والحاجة والليلة المطيرة والليلة الشاتية. وطلبوا من النبي أن يُصلي فيه. فقال لهم: إني على جناح سفر، وحال شغل، ولو قدمنا لأتيناكم فصلينا لكم فيه. ثم أخبر الله عز وجل النبي بأن هؤلاء منافقون بنوا مسجدهم على غير تقوى الله، ليجعلوه وكراً لبني مِلتهم يتآمرون فيه على الإسلام والمسلمين، فأمر النبي بمَسْجِد الضِرار فهُدم، وظل زمناً والناس يتطوعون بهدم ما تبقى من أثره، وقد مُحي اليوم ولم يبق له أثر! وفيه نزلت الآية الكريمة [1]:
«والذين اتخذوا مسجداً ضِراراً وكُفراً وتفريقاً بين المؤمنين وإرصاداً لمن حارب الله ورسوله من قبل وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى والله يشهد إنهم لكاذبون».
يالروعة التنبيه القرآني لحتمية توخي الحيطة والحذر إزاء السُم الزعاف حين يُدس للأبرياء في العسل الشهي! ويالشقائنا ـ نحن أبناء الثقافة العربية الإسلامية ـ بعدم التفاتنا لأهمية هذه الدعوة القرآنية (المُلهِمة) لالتزام الحذر..!
في مقالة سابقة لي بعنوان: «إشكالية الوافد والموروث في الثقافة العربية»، أُدرجت ضمن أعمال الندوة الفلسفية الواحدة والعشرون للجمعية الفلسفية المصرية، أبديت قناعتي بأنه لو كان قُدر للفكر الأنسني أن يتبوأ المكانة اللائقة به في تاريخنا الثقافي [2]
ولو أن أنصار هذا الفكر لم يُضطهدوا ولم تُحرق كتبهم، لكانت ثقافتنا العربية الإسلامية أخذت مسارها الطبيعي في النمو والتطور، ولكنا اليوم نسير جنباً إلى جنب مع بقية أمم الأرض، بدلاً من أن نرفل ـ كما نحن اليوم ـ، وإلى أجل غير مسمى، في غلائل وضع مُهين وشاذ! نقتني بمقتضاه تراثاً جامداً، لا نجرؤ ولا نملك القدرة على نقده وتطويره، ومن ثم نستعين على الحاضر بوافد حداثي، لا يقل الأخذ به ضرراً عن الأخذ بتراثنا المُتحجر! في الحالتين، نزداد اغتراباً وتتقلص قدرتنا على التعاطي مع إشكالية الوافد والموروث في ثقافتنا! أو بعبارة أخرى، نزداد نأياً عن نيل حقنا المشروع فى امتلاك ثقافة حرة ومتطورة!
المهم، دعوت في ختام المقالة نفسها إلى تحقيق الحلم الذي لطالما راود أولئك الشهداء الأحرار الذين أحبوا الحقيقة وأصروا على المُضي قُدماً في نُشدانها، فدفعوا أرواحهم الطاهرة ثمناً لزودهم الأسطوري عن حرية عقولهم وقلوبهم!..
دعوت إلى تأسيس مدرسة أنسنية في الفكر العربي، تأخذ على عاتقها تهيئة الأجواء الموائمة لإعادة بناء الإنسان العربي! ودافعت عن حق الإنسان العربي في الاشتغال بالفلسفة بوصفها، إلى جانب الدين، أحد أهم وأبرز طرق نُشدان الحقيقة!
واستندت في دعوتي (اليائسة) لتأسيس مدرسة أنسنية في الفكر العربي، وكذا في دفاعي عن حق الإنسان العربي في التفلسف ـ أقصد حقه في النضال من أجل الحقيقة ـ إلى دواعٍ عديدة، لعل أهمها، على سبيل المثال لا الحصر:
أولاً: الفكر الأنسني، وعلى خلاف العديد من الفلسفات الأخرى، يرتبط بالإنسان ويراه أعلى قيمة في الوجود، ومن ثم فهو يوجد أينما وُجد الإنسان، حتى وإن حالت ظروف بعينها بين الإنسان وبين إدراك هذا الفكر! فالمقولات الأنسنية في أبسط صورها لابد وأنها جالت ـ بحسب حدسي ـ في صدر الإنسان البدائي!
ثانياً: في غيبة التفلسف وفي ظل إحجام أبناء ثقافتنا عن الاشتغال بنشدان الحقيقة، قُضي على الإنسان العربي التيه في ظلمات الجهل والتخلف! إذ لم يجد الآخر العربي/المحلي صعوبة تُذكر في السطو على الدين [3]، فوجدناه يحتكر لنفسه، ولمئات السنين، حق إنتاج الثقافة الدينية، بل وراح في جرأة يتمترس وراءها لحماية مكاسبه الضخمة وامتيازاته الهائلة، على نحو مؤلم ومُستفز! غير عابئ بضحاياه الذين نجح في تكريس اغترابهم، وألقى في روعهم أنهم بتنازلهم عن حرية عقولهم وقلوبهم ووضعها عند قدميه، يتقربون إلى الله ويشترون الجنة!
ثالثاً: التراث الفلسفي العالمي ليس ملكاً لأبناء حضارة بعينها، فهو ملك لنا جميعاً معشر البشر، في كل زمان ومكان! بديهية غائبة، لعل أروع من نبه إليها هو الفيلسوف كارل ياسبرز، حين قال إن واجب الإنسان، وأياً كانت الثقافة أو الحضارة التي ينتمي إليها، هو أن يتعلم من "الموقظين الكبار أو الفلاسفة العظام" في كل العصور والحضارات، لأنه ـ وبحسب رأي ياسبرز ـ لما كانت الصياغة الواعية لحقيقة التفلسف وهدفه لا تكتمل أبداً في صورة نهائية، يمكن الإجماع عليها (كما هو الشأن مع الحقائق العلمية التي تظل مُلزمة للعقل وعامة الصدق مالم تظهر أخرى تُعدِلها أو تنسخها) فلابد لكل منا أن يضطلع بها مرة أخرى، وأن يعدها مهمة ومسئولية يتعين عليه أن يواجهها ويتحمل تبعاتها ما بقي إنساناً!
رابعاً: إننا معشر العرب في أمس الحاجة لإقناع طائر الفلسفة المهاجر أن يحط رحاله في ربوعنا الطيبة، بعد غيبة طويلة، لنستقوي به على اغترابنا الثقافي والآخرية البغيضة، ولنشهد زوال الإشكاليات الثقافية المعقدة والمتفاقمة، كتلك الخاصة بالوافد والموروث! قيمة الفلسفة وعظمتها، على ما يبدو، تكمن في انطواء الفلسفات جميعاً على فلسفة واحدة خالدة لا يملكها أي إنسان وإنما تتجه إليها الجهود الجادة في كل زمان، وفي الشرق والغرب، على السواء! كما أن عظمة الفلاسفة، تكمن في إدراكهم لكون الأقوال الفلسفية بطبيعتها ناقصة إلى أبعد حد، لأنهم يطالبون من يسمعهم بأن يعمل على إكمال أقوالهم من وجوده الخاص!
وما إن فرغت من نشر المقالة المذكورة، حتى جاءتني تعليقات المشتغلين بمهنة الفكر ـ على نُدرتهم ـ، واتفق الجميع تقريباً على طرح السؤال الآتي: "إنك بدعوتك إلى تأسيس مدرسة أنسنية في الفكر العربي، كخطوة أولى على طريق بناء صرحنا الفلسفي، تُقرر ضمناً عدم وجود فلسفة، أو فلاسفة، في ربوعنا الطيبة، وهو ما قد يطعن في قدرة مفكرينا ـ وبعضهم فذ ـ على التفلسف؟!".
ولسوف أسعى جاهداً في هذه المقالة لتوضيح وجهة نظري في هذا الصدد، على أمل إبراز أهمية دعوتي وإلقاء الضوء قدر المُستطاع على ما قد يكون مُبهماً فيها، تحدوني رغبة صادقة في إقالة عالمنا العربي من عثرته وإعادته إلى التاريخ بعد خروجه المُهين منه، على نحو ما نرى الآن ونحن في مطلع الألفية الثالثة!
ولتكن البداية توضيح ما أعنيه بـ"فلسفة الضِرار"، تلك المُشار إليها في عنوان هذه المقالة على أنها واقع كارثي، ترزخ أمتنا تحت نيره، وتكتوي بنيرانه!
ما هي فلسفة الضرار؟
"وبضدها تتميز الأشياء!"، مثلٌ عربي، آثرت أن أعمل به في هذه الجزئية، عبر اتخاذي تعريف "الفلسفة" وتوضيح مدى جدواها، مدخلاً لتعريفك، أيها القاريء الكريم، بـ"فلسفة الضِرار"! ذلك المصطلح الذي أراه ـ بحسب مُعايشتي لما يحدث في ربوعنا ـ الأكثر تعبيراً عما يشي به واقعنا الثقافي الكارثي!..
أن تتفلسف هو أن تُناضل من أجل الحقيقة [4]! والفيلسوف عاشق للحقيقة، ينشدها أينما وُجدت، رغم اقتناعه باستحالة امتلاكه لها على وجه اليقين! المُربي العظيم ليسنج يظل أروع من عبر عن عظمة نُشدان الحقيقة، وذلك بقوله [5]:
«ليست الحقيقة التى يملكها إنسان أو يتصور أنه يملكها هى التى تجعل له قيمة، بل الجهد الصادق الذى بذله فى التماسها والسعي وراءها. فليس تملك الحقيقة هو الذى يُنمي طاقاته وقواه، بل إن البحث عنها هو الذى يعمل على تفتحها، وفيه وحده تكمن قدرته على الاستزادة من الكمال. إن التملك ليجعل الإنسان كسولاً، ساكناً، مغروراً..ولو أن الله وضع الحقيقة كلها فى يمناه، وجعل الدافع الوحيد الذى يحرك الإنسان إلى طلبها فى يسراه ـ ولو كان فى نيته أن يُضلني ضلالاً أبدياً ـ، ومد نحوي يديه المضمومتين، وهو يقول: اختر بينهما! لركعت أمامه فى خشوع وهتفت به وأنا أشير إلى يسراه: رب! أعطني هذه! فالحقيقة الخالصة ملكك أنت وحدك!»..
الفيلسوف في المجتمع دليل على رفعة الفكر وسمو مرتبته، فهو يشير إلى كل ما هو خالد في الإنسان، ويثير تعطشنا إلى المعرفة المحض، المعرفة التي لا تهدف إلى مصلحة، أي معرفة هذه الأمور الأساسية ـ عن طبيعة الأشياء وطبيعة العقل والإنسان والله ـ التى هي أعظم وأكثر استقلالاً عن أي شيء نستطيع أن نُنتجه أو نبتكره، وكل ما نفعله تابع لها مُلحق بها، لأننا نفكر قبل أن نعمل، ولا شيء يمكن أن يحد من تفكيرنا. فقراراتنا العملية تعتمد على الموقف الذي نتخذه في المسائل التى يستطيع الفكر الإنساني أن يسألها! وعليه، تتمتع النظم الفلسفية التي ليست موجهة نحو فائدة عملية أو تطبيقية بتأثير عظيم على التاريخ [6]!
الفلسفة إن هي تنكبت لمهمتها، تُصبح فلسفة الضِرار، وينتهي بها الأمر إلى التهافت في دوجماطيقية، في معرفةٍ موضوعة في صيغ، نهائية كاملة، تنتقل من واحد إلى آخر بالتعليم! في حين أن الاشتغال بالفلسفة ـ وكما أسلفنا ـ يقتضي المُضي قُدماً في نُشدان الحقيقة! والأسئلة في الفلسفة أشد أهمية من الاجابات عليها، فكل إجابة تصبح بدورها سؤالاً جديداً! ذلكم هو معنى التفلسف!
إضعاف قيمة وأهمية نُشدان الحقيقة هو الخطر الكبير الذي يهدد أي مُجتمع. فمن جهة يعتاد أبناء المجتمع التفكير ضمن مدلولات البواعث وردود الفعل، والتكيف مع البيئة، ويسهل إخضاعهم وتسييرهم بأساليب الدعاية والتلقين، وتُراودهم في النهاية فكرة التخلى عن كل إهتمام بنشدان الحقيقة، ويقتصر إهتمامهم على النتائج العملية والتحقيق المادي للحقائق والأرقام! ومن جهة أخرى يتسيد فلاسفة الضِرار الدوائر الفكرية والأكاديمية في المجتمع، ويشيع العُقم الفلسفي، فأقصى ما يستطيعه هؤلاء هو فهم الفلسفات القائمة والتشدق بمقولاتها!
ولا غرابة في ذلك، قارئي الكريم، ففلاسفة الضِرار يلتفتون إلى ما يهتم به أبناء المجتمع أو فئة بعينها من المجتمع أو ما تهتم به الدولة، ومن ثم لا يُذكِرون المجتمع بالصفة المطلقة الصلبة للحقيقة! وكذا لا يُذكِرونه بأن الحرية هي الشرط الأساسي لاعمال الفكر. وأنها من متطلبات المصلحة العامة للمجتمع. وأنها لا تلبث أن تتداعى إذا ما سيطر الخوف على قناعة الإنسان وإذا ما أخذ الخوف يفرض رأياً أو شعاراً معيناً على العقل والقلب البشريين! يفعل فلاسفة الضِرار ذلك، وهم أدرى من غيرهم، بأن واجب الفيلسوف الحق ألا يهاب انتقاد ما يجتذب الناس من حوله، لأنه إن فعل يتحول إلى كهف مُظلم، تأوي إليه فلسفة الضِرار!
مكانة فلسفة الضِرار في الثقافة العربية:
قلت تواً إن إضعاف قيمة وأهمية نُشدان الحقيقة في مجتمع بعينه يُسفر عن هيمنة فلاسفة الضِرار على الدوائر الفكرية والأكاديمية في هذا المجتمع، ويُشيع العُقم الفلسفي في أنحائه! وهذا ـ للأسف الشديد ـ عين ما يحدث في مجتمعاتنا!
ولتسمح لي، قارئي الكريم، أن أعضد وجهة نظري، بشهادة يُعتد بها للراحل عبد الرحمن بدوي [7]، عبر فيها بنزاهة وحزم عن واقعنا الثقافي الكارثي!
كتب بدوي في سيرته الذاتية، تحت عنوان الانهيار الخلقي والعلمي في الجامعة ـ والتى يُفترض أن تكون معقل الفلسفة وحصنها المنيع! ـ، ما نصه [8]: الفزع والهلع، والجُبن والخور، والتملق والنفاق..تلك كانت الأحوال النفسية والخلقية السائدة لدى الطبقات المشتغلة بمهنة الفكر في المجتمع المصري في عهد عبد الناصر ـ يقصد جمال عبد الناصر الرمز النخبوي الشهير ـ.
وإذا كانت هذه حال المشتغلين بمهنة الفكر، فكيف يُرجى لهذا المجتمع أى نهوض؟! إن المشتغلين بالفكر هم ضمير الأمة، فإن فسد الضمير فعلى هذه الأمة العفاء. ويحار المرء في فهم هذه الحال التي سيطرت على نفوس هؤلاء المشتغلين بمهنة الفكر، وخصوصاً أساتذة الجامعات. فإن لديهم في البحث العلمي والتفوق فيه ما يُغنيهم عن التطلع إلى أى منصب إداري. ولو استقرى المرء منهم من تولوا الوزارة ـ آنذاك ـ، لكان عليه أن يرضى عن نفسه لأنه لم يتول أية وزارة.
لقد صار منصب الوزير لأي مدني مصدراً للذل والهوان، وهدفاً للتنكيل والتخلص من المسئولية وإخفاق سياسة الدولة. إن حدثت كارثة أو أزمة، سارع عبد الناصر إلى إلقاء مسئولية حدوثها على الوزير الذى تقع الكارثة أو الأزمة في دائرة اختصاصه، رغم أن المسئول الوحيد هو عبد الناصر نفسه بسياسته الخرقاء الطائشة. وما أسرع ما تنهال وسائل الإعلام لتصب الذنوب كلها على رأس هذا الوزير المسكين. وفي غمرة هذه الحملة الظالمة ينسى عامة الناس المشكلة الأصلية، ولا يعود أحد يتحدث عنها، وكأن السلعة المفقودة قد عادت فغمرت الأسواق؛ أو المرفق الفاسد قد صلحت أموره وعاد يؤدي مهمته، أو أن الأرض التى احتلها العدو قد جلا عنها وتحررت حتى صار الشعب المصري يعيش في الأوهام، ويتغذى بالأوهام، ويعالج كل أموره الفاسدة بخلق المزيد من الأوهام."!
وفي موضع آخر من سيرته الذاتية (الشائقة)، وفي السياق نفسه، كتب العملاق عبد الرحمن بدوي [9]: ..اذكر واقعة تدل على أحط درجات النفاق لدى بعض الأساتذة الجامعيين الذين يتولون الترشيح للجائزة التقديرية. كان ذلك في اجتماع للجنة الفلسفة بالمجلس الأعلى للفنون والآداب والعلوم الاجتماعية في خريف سنة 1962، وكان جمال عبد الناصر قبل ذلك ببضعة أشهر قد أصدر ما دعاه الميثاق الوطني. وإذا بذلك (الأستاذ) الجامعي يقول ونحن بصدد الترشيح لنيل الجائزة التقديرية في العلوم الاجتماعية: الأمر لا يحتاج إلى أي تفكير؛ إنه أوضح من نور الشمس؛ إن علينا أن نرشح صاحب الميثاق الوطني.
وأُحرج مقرر اللجنة د. أبو العلا عفيفي، فتوجه إلى الأعضاء يسألهم الرأي في هذا الاقتراح. وفي تأفف وحرج ظاهر قال: إن الاقتراح جدير بالنظر. وتلاه زكي نجيب محمود، فأيد الاقتراح، ولكن بفتور. كذلك فعل آخران غيره. وبقيت أنا صامتاً. فقال مقرر اللجنة: لماذا تسكت، نحن في انتظار رأيك.
فقلت في حدة: أنا مندهش من هذا الاقتراح! فكيف يتجرأ صاحب الاقتراح (د. محمد ثابت الفندي) على أن يتطاول على رئيس الجمهورية فيزج به في التنافس على هذه الجائزة؟! إن هذا تطاول على مركز رئيس الجمهورية! فأسرع صاحب الاقتراح بسحب اقتراحه، وارتاح سائر الأعضاء الجبناء لأن ردي هذا خلصهم من الورطة التى انزلقوا إليها. وبهذه الحيلة الماكرة أفسدت على صاحب الاقتراح ـ ما كان يتطلع إليه من ورائه وهو أن يُكافأ عنه بتعيينه مديراً لجامعة الاسكندرية، بعد أن استنفذ كل وسائل النفاق في سبيل ذلك دون جدوى. ولم يكن قصدي طبعاً الدفاع عن مقام رئيس الجمهورية، بل ضرب النفاق بأنجع سلاح!"!
رحم الله الصرح الشامخ والإنسان النبيل عبد الرحمن بدوي..
هل يُشكل التفلسف تهديداً للدين؟
لطالما سألت نفسي، وأنا أرى واقعنا الثقافي الكارثي وقد أحكم فلاسفة الضِرار، جنباً إلى جنب مع محترفي التبرير الديني، قبضتهم عليه: كيف يمكن للمرء أن يُفسر شيوع الأخذ بفلسفة الضِرار، وكذا تأجج العداء بين سالكي طريق الدين وسالكي طريق الفلسفة، في مجتمعاتنا العربية المتخلفة، رغم أن الثابت حتى يومنا هذا، هو أن الانسان قد حيل بينه وبين امتلاك الحقيقة على وجه اليقين بحجاب صلد ليس يمزقه ـ على الأرجح ـ سوى الموت، وأن أقصى ما يطمح إليه الإنسان في نُشدانه لهذه لحقيقة هو الوثوق بما يفضي إليه به عقله وقلبه؟!
بيد أن رؤيتي المُقترحة للفكر الأنسني لم تلبث أن هدتني إلى أن الآخر (خاصة العربي/المحلي) هو من يحرص بدأب مُستفز على إدامة التأجج المُلفت لنيران العداء، بين سالكي الطريقين، لأنه بدون هذا العداء يتهدد رسوخ الثقافة الدينية التى يُلقنها أذناب الآخر من محترفى التبرير الدينى للذات المغتربة، ومن ثم تتهدد مصالح الآخر وتنكشف ممارساته غير المشروعة! والأخطر من ذلك، هو أن توقف الذات عن معاداة الفلسفة ينال بالضرورة من قدرة الآخر على تكريس اغترابها الثقافي، إذ كيف سيتسنى له المضى قُدما فى الترويج لثقافة دينيه، يُنتجها لتخدم مصالحه على حساب مصلحة الذات، في ظل استبدال الذات البائسة العقل الفلسفي بعقلها الفقهي، واستعادتها لحقها في امتلاك ثقافة حرة ومتطورة..
الآخر إذن في كل بقعة مُغتربة هو من يُبدى حرصاً محموما على تلقين الذات ثقافة دينية، ليس للذات نقدها أو تطويرها. وعادة ما يتم التلقين بطبيعة الحال عبر تجار الآلام المتشحين بعباءة الدين. فلا يكاد يوجد آخر محلي، إلا وقد أحكم قبضته على حظٍ طيب ممن يعتبرهم مواطنوه رموزاً دينية. ونظرا لما يحيط به الآخر هؤلاء التجار ـ أقصد محترفي التبرير الديني ـ من أسباب الإجلال والتكريم، بزعم صلاحهم وتقواهم، يبيت عسيرا، إن لم يكن مستحيلا، النيل من مصداقيتهم في عيون مواطنيهم، لدرجة تجعل أية محاولة للتشكيك في تلك المصداقية من جانب الأنسنيين جريمة مخزية، يدفعون ثمنها غاليا. فغالبا ما يُغري الآخر المغتربين ـ وهذا هو المدهش ـ بهؤلاء النبلاء فيُذيقونهم الهوان أصنافاً، أو يتكفل هو بهم، وساعتها يجنى الآخر الثناء الجزيل من مواطنيه المغتربين!
وغالبا لا يكتفي الآخر المحلي بتجار الآلام، فيعمد لإحكام سيطرته على المؤسسات الدينية، في محاولة لإخضاعها أو على الأقل تحييدها. وقد تكون مؤسسة الأزهر الشريف نموذجاً للمؤسسة الدينية، التي لطالما سعى الآخر إلى إحكام قبضته عليها، رغم مكانتها الرفيعة في عيون الشعوب الإسلامية. ولا يعنيني في هذا الصدد ما إذا كانت مساعي الآخر قد نجحت أم لا، فهذا أمر يخرج عن نطاق اهتمام هذه المقالة! كل ما يعنيني هو الإشارة إلى القانون رقم 103 لسنة 1961، وهو قانون تشي مواده، المُحكمة الصياغة، لقارئها بمحاولات الآخر المصري في ستينيات القرن المنصرم إحكام قبضته على الأزهر الشريف [10].
على أية حال، فى غيبة الفلسفة وفي ظل إحجام أبناء ثقافتنا العربية الإسلامية عن الاشتغال بنشدان الحقيقة، قُضي على الإنسان العربي التيه في ظلمات الجهل والتخلف! إذ لم يجد الآخر البغيض (خاصة العربي/المحلي) صعوبة تُذكر في السطو على الدين، فوجدناه يحتكر لنفسه حق إنتاج الثقافة الدينية، بل وراح يتمترس وراءها في جرأة ووقاحة، لحماية مكاسبه الضخمة وامتيازاته الهائلة، على نحو مؤلم ومُستفز! غير عابئ بضحاياه الأبرياء الذين نجح في تكريس اغترابهم، وألقى في روعهم ـ وياللغرابة ـ أنهم بتنازلهم عن حرية عقولهم وقلوبهم ووضعها عند قدميه، يتقربون إلى الله ويشترون الجنة!!
التفلسف عموماً، أيها القاريء الكريم، لا يُشكل تهديداً للدين! وفكرنا الأنسني، بوصفه أحد أهم الفلسفات الواعدة في ربوعنا الطيبة، يسعى لتثمين جوهر الأديان، ومن ثم تخليصها من براثن الاخر البغيض، وجعلها ملاذاً آمناً للإنسان!
فلاسفة الضِرار ومحترفو التبرير الديني، غالباً ما يُشيعون بين البسطاء أن عليهم أن يختاروا بين طريق الدين وبين طريقة في الحياة لا تحرص إلا على إشباع الغرائز، والرفاهة المادية! وهنا ـ للأسف الشديد ـ يبدو سالكو طريق الدين على أنهم الوحيدون المهتمون بالروح، وأنهم المتحدثون الوحيدون عن الله وعن المثل العليا: الحب والحق والعدل! وهو ما يسيء للفلاسفة بطبيعة الحال، بوصف الفلسفة ـ إلى جانب الدين ـ أهم وأبرز الطرق المُتاحة لنُشدان الحقيقة!
الفلسفة تُشبه الدين في إمكان وصولها إلى كل إنسان، حتى الطفل، في صورة بعض الخواطر البسيطة الفعالة! غير أن إنضاج الفلسفة مهمة لا نهاية لها؛ تتجدد دون ما انقطاع؛ وتتحقق دائماً في صورة حية حاضرة. هكذا تبدو الفلسفة ـ بحسب ياسبرز ـ في اعمال كبار الفلاسفة؛ ويكون لها صداها في اعمال صغارهم. وطالما كان هنالك بشر، فلن تخمد أبداً جذوة الوعي بمهمة التفلسف!
إن فلسفة ذات أسلوب عظيم ـ بحسب ياسبرز أيضاً ـ تمثل اتساقاً متناغماً توجد منذ مئات السنين، في الشرق وفي الغرب! إنها تراث عظيم يرثه الإنسان بوفوده إلى الحياة، وإن تعدد المجهودات الفلسفية وما فيها من تناقضات وادعاءات، وهي أمور ملازمة للفلسفة، لا يمنع من أن يكون هنالك في الصميم شيء واحد لا يملكه أحد وتدور حوله في كل زمان ومكان الأبحاث الجادة..
لنسمح بالنضال من أجل الحقيقة!
ليس في وسع الفلسفة أن تُقاتل؛ وليس في وسعها أن تُبرهن على وجودها؛ ولكن في وسعها أن تنتشر فتنتقل من ذهن إلى آخر. الفلسفة لا تُقاوم إذا نُبذت ـ وتاريخ الثقافة العربية الإسلامية خير شاهد ـ، ولا تنتصر إذا ما أصغى الإنسان إليها! فهي تعيش في تلك المنطقة التى يشترك فيها الجميع. في أعماق النفس الإنسانية، لكي تربط في روعة مدهشة بين كل فرد وسائر أفراد البشر!
في وسع الفلسفة أيضاً أن تلوذ بالقوى التى تدفع كل إنسان إلى التفلسف! إنها دائماً هناك! تُدافع عن قضية مُنزهة عن الغرض؛ قضية زاهدة في كل حساب لكسب أو خسران في هذا العالم! إنها لا تُعنى ـ وياللروعة ـ إلا بالله والإنسان!
صفوة القول، انه لاغنى للانسان عن التفلسف ـ إلى جانب الدين ـ. فالفلسفة ماثلة دائماً وفي كل مكان، في صورة شعبية في الأقوال المأثورة وفي صيغ الحكمة الجارية وفي الآراء المتواتره. في التصورات السياسية، وخاصة ـ منذ بداية التاريخ ـ في الأساطير. شعوبنا لن تهرب بحال من الفلسفة؛ وكل ما عليها هو أن تعرف ما إذا كانت على وعي بالفلسفة أم لا؟! ما إذا كانت فلسفتها حقيقية أم ضِراراً؟! ما إذا كانت فلسفتها جلية واضحة أم مُبهمة غامضة؟! إن كل من يُناهض الفلسفة يُثبت بموقفه هذا ذاته ـ على غير وعي منه ـ وجودها!
لتكن خطوتنا الأولى على طريق بناء صرحنا الفلسفي، هي هدم "فلسفة الضِرار"! إنها لا تختلف كثيراً فى أذاها عن مسجد الضِرار الذى أُمر بهدمه!