الثلاثاء ١ نيسان (أبريل) ٢٠٠٨
مقهى البيزنطي لشعيب حليفي نموذجا

في حداثة الرواية المغربيّة

بقلم: رضا بن صالح

يتّسم المشهد الروائيّ المغربيّ بتنوّعه وتخالف أساليبه المراوحة بين الكلاسيكيّ والحداثيّ. بين ذاك الموغل في المحافظة والتقليد إلى حدّ الأرتودكسيّة. والآخر المتلهّف على الحداثة والتجديد حدّ الشطط. ونستطيع أن نورد في خانة التيّار الأوّل أعلاما أفذاذا شأن " عبد الكريم غلاّب" صاحب روايات عدّة منها " دفنّا الماضي، المعلّم علي، سبعة أبواب، شروخ في المرايا "، ومبارك ربيع " مؤلف روايات من بينها " الطيّبون، رفقة السلاح والقمر، الريح الشتويّة. وقد نهضت روايات هذيْن الكاتبيْن على النزعة التقليديّة الكلاسيكيّة من ناحية والتركيز على التاريخ السياسي للمغرب الأقصى.
وقد عبّر الكاتب العراقي عبد الرحمان مجيد الربيعي عن ذلك بقوله " ويلاحظ عند كلّ مْن عبد الكريم غلاّب ومبارك ربيع أنّهما يكادان أن يكونا مؤرّخَيْن للأحداث التي مرّت بوطنهما وخصوصا في فترة الاستعمار الفرنسيّ والنضال الجماهيريّ" (2). وفي مقابل هذا التيّار التقليديّ ينهض تيّار تجديديّ تجريبيّ يضمّ فيما يضمّ كتّابا لهم مكانتهم الإبداعيّة محليّا وعربيّا شأن " عبد الجبّار السحيميّ، إدريس الخوري، أحمد المديني مؤلف رواية الجنازة. محمّد شكري مؤلف رواية السوق الداخليّ ومحمّد زفزاف المعروف بكتابة الروايات القصيرة مثل " المرأة والوردة". وقد أسّس هذا الجيل الستّينيّ على غرار كتّاب الستّينات في مصر لمفهوم جديد للرواية العربيّة وأسّس بالتالي لذائقة جديدة وقارئ جديد. على أنّ هذه الريادة لم تكن نقطة وقوف أوعلامة احتكار بل استمرّ فعل الكتابة الروائيّة في المغرب مجدّدا كالتاريخ ومتجدّدا كالحياة و لهذا عرف المشهد الروائيّ أسماء حداثويّة أخرى مثل محمّد الهرّادي والميلودي شغموم وشعيب حليفي الذي رأينا أن نتناول روايته " مجازفات البيزنطي" لتدبّر معالم حداثتها وطبيعة الموقف من المتخيّل والمعيش.

  عتبات النصّ النصّ وتجلّي الحداثة :

لقد مثّلت العناوين وما شابهه واقترب منها كالإهداء والتصدير وكلّ الفواتح الموظّفة مِن قِبَلِ الكاتبِ،إلى فترة غير بعيدة، ميسما تعريفيّا وتوثيقيّا قبل أن تنطرح المسألة في المجال النظري المتعلّق بتحليل الآثار وولوج مستويات الخطاب المختلفة لتصير المقدّمات والفواتح Incipit عمدة من الأعمدة التي يقوم عليها فعل الكتابة الحديثة في مستوى الإبداع وفي مستوى القراءة والتفكيك. وفي هذا السياق يرى أندريا دالونقو" أنّ الأمر ينسحب على الإستهلالات الروائيّة. إذ كلّ بداية هي تعبير عن موقف تحت الشعور بالخوف مِن حكم القارئ الذي يجب أن نشدّ انتباهه وفتنتُهُ" (3). ومن هذا المنطلق النظري رأينا أن نلج مظاهر الحداثة في الرواية المغربيّة انطلاقا من عتبات الرواية وحواشيها.

1- العنوان الخارجيّ :

" مجازفات البيزنطي، روايات قصيرة جدّا " وهوطريف من جهتيّن لأنّه من حيث الجنس تبدوالصفة قصيرة، قصيرة جدّا لصيقة بالأقصوصة " صحيح إنّ الحدود بين الجنس الروائيّ والجنس القصصيّ تبدوأحيانا ضبابيّة ملتبسة ولكن تبقى لكلّ جنس ماهيته ومياسمه منها ضرورة الاختزال والتركيز في القصّة والتوسّع والتفصيل في مستوى الرواية ممّا ينجرّ عنه التكثيف في الأقصوصة والتمييع في الرواية. وما يهمّ القارئ هوإلغاء هذه الحدود النظريّة والبنيويّة ـ والمقصود بالبنيويّة، النموذج النظريّ الذي يحكم النصّ المنتسب إلى جنس معيّن. ونحن لا ننفي أنّ الحدود زئبقيّة بين أشكال الإبداع المختلفة وأنّها متنافذة فيما بينها لكنّ ذلك لا ينفي أنّ الضوابط الكبرى التي تحدّد الماهية والهويّة ـ بين جنسيّن سرديين هما القصّة والرواية. ونحن نرى أنّ هذا التمرّد على الفواصل هوشكل من أشكال التحرّر من سلطة النموذج السائد والنظام القائم الأمر الذي يجعلنا نشرّع نوافذ القراءة على كتابة حداثيّة. والميسم الثاني للفرادة والتمرّد هو" روايات قصيرة جدّا". وهوعنوان ثان يضعنا أمام شكل جديد من أشكال الكتابة لم نعهده في الرواية عادة، إذ الكاتب الروائيّ قد ينوّع تقنياته ويخلخل بنيتها ويعدّد أصواتها لكنّها تظلّ في النهاية رواية واحدة تضمّها دفّتا كتاب.

أمّا مع شعيب حليفي فيبدوالأمر مختلفا إذ لا يتعلّق الأمر برواية بل روايات. وليس الجديد في التوزيع المادّي للمكتوب بل كذلك في حال اللبس والإرباك التي تطول القارئ لتنبجس الأسئلة محتارة محيّرة : فهل هذه الروايات متواصلة فيما بينها ؟ أم هي منفصلة ؟ ومتى طبنا إلى الاحتمال الأوّل أي التواصل ينطرح سؤال ثان هومبرّرات الحديث عن روايات في صيغة الجمع بدل صيغة المفرد ؟ أمّا متى أراد القارئ أن يميل إلى الاقتراح الآخر أي الانفصال فنكون أمام سؤال آخر : لِمَ جمع الكاتب بين روايات منفصلة في عمل واحد ؟ ولا تقف الأسئلة عند هذا الحدّ بل تتعدّاه إلى طبيعة النصّ الجديد، فالنعت " قصيرة جدّا " يفترض وجود روايات قصيرة " ـ محمّد زفزاف من الكتّاب المعروفين بالروايات القصيرة ـ لكنّها غير واردة في عمل واحد. وإذا اعتبرنا الرواية القصيرة تجديدا وتمرّدا على الرواية في حجمها الكلاسيكيّ فإنّ " مجازفات البيزنطي " تصبح تجديدا على تجديد وبالتالي تحديثا من درجة ثانية في مجال الرواية نظيرا ما يتواتر من حديث عن الرواية الجديدة وهي تمثّل الطور الثاني من الرواية الجديدة التي ترفض حتّى الحدّ الأدنى من الوحدة السرديّة،وقد عرّفها جون ريكاردوقائلا " والطور الآخر الذي أطلق عليه عديدون، في ندوة سيريزي، عبارة الرواية الجديدة فإنّه يعرض التجميع المستحيل لمتعدّد قصصيٍّ ويفتح، بذلك، فترة مهدّمة "(4).وما ننتهي إليه ممّا سبق هوكون مجازفات البيزنطي" رواية تعلن انقطاعها عن تاريخ الرواية منذ عنوانها الخارجيّ.

2 - العناوين الداخليّة والفرعيّة :

لقد رتّبت الرواية أوالروايات مع شعيب حليفي وفق خطّة متدرّجة تنزع نحوالتفصيل والتحليل والتفتيت دون مبالغة أوتجوّز، إذ عدا العنوان الخارجيّ يجد القارئ نفسه أمام مجموعة عناوين داخليّة تنتهي هي الأخرى إلى عناوين فرعيّة. وسنحاول أن نقرأ العناوين الداخليّة والعناوين الفرعيّة.

أ- العناوين الداخليّة :
وهي كالتالي. الرواية الأولى ـ حكاية بالأبيض والأسود ـ طقس آخر. الرواية الثانية : سيرة تمهيديّة للعيساوي ـ العيساوي ـ الحجر المنسيّ ـ جمرات اللسان ـ سيرة ذاتيّة. الرواية الثالثة : أحمد العبّاوي ـ ملفّات أحمد العبّاوي. الرواية الرابعة : خمسة أخبار حول مصطفى الخمريّ ـ البحث عن الحكاية ـ حالات الكاتب مصطفى الخمريّ ـ الرواية الأخيرة.

أوّل ما يلاحظ على مستوى التوزيع الكميّ للروايات أوالفصول أوالمتون هوتفاوتها طولا وقصرا فالرواية الأولى تمسح 18 صفحة بينما تمتدّ الثانية على عدد يساوي 40 صفحة وتختزل الثالثة في 10 صفحات ويبقى للرواية الرابعة 34 صفحة، وهوما يعني أنّنا أمام حركة كتابة بالمعنى الماديّ، متكرّرة نسبيّا، حركة تخلق إيقاعا يجعلنا نقترب من عالم النوتات الموسيقيّة وقواعد التوزيع المتكرّر الجالب للإيقاع عماد الموسيقى وجوهرها وهوإيقاع لا يبقى حبيس الصفحات وعددها بل يمتدّ ليلامس عدد الأقسام الداخليّة في كلّ رواية إذ تنفتح الروايات ب قسميْن لتمتدّ القائمة في الرواية الثانية إلى أربعة أقسام ثمّ عودة إلى قسم واحد في الرواية الثالثة وثلاثة أقسام في الرواية الرابعة وهي عودة تحمل عناصر الاختلاف رغم نزوعها إلى التكرار وهومسلك يشي بأنّنا لسنا أمام فعل مطابقة كليّة .

* أمّا طبيعة العناوين المستخدمة فتحيل على أجناس من الكتابة مختلفة فثمّة" السيرة الذاتيّة" في الرواية الثانية وثمّة الحكاية من خلال " حكاية بالأبيض والأسود" في الرواية الأولى و" البحث عن الحكاية" في الرواية الرابعة، وثمّة الرواية في نهاية الرواية الرابعة " الرواية الأخيرة". وإلى ذلك نضيف استدعاء الفنّ التشكيلي والتصوير من خلال " حكاية بالأبيض والأسود الواردة في الرواية الأولى وهوتشكيليّة من جهتيّن جهة معجميّة دالّة على عالم الألوان ( الأبيض والأسود ) وجهة ثانية بصريّة تمثّلت في ورود هذه الحكاية ضمن مربّع هندسيّ ممّا يحيلنا على صورة محفوفة بإطار لنحرج في الظاه،ر من عالم السرد إلى عالم الرسم، أي مِن فنّ يعتمد اللغة طينة يقدّها وينقدّ بها إلى فنّ عماده الأشكال والأحجام ومداره الألوان ودرجاتها. وما يهمّنا في هذا المسلك في كتابة الرواية هوالقناعة بأنّنا نخرج من طور الرواية الكلاسيكيّة إلى طور الرواية الحديثة التي تنهض على فلسفة تمازج الفنون وتداخل تقنيات خطابيّة وإبداعيّة متنوّعة. أمّا الرواية الثالثة فتنزع أوهي توهمُ بالنزوع خارج دائرة الفنّ والإبداع عندما تتحدّث عن ملفّات أحمد العبّاوي ويبدوالعنوان محيلا على فضاء غير سرديّ هوأقرب إلى الواقع الإداري الرتيب في وثائقه وأرشيفه.

ب- -العناوين الفرعيّة :

 الرواية الأولى : الفصل الأوّل ـ الفصل الثاني ـ الفصل الثالث ـ الفصل الرابع: وتقنية الفصول تنتمي إلى الفنّ المسرحيّ وبذلك تنفتح روايات البيزنطي أومجازفاته على تنافذ الفنون وتماسّ فضاءات الإبداع الأمر الذي يضعنا في صميم الكتابة الروائيّة الحديثة.

  الرواية الثانية : نجد العناوين الفرعيّة التالية : المشهد الأخير ـ صورة بدون إطارـ المشهد البائد ـ معجم ـ السيّدة تقول كلامها ـ العيساوي يقول كلامه ـ عمر العيّارـ إشاعات ـ يوم الممات خير من يوم الولادة ـ يوم مرّ وأيّام أمرّ ـ محنة المشاق في اختراق الآفاق إلى أحد الأسواق ـ لا حميدة لا فلوس ـ في كلّ محنة منحة ـ حينما صرت وزيرا ـ هيئة الانصاف.

  الرواية الثالثة : ـ ذخيرة المساء ـ ليل محتمل نهار سورياليّ ـ بطولة رومنسيّة ـ آخر العبّاد ـ التقرير.

  الرواية الرابعة : ضوء السهوـ مِن قبل هذا الوقت ـ بعد عشر سنوات من ذلك التاريخ ـ البداية الأولى للحكاية ( مقتطف مِن رسالة غير مؤرّخة) ـ رؤى فارغة ـ رؤى عامرة ـ من زمن العيساوي ـ ملاحظات نهائيّة ـ جمل مخبّأة بعناية ـ تعليق ـ أبخرة الكيف ـ عين الإبرة ـ تحليل لا تأويل ـ أوّلا ـ ثانيا ـ ثالثا ـ رابعا ـ خامسا ـ نصّ المحضر ـ حبس ـ شعاعات ـ حكاية للتوضيح ـ الكلمة لي (سعيد الطالبي يأخذ الكلمة ) ـ أوّلا ـ ثانيا ـ ثالثا.

وأوّل ما يستنتجه القارئ هوجنوح هذه الرواية أوالروايات إلى كثرة العناوين الداخليّة والفرعيّة الذي قد يخلق لدى القارئ انطباعا بأنّه ليس أمام رواية كما تعوّد أن تكون الروايات. ولكنّ هذا التبرير يبدوغير كاف لأنّنا نعتقد أنّ وفرة العتبات تعود إلى نزعة التفتيت والتشتيت والتفصيل في مسعى يناقض مفهوم الحبكة التقليديّة القائمة على التلاحم والتماسك بين أجزاء الرواية ونحن لا نختلف في كون هذا الخروج يمثّل مظهرا من مظاهر الحداثة الروائيّة لا المغربيّة فحسب بل وكذلك العربيّة والعالميّة.

والملاحظة الثانية تتمثّل في مماثلة العتبات الفرعيّة للعتبات الداخليّة في الإحالة على سجلات كتابيّة مختلفة. فثمّة المعاجم بمعنى الكتابة العلميّة وثمّة التقارير بمعنى الكتابة الموضوعيّة وثمّة الرسائل والتأمّلات... ومن شأن ما سبق أن يؤكّد انفتاح " مجازفات البيزنطي" على أجناس من الكتابة مختلفة.

  التوزيع البصري للمكتوب والحداثة الروائيّة :

لقد تعوّدنا أن نقسّم الأعمال الأدبيّة، منذ الشكلانيّين الروس،الى قسميْن أحدهما الخبر وما يعنيه من عوالم مرويّة توهم بالواقعيّة أويُفترض أنّها وقعت كذلك، والخطاب بما هوطريقة في تنظيم المرويّات وترتيب الأحداث وما يصحب ذلك من تقديم وتأخير على مستوى الزمن ورؤى السارد أوالسردة.ويمكن الرجوع في هذا الباب إلى ما أورده جيرار جينات في كتابه " صور 3" وه ثنائيّة تطابق ما قصده إليه الباحث الروسي قبل ذلك توما تشفسكي بثنائيّة المبنى الحكائيّ والمتن الحكائي اللذيْن يُعرّفان بـ " المتن الحكائيّ هومجموع الأحداث المتّصلة فيما بينها والتي تكوّن مادّة أوّليّة للحكاية. أمّا المبنى الحكائيّ فهوخاصّ بنظام ظهور هذه الأحداث في الحكي ذاته" ( 5). وإن كان مختصّوالسرديّات يركّزون تحاليلهم على تقنيات الخطاب للتوصّل إلى تحديد أدبيّة الأثر فإنّنا نلاحظ في سياق تاريخيّة المعرفيّة الإنسانيّة وتطوّرها دخول عناصر جديدة في عمليّة تأليف الآثار الأدبيّة وتفكيكها ونقصد الموادّ الفاعلة في التشكيل البصريّ للمكتوب وطريقة توزيعه على بياض الصفحات من نقوش وأحجام خطّ وتنقيط وترقيم... وهوما يجعلنا ندخل مباشرة إلى مفهوم النصّ الذي يتجاوز مفهوم الخطاب ليستوعب كلّ التقنيات اللغويّة والتصويريّة والسياق الثقافي الحافّ بفعل الكتابة إضافة إلى تفاعل القارئ وتشريكه في عمليّة التأليف والتأويل واستنطاق المعاني والدلالات المختلفة والمتواصلة تاريخيّا ـ نقصد بالتاريخيّة قانون الصيرورة والتطوّر الذي يحكم مُجمل النشاطات البشريّة ـ وفي هذا الإطار يقول جيرار جينات في كتابه "عتبات " محدّدا الأثر الأدبيّ " يكمن الأثر الأدبيّ عامّة أوجوهريّا في نصّ. أي ( أدنى تحديد) في سلسلة طويلة نسبيّا من الملفوظات الشفويّة الحائزة نسبيّا على دلالة. غير أنّ هذا النصّ نادرا ما يرد عاريا مِن مَدَدِ عدد مِن عناصر الإنتاج وملازمتها وهي بذاتها قد تكون شفويّة أوغير شفويّة، مثل اسم مؤلف،عنوان، تمهيد، صور لا ندري بعد إن كان يجب أن نعتبرها من النصّ أولا. ولكنّها، في كل" حال، تطوّقه وتُمدّدهُ إن أردنا التدقيق،لتعرضه"(6).

ونعتقد أنّ الوعي الحداثيّ لدى الكاتب الروائيّ والفنّان عامّة هوالذي يدفع بالكتابة إلى الأقاصي حتّى تستثمر كلّ الموادّ أوالعناصر المنتجة للنصّ ولم يكن الكتّاب العرب ومنهم المغربيّون استثناء أوشذوذا بل نراهم قد مارسوا هذه الحداثة تحت أشكال عدّة ووفق مستويات متنوّعة مختلفة وفي هذا السياق تندرج رواية شعيب حليفي التي وظّف فيها صاحبها الكثير من تقنيات التصوير والفنون التشكيليّة عموما وقد تجلّت في :

1- تنوّع أحجام الخطّ وأنواعها :

لم يلتزم كاتب "المجازفات " منطقا واحدا أومسلكا محدّدا في تجسيد عوالمه على بياض الصفحات أوما يسمّيه سعيد يقطين بالمستوى الكرافي. وقد تجلّى لنا ذلك أوّلا في مستوى الخطّ وبطريقتيْن. الأولى تكمن في الجمع بين خطّ ذي حجم عاديّ وخطّ غليظ في مواطن عدّة [ لن نشير إلى العناوين الداخليّة والفرعيّة التي كُتبت بخطّ أغلظ وأغمق لأنّ ذلك من مألوف الكتابة عامّة] تنطلق بالرواية الثانية حيث مزج الكاتب بين حجم عاديّ وحجم غليظ والمثال على ذلك قوله " احتار والريشة في يده ثابتة، هل الحريّة هي التي تقود الشعب أم أنّ منّانة تقود النهر اقترب من بياض اللوحة المليء بمرايا التجلّي..."(ص 30). ويرد الخطّ الغليظ كذلك في الصفحة الموالية " الفنّان المنشطر بين ثورتيْن، سكب لنفسه جرعة أخيرة ممّا رأى، فبعث بالمداد الملوّن يرسم حوض القيامة.."

على أنّ المجازفات لا تكتفي بالمقاطع الكاملة خطّا غليظا بل نراه تكتفي أحيانا بالجملة أوربّما بالعبارة الواحدة مثلما هوالشأن في قسم الرواية الأخيرة ( التي هي قسم فرعيّ من الرواية الرابعة ) التي تنفتح بثلاث جُمل فعليّة بسيطة غليظة الخطّ " فتح الباب. رمى بالرواية. أغلق الباب " ( ص 105) ثمّ يعمد الكاتب إلى توزيع هذه الجمل الثلاث مفصولة حينا " فتح الباب" ( ص106) وموصولة حينا ثانيا ومحوّرة نسبيّا حينا ثالثا " لإسقاط الرواية رميا ثمّ إغلاق الباب" ( ص 106). والخطّ الغليظ يمارس تأثيرا قويّا على عين الرائي وكأنّنا بكاتب المجازفات يحاول دفعنا إلى التركيز على بعض المقاطع على حساب أخرى أوالتركيز بدرجات متفاوتة بين أقسام الرواية وعناصرها وفي الحالتيْن نكون قد انتقلنا من دلالات لغويّة ( معجميّة أوسياقيّة ) إلى دلالات صُوَريّة تشكيليّة وبذلك نخرج من عالم السرد إلى عالم الرسم وهذا تجلّ من تجلّيات الحداثة في الرواية العربيّة عموما والمغربيّة خصوصا ( لقد وجدنا هذه التقنية مستخدمة مِن قِبل رواية التبيان للتونسي محمّد فرج لحوار الصادرة في تونس 1996 وسالم حمِّيش في روايته العلاّمة الصادرة عن دار الآداب بيروت 1997 ورواية المصري جمال الغيطاني : الزيني بركات الصادرة عن دار الجنوب بتونس في 1991 ).

2- أنماط الخطّ :

أمّا المستوى الثاني لتحديث طرائق استخدام بياض الصفحات فنردّه إلى عدم التقيّد بنمط واحد مِن أنماط الخطوط إذ نجد نمطا مهيمنا على الرواية هونمط "Times NEW ROMAN" ونمط ثان هوأقرب إلى الخطوط القديمة، مثل الكوفيّة والأندلسيّة ونجد هذه التقنية موزّعة على أغلب أجزاء العمل وأقسامه فهي تطالعنا منذ التصدير للرواية الأولى" يحتاج المرء إلى استثناءات يدخل بها إلى هذا الاستثناء العظيم..."( ص 7). ويطالعنا في الصفحتيْن 30 و31 في تجسيد مقاطع من الشعر العاميّ أوالملحون " السلام عليكم يا غسّالات الصوف، وكل سْلام ليه جْوابُو، الله الله يا ذاك العود المربوطْ " وفي الورقة المكتوبة في الصفحة التاسعة والثلاثين" هل يمكن، في هذه اللحظة بالذات، بعدما ( كاجينا) معا أن أنسى كلّ الجمل والتعابير وأنسجَ كلمات جديدة أعثر عليها وسط خراب داخليّ". ونجد الخطّ ذاته في الصفحة الرابعة والسبعين والخامسة والسبعين " فاطمة لا أستطيع أن أمنع نفسي من الكتابة. فأمام بُعدك كلّ هذه السنوات ليس أمامي غير تخيّلك كما أشاء فأراك امرأة إغريقيّة بنظراتها العامرة..." وتستمرّ لعبة المخاتلة والمراوحة في الرواية الرابعة " توقّف عن الكتابة، أشعل سيجارته الأولى، ثمّ وقف يبحث عن شيء في جيوب سرواله، أخرج مغلّفا أصفر لرسالة لم يفتحها بعدُ.."( ص 85). وتنتهي الرواية أوالروايات بهذا النمط من الخطّ في كامل الصفحات الثلاث الأخيرة " التمس منك أن يكون اسم الشخصيّة الرئيسيّة في الرواية هواسمك الحقيقيّ وستكون تجربة فريدة"( ص 112).

على أنّ تحديد المظاهر ووصف التجليات ليس غاية في حدّ ذاته بل وجب أن يكون وسيلة إلى ما هومركزيّ في صنع أدبيّة الرواية وجوهريّا في تحديد مستوياتها الجماليّة وهذا يفترض أنّ عمليّة تغيير نمط الخط وحجمه إنّما تندرج في سياق جماليّ وكون سردي أوسع وأرحب وقد سبق أن رأينا أنّ المقاطع التي تغيّر حجم خطّها وأخذت بالتالي بعدا تشكيليّا قد تعلّقت بفنّ الرسم ذاته واستدعته تصريحا وتدقيقا ففي الشاهد الأوّل الذي أوردناه جاء الحديث عن " الريشة.. وبياض اللوحة " وفي المثال الثاني " الفنّان منشطر... فبعث بالمداد يرسم حوض القيامة " وبذلك يكون حليفي قد وظّف لشخصيّة الرسّام ولمعنى الرسم لغة منسجمة في معجمها وفي طريقة تدوينها وشكلها الغرافيّ. أمّا التقنية التشكيليّة الثانية ( تغيير نمط الخطّ) فإنّ القارئ يلاحظ أنّ الأمر يتعلّق دلاليّا دوما بفعل الكتابة واللغة والحكايا وهوما يعني أنّ الكاتب يحترم خصوصيات الأفراد ويميّز الكتّاب عن الآخرين في تجاربهم ورؤاهم وأشكال حضورهم في مستوى رسم العبارات.

3- التأطير :

لم يكتف الكاتب بالخطوط المتنوّعة والأحجام المتباينة ليؤكّد فعل التماهي بين السرد والرسم بل نراه يعمد إلى التقنيات هندسيّة قوامها وضع الخطاب داخل إطار مغلق رباعيّ الزوايا لتكون الوضعيّة شبيهة لطريقتنا الحضاريّة في تثبيت صورنا وصيغ المحاكاة التي تنجزها آلات التصوير الحديثة , قد وظّف الكاتب التأطير منذ الرواية الأولى حيث نجد بعض البيانات النقديّة داخل إطار في الصفحة 11 ويقول في هذا الإطار " وقائع هذا النصّ الحكائيّ حقيقة والرسالة المضمّنة فيه هي رسالة موجودة.... الحلم الوارد في النصّ، المؤلف يتحمّل مسؤوليته.. في العمق توجد حكايتان... يُباح لكلّ قارئ تأويل دلالات الرواية القصيرة جدّا انطلاقا من ثنائيّة الأبيض والأسود ". ونجد إطارا آخر في الرواية الثانية في قسم " جمرات اللسان" وفيه معجم طريف لأنّه من ناحية أشبه بالتقديم الذي يتصدّر النصوص المسرحيّة بتحديد الشخصيات وأدوارها وفي المعجم نعثر على تعريف للحكاية وبعض مصطلحات الصوفيّة. وكأنّنا بكاتب المجازفات يدرك صعوبة اقتحام روايته أويحاول إيهامنا بحقائقيّة المرويات وإيهامنا بحسن نواياه تجاه القارئ واستعداده للمساعدة في فكّ الشفرة وتيسيير التأويل. وما يهمّنا في نطاق قراءتنا للرواية هوعلاقة التناقض الناشئة بين الإطار الموضوع في الأصل بالصورة وبين محتوى الإطار ذي المادّة اللغويّة المتينة الصلة بالسرد والرواية.

4- الترقيم :

ويقوّي الكاتب الصلة بالفنّ التشكيليّ عندما يعتمد في القسم الأخير من الرواية الرابعة الأرقام لتوزيع العناصر الداخليّة. ويبدأ العدّ متسلسلا من رقم 1 إلى رقم 5 ثمّ تنعكس الآية لأنّ الرجل يختار ترتيبا جديدا للعدّ ترتيبا عكسيّا أي مِن 5 إلى 1 وبذلك تستحيل المقاطعوالفِقَرُ لوحات تحمل أرقاماوعناوين. لكن السؤال لماذا وظّف الكاتب ترتيبيْن متناقضيّن أحدهما تصاعديّوالآخر تنازليّ. ونعتقد أنّ فهم هذا المنطق في ترتيب الأشياءوالكلمات لا يجب أن نفصله عمّا ورد في الرواية الأولى من حديث عن ثنائيّات ضديّة إن شئنا تحكم وحدة الروايةوبنيتها من ذلك ثنائيّة الأبيضوالأسودوثنائيّة الخيالوالقهروثنائيّة المكانوالوجدان " في العمق توجد حكايتان متوازيتان: الأولى بالأبيض طالعة من الخيالوالثانية بالأسود طالعة من القهر " ( ص 11).... " النهر يخترق تلك المدينة الصغيرةونهر آخر كان يخترق وجدانه الممهور بالخراب"( ص 13)

وبذلك نجد أنفسنا مرّة أخرى أمام رواية يندسّ سردها ضمن إطار الرسموالفنون التشكيليّة. وهو ما يؤكّد سمتيْن أولاهما تعود إلى حرص الكاتب على المحافظة على نهج مخصوص في الكتابة شرعه منذ فاتحة الروايةوثانيتهما ترتبط بالمنطلقات الحداثيّة في الإبداع الروائي حيث تُرفض الحدودوالفواصلوالمناطق العازلة بين أشكال الفنّ المختلفة.

وقد أشار الكثيرون إلى التداخل بين الفنون في الرواية الحديثةـ لاسيّما بين الرسموالسرد ـ الذي يُعد ضربا من ضروب التمرّد على المفاهيم الأدبيّة السائدةوسعيا نحو كتابة لا تقدّم مغامرة في مستوى المرويات بقدر ما تشكّل مغامرة في مستوى الروائيوالكتابة إنّها مغامرة الكتابة لا كتابة المغامرة الأمر الذي يجوّز لنا القول إنّ رواية مجازفات البيزنطي" تندرج ضمن خانة الأدب التجريبيّ بما هو تعبير عن الحداثة الروائيّةويعبّر عن ذلك الباحث التونسي محمّد الباردي في كتابه ( وهو في الأصل أطروحة دكتوراه دولة) " الرواية العربيّةوالحداثة قائلا" يمكن أن نعتبر أنّ الأدب التجريبيّ هو كلّ أدب يجدّد في مستوى الأشكالويشكّك في عادات الإبداعوالقراءة وهو كلّ أدب يكون أول مرتكزاته رفضَه القواعد القارّةوالتنميط الأدبيّ"(7)

  حداثة الرواية وتعدّد أجناس الكتابة :

سنذكّر في البدء أنّ الرواية جنس أدبيّ عصيّ على التحديد غير نقيّ الجنس إنّه ضرب من الكتابة هجين حتّى قال عنه محمّد برّادة " هذا زمن الرواية" بمعنى الجنس الذي يقتات من الأجناس الأخرى فهو يضمّ شتات الشعروينهض على الحكايةويستدعي الأسطورةولا يجد حرجا في الاتكاء على المسرح. وِمن هذا المنطلق يصبح الحديث عن تعدّد الأجناس في الرواية أمرا بديهيّا تكوينيّا يتّصل بصميم الرواية. ومع ذلك يجب أن نعترف كذلك أنّ تعدّد الأجناس في الرواية يعتبر ضربا من الحداثةوالتجريب لا من منطلق زمنيّ يل من منطلق معرفيّ جوديّ فإميل زولا أو هونوري دي بلزاك كانت تتوارد في أعمالهما مختلف الأجناس فيسوقانهاويصوغانها وفق الحبكةوالقصّة أمّا مع الكاتب الحداثيّ فالأمر مختلف لأنّه يعي هذه الحقيقة أولاويقصدها ثانيّاويستدعيها من منطلق وجوديّوجماليّ ثالثا وهذا هو الفرق بين العالِمِ المدركوالجاهلِ العفويّ: إنّه الوعي بالظاهرة فكلّ الناس يلاحظون أنّ التفّاحة تسقط على الأرض لكنّ نيوتن هو الوحيد الذي أدرك قانون الجاذبيّة من وراء هذا السقوط. أمّا عن الأجناس التي حوتها " مجازفات البيزنطي" فهي:

1- الخبر :

الخبر جنس أدبيّ عربيّ عريق في التراثونهضت على قسم كبير منه الثقافة العربيّة الإسلاميّةويذهب الباحث الجامعيّ في تعريف الخبر مذاهب طريفة في أطروحته (8) ونجد هذا الجنس حاضرا منذ الرواية الأولى حيث تنفتح العمليّة السرديّة بـ " ثلاثة أخبار في سيرة عمر العيّار" تحاول أن تضبط للقارئ إطارا مدنيّا تعريفيّا يحدّد الهويّةو تاريخ الميلاد" اسمه الحقيقيّ سيف وِلْد لآلة فطيمة. مزدان 1968 "والخبر الثاني متعلّق بأمّ عمر العيّاروجمالها" كانت لآلة فطيمة امرأة جميلة تلبس الجلبابوتضع لثاما بلون القرنفل على وجهها "وطبيعة الظروف التي حفّت بنشأته " تربّى سيف وسط أبناء خالته وحصل على شهادة الإجازة في الاقتصاد..." ( ص 9)ويطالع القارئ في الرواية الرابعة خمسة أخبار حول مصطفى الخمريّ.وهي أخبار تسعى أو هي تحاول أن تضبط بورتريها لشخصيّة مصطفى الخمريّوتعرّف به جريا على وظيفة الخبر كما يتجلّى عبر التراث. ولسنا نعني أنّ وظيفة الخبر محصورة في التعريفوالتأطير لأنّ الخبر يؤدّي وظيفة فنيّة جماليّةويؤدّي وظيفة مرجعيّة بمعنى تأسيس تماسّ بين المعيش التاريخيّوالمكتوب مانحا هذا الأخير مصداقيّة أكثروبالتالي سلطة على السامعينوحجّة على القرّاء. وما يعنينا من وراء هذا الجنس المُستدعى في " مجازفات البيزنطي" أنّه ينزّل الرواية ضمن فضاء حداثيّ من جهتيْن جهة أولى تعود إلى توظيف التراث في صياغة أشكال سرديّة جديدة ممّا يعني " فتْحَ باب المغامرة على مصراعيْهوابتكار عناصر سرديّة جديدة عن طريق الاستفادة من التراث العربيّ الإسلاميّ"( 9).

أمّا الجهة الثانية من الحداثة الروائيّة فتكمن في التحوير أو العدول بلغة نقّاد الشعر عمّا ترسّخ لدينا عن الأخبارووظائفها إذ نجدها في رواية حليفي ضربا من ضروب التقريب أو هي مفتاح يتيح للقارئ التعامل مع الروايةوولوج عوالمها السرديّةوالدلاليّة أو لعلّنا لا نجوز إلى الشطط لو قلنا إنّ الخبر يمثّل تلخيصا أو مختزلا لِما سيرد بعده من سردوتفصيل ففي الخبر ورد ما يلي" قصير القامة، يلبس على الدوام ترواكارا أزرقويحمل وجها لا يعبّر عن شيء مثل صمته الممتدّ الذي يغطّي زمنه "( ص 81)ونقرأ في باقي الفصل أنّ الرجل قد قبض عليه شرطيّوظلّ ينتظر جوابا عن أسئلتهوبعد ثلاث ساعات من الصمت أطلق سراحه" قبض عليّ شرطيّ إثر عراك شيطانيّ... فبقيتُ صامتا أسدّ عيون الضيم التي كانت تتفجّر حارّة مِن عيني... أطلق الشرطيّ سراحي بعد ثلاث ساعات مِن الاعتقال...."( ص 85)

وفي الخبر الخامس حديث عن علاقة الكاتب مصطفى الخمري بأصدقائهومصادر حكاياته " يحسّ بعطف كبير نحوهمويعيش معهم على تدخين الكيف بشراهةوالاستماع إلى حكاياتهم القديمة ثمّ تطالعنا مصادر الحكايات مع التفاصيل والجزئياتوالتواريخ" توقّف الشيخ الأعمى حتّى يسترجع أنفاسه للحكي من جديد.... تروي تواريخ الأمازيغ القديمة عن يوبا الأوّل المنتحر سنة 46 ق. م. عَقِبَ انتصار جيوش القيصر شمال إفريقيا...غيّر العيساوي مِنْ سِيَرِ سهْوِه. عانى الكثير من أجل الهبوط إلى الأعماق دونما التفات فكلّ انجذابه إلى الخلف هو احتراق للذاكرةوالكلام..."(ص 88 ـ 89 ) وبذلك تتأسّس علاقة متينة بين الخبر المجملوالسرد اللاحق المفصّلوننتقل من توثيق يوهم بالحقائقيّةوالواقعيّة إلى خطاب تخييليّ يغوص في أعماق الذات ليصوّر المأساة التي تعيشها الذوات في واقع تحكمه حكايا القهروالتسلّطوالقمع.

2- تلاشي السرد في الشعر :

مثلما أسلفنا القول يحاول الكاتب أن يوهمنا من خلال الأخباروالمخبرينوالسردوالسردة المختلفين بأنّ مجازفاته خالصة للسرد ذائبة فيه أحداثاوأحاديث. غير أنّ الأطر الزمكانيّةوالشخصيّاتوالفواتح السرديّة لا تحول دون وقوفنا على المياسم الشعريّة التي تسم " مجازفات البيزنطي" في كلّ أقسامهاوفصولهاوأجزائها. ولسنا نقصد بالشعر ما يذهب إلى تعريفه القدامى تعريفا ميكانيكيّا تقنيّا أساسه ترتيب مخصوص للحروفوخضوع لأوزان محدّدة سلفا والتزام آليّ بالقافية وإن كنّا لا نعدم حضور الشعر في صيغته العموديّة التقليديّة كما هو حال الرواية الرابعة المصدّرة ببيت شعريّ" قالَتْ لِي النفْسُ: أَتَاكَ الرَّدَى * وأَنْتَ في بَحْرِ الخَطَايَا مُقِيمُ"( ص 79) أو ما ورد في الرواية الثانية مِن شعرٍ ملحون (10). لكن الشعر في معناه الحديث ينقل الكلمات مِن كونها مسلكا إلى الدلالات إلى كونها مطيّة للوجود وجود ذاتها أوّلاووجود العالم والذات ثانياوفي هذا السياق يرى جوفري هارتمان في كتاب دلائليّة الشعر أنّ " الشعريّة المعاصرة تضع مبدأ كون العبارات ليس دلالة فحسب: القصيدة لا يجب أن تعنيَولكن أن تكونَ " (11). ومثل هذا الشعريّة لا يمكن أن تتحقّق خارج عالم الاستعارة من ناحيةوبعيدا عن إعادة تشكيل العالموخلقهونحن نعلم أنّ عبارة بويزيس اليونانيّة تعني الخلقوالإنشاء أصلا. ونعتقد أنّ الشعر يجري مادام الكاتب أو الفنّان يجري اللغة لا ليماثل بين العبارةوالمرجع بل لينشئ صيغة جديدة أو شكلا جديدا من الوجودوالموجود.

وفي هذا الإطار تواجهنا ونحن نرتاد رواية " مجازفات البيزنطي" مقاطع شعريّةوصور ترسم الذاتوحلميّتها بقطع النظر عن طبيعة هذه الحُلُميّة إيجابيّة أم سلبيّة وهي شعريّة غير محدّدة بموضوع أو تيمة بل نراها تلامس المكانوالزمانوالذات من ذلك ما ورد في الرواية الأولى من وصف لزمانومكان محدّديْن " ديسمبر ورقة تحمل من الندى ما يكفي كلّ هذه الليالي الشحيحة، مِن الندىوالعرقِ؟؟مِن دماء الدهشةوأشعّة السهو المجيد كالشمس في شوارع الشاوية المرصوفة بالضبابوتلوينات من كلمات الشيخ العسّاس الزرقاء.." ( ص 19) يتّخذ الزمن ( ديسمبر) شكلا جديداوصيغة مغايرة بسبب علاقة التفاعل التي تتمّ داخل الخطاب بين الموضوع ( الشهر)والصفات ( الندى، الشحّة، الدهشة..) والمكان ( شوارع الشاويّة) لم يعدْ مبنيّا من الحجارة أو الإسفلت بل نراه يتأسس من صخور الضبابوأوهام أو ألوان الشيخ العسّاس... ومن شأن الشعر أن يسمح للذات بأن تساهم في بناء العالموخلقه وفق تلاوين الذات التي مثّل الشيخ العسّاس في الرواية الأولى.ولكنّه يسمح كذلك بتحديد علاقة الشخصيات بقاعدة المماثلة مع الموجودات في المرجع لنستعيد الثنائيّة الضدّيّة بين الشعريّ والتماثليّ وما يلفت في هذا الشاهد هو رفض الذات للمكانونفورها من الواقعوعدم رضاها عنه لأنّ هذا الوجود يهمّش الذواتويقصيهاولأنّ هذا الواقع يقهر الذوات كما جاء في الرواية الأولى" في العمق توجد حكايتان تبدوان متوازيتيْن: الأولى بالأبيض طالعة من الخيالوالثانية بالأسود طالعة من القهر"( ص 11).

ومن شأن هذا الشعر المصوّر للذات المقهورة أن يتماهى بالرواية من جهة الغاية والمنطلقات وأن يعود فيما يعود إلى دورها ـ أي الرواية ـ في منح الذات المهمّشة حقّ التعبير عن موقفها وعن وجودها وحقّ الاعتراض على إيديولوجيا التهميش البرجوازيّة. وهو دور شائع منذ رواية دون كيشوت لسرفانتس التي ترى أنّ " الرواية هي مكان عام ، إنّها مكان اللقاء الخاصّ بالمدينة، الساحة المركزيّة المنتدى المتعدّد، السكار إ العموميّ الذي يوجد فيه لكلّ واحد حقُّ أن يُسمعَ إليه حيث لا أحدَ يحتكرُ الحقّ في الكلام " (12). على أنّ هذه المياسم الشعريّة بقدر ما تعبّر عن رفض الإقصاءوالتهميش، بقدر ما تُضفي بعدا مأساويّا على الذات التي تعيش القهر ويدفع القارئ إلى التعاطف معها ومع ذاته لكنّنا لا يجب أن ننسى أنّ هذه الشعريّة ـ وإن كانت وقفة في وتيرة السرد ـ فإنّها في الآن ذاته تُبقي الأمل مُشْرعا أمام الذوات في تشكيل العالم حسب رغبتهاوحسب إرادتها.وإلى هذه الوظيفة يعود الشعر مع الرواية الثانية ليصوّر أعماق العيساويوما يمور داخلها من مشاعروأحاسيس " لمْ تعدْ له غير ذاكرته، وحدها تمنحه فرصة استعادة حياته قبل أن يتعب مِن زمنه المكرور، فينزع الكلمات مِن أوكارها القديمة... يجلس فوق حجر منسيّ " ( ص 37). وفي السياق ذاته " بدوري لم أعدْ ألتفتُ إلاّ للطفل فينا وأنتَ ؟ أبحث عن تلك الحجارة الوحيدة، ذخيرتنا وعن الملائكة التي تدوّن أسفارنا بدون تأويل"( ص 45).

والطفولة أسّ شعريّ وجوديّ لأنّها البداية الأولى التي تسمح بالعودة إلى الزمن الذهبي والجنّة المفقودة على حدّ عبارة الأنتروبولوجي مرسيا إلياد. والناظر في هذه المقاطع الشواهد يدرك أنّ استدعاء الملائكة يصبّ في حقل الدلالة النشكونيّة دلالة البداية حيث كان العالم فردوساوكان الإنسان طفلا وهذا الجمع بين الطفل والشعر والفردوس كما تشكّله الصورة الشعريّة يبدو منطقيّا وبالتالي مبرّرا لأنّ الشاعروالطفل ـ وحدهما ـ يحلمان ويقدّان العبارة والكون على هواهما ولأنّهما لم يتلوّثا بعد بسلطة المرجع وسلطة اللوغوس.وبذلك يكون الشعر مثلما أسلفنا حلما بإمكانيّة البدء مجدّدا والحلم يكون معبرا إلى تغيير الواقع المضاد للأحلام والوائد لها خصوصا في مجتمع برجوازيّ تحكمه البضاعة وتسوسه التجارة ويقوده الغباء والسطحيّة. فلابدّ من الشعر لتحقيق فائض المعنى مبرّر الوجود والفنّ..

ويستطيع القارئ أن يستمرّ في لعبة الوقوف عند السياقات الشعريّة المبثوثة في كلّ زاوية من زوايا الرواية أو الروايات الأربع. ولكن الغاية تبقى دوما في البحث عن المبرّرات التي تشرّع هذا النهج في الكتابة والتي تسند تلك الطريقة في الإبداع. ونحن نعتقد أنّ الشعر في رواية " مجازفات البيزنطي" لم يكن حليةً تزيّن السردولم يكن تمرينا لغويّا يكشف عن حذق الكاتبوقدرة المؤلف، بل مردّ الأمر فيما نزعم عائد إلى وجهة نظرـ قد لا تختلف مع الآخرين ـ ترى أنّ الحكاية لا تستطيع أن تقوم دون البحث عن البداياتوالبدايات لا تكون خارج دائرة الطفولةوالبكارة والحلم وهي كلّها حطب الحكايا وعناصر الرواية وقد كشفت المجازفات عن هكذا حقيقة عندما جاء فيها " كلّ البدايات بدلالاتها المتقطّعة هي حطب للحكاية المفتقدة وإلهام للبحث عن الكلام الأوّل الذي سرقنا مِن سهونا وحَصَنَنَا من الضجيج "( ص 92).

3- السيرة الذاتية : تسعى الرواية المغربيّة والعربيّة عموما إلى التخلّص من جلدها السرديّ كما الحيّة أو هي تحاول الإيقاع بنا ومخاتلتنا لنبحث عنها في غيرها من أفانين الخطاب وأجناس القول . فبعدما التبست بالخبر والشعر نراها تروم التستّر وراء جنس حديث الظهور في عالم الأدب ونقصد السيرة الذاتيّة التي ظهرت في الثقافة الغربيّة بعد ظهور الرواية ـ رغم أنّ البعض شرقا وغربا يرى أنّ الرواية جنس قديم موجود منذ البداية الأولى للبشريّة فهذا ميخائيل باختين يتحدّث عن الرواية الإغريقيّة مثلا في كتابة " الجماليّة ونظريّة الرواية " (13) وهذا جمال الغيطاني يتحدّث عن المقامات والأخبار باعتبارها صيغا روائيّة ـ في العصر الحديث. ومثل هذا التعاقب بين الرواية والسيرة الذاتيّة هو الذي أوجد تنافذا بين الجنسيْن وتماثلا في مستويات عدّة وتداخلا أحدث التباسا في أحيان كثيرة. وجعل كلّ جنس منهما يقتات من الآخر إلى درجة الهجانة وظهور أجناس وسيطة بين الرواية والسيرة الذاتيّة شأن رواية السيرة الذاتيّة والسيرة الذاتيّة الروائيّة .

وتجد القارئ في رواية " مجازفات البيزنطي" الكثير من عناصرالسيرة الذاتيّة أو الأجناس القريبة منها كاليوميات والمذكّرات . وتتجلّى السيرة الذاتيّة من تلك الفواتح المتعلّقة بالشخصيات من حيث الطفولة وتواريخ الميلاد وأهمّ الخصائص الجسديّة والنفسيّة والاجتماعية التي تسمها " اسمه الحقيقيّ سيف ولْد لآلة فطيمة مزداد سنة 1968 وهو ابن ملتبس النسب.... كان ذلك بالضبط في بدايات صيف 1967 وحينما أرسلت طفلا صغيرا يُدعى عمر العيّار..."(ص 9)وكذلك شأن العيساوي الذي " وُلِد حواليْ 1913 قبيل الحرب العالميّة الأولى وتركه والده دون أن يراه... فتربّى عند خالته...لم يتأخّر فعاد وظلّ لسنتيْن تائها قبل أن يلتحق سنة 1969 جنديّا ضمن الجيش المغربي باسم علاّل العسّاس"( ص 27). وتصرّح الشخصيّة بأنّ كلّ حياتها مدوّن من الطفولة إلى الكهولة " دوّنوا كلّ كلامي الذي قالوه بالنيابة عنّي مع الديباجة المفصّلة عن حياتي. كتبوا أنّي كنتُ طفلا وتوصّلوا إلى أنّي صرتُ شابّا يافعا تستقيم العبارات في فمهوأنّي أركب القطار وأصل مرّاكش محمّلا بتهمة في هيأة امرأة"( ص 22). ونجد في الرواية إشارات كثيرة إلى الحروب التي خاضها العرب ضدّ إسرائيل " وكان ذلك في صيف هزيمة العرب أمام إسرائيل"( ص 52) وهو ما يتطابق مع تاريخ ذهاب عمر العيّار إلى الجامع في بدايات صيف 1967. وفي السياق ذاته نشير إلى أحمد العبّاوي الذي أصبح مخبرا " ليكتشف عبث الحياة برمّتها، بعد ذلك، فيتحوّل إلى روائيّ يختلق تاريخا كاملا لمرحلة سقطت في براثن الكذب"(ص 67).

فهذه العناصر المتعلّقة بجنس السيرة الذاتيّة مضافا إليه محاولات الكاتب المتكرّرة لإقناع القارئ بحقائقيّة العوالم المرويّةواستثمار الكثير من الموادّ الخارجة عن التخييلوالمتعلّقة بالمرجعيّة التاريخيّة مثل خضوع المغرب للاستعمار الفرنسيواحتلال العراقوفلسطين، تؤكّد كلّها الطابع السيرذاتيّ للكثير من الفصولوالأقسام.

والرواية إلى كلّ ذلك تمدّنا بجملة محدّدات سرديّة وصيغ خِطابيّة تؤكّد الوشائج المتينة بين الرواية والسيرة الذاتيّة في تجربة شعيب حليفي منها السيرة التمهيديّة للعيساوي في بداية الرواية الثانية العيساوي الذي ظلّ ينتظر أن تفتح الحكومة المغربية أمامه باب التطوّع للمقاومة في فلسطين والعراق حتّى يئس منهاومن التلفزة " لم يعد ينظر إلى التلفزة وبدأ يحكي حكايات هوأخبار سلالته وخصوصا والد العيساوي الأبوجدّه العيساوي الكبير " ( ص 28). ثمّ يردف الكاتب السيرة التمهيديّة بسيرة ذاتيّة ـ عنوانا لقسم من الرواية الثانية ـ مذيّلة بشبه عنوان قريب من اليوميات " يوم الممات خير من يوم الولادة "ويفتتح هذا القسم بالجملة التالية" نزلتُ ساخنا ملفوفا في ماء دبِقٍ. فتحتُ عينيّ فتحرّكت أذنيّ بدون إرادتي هممتُ بالنهوض فسقطتُ لأنّ رجلاي لم تتعوّدا هذه الحركة في ذلك الرحم الواسع والضيّق والآمن"(ص 53) ونجد بعد ذلك في الصفحة الموالية قسما فرعيّا " يوم مرّ وأيّام أمرّ" (ص 54).

 الخاتمة:

تنبني لعبة السرد في رواية مجازفات البيزنطي على الإيهام بغير الموجود ودفع القارئ إلى السفر بين عالميْن متوازييْن أحدهما يشدّه إلى المعيش والمرجع والواقع والآخر يجنح صوب الفانتازيا ومن هذه الثنائيّة نشأت جملة ضديّات تحكم الروايات منها الفصل (أربع روايات ) والوصل ( الوشائج كثيرة بين شخصيات الروايات وأمكنتها وأزمنتها حتّى جاز القول إنّ الأمر لا يتعلّق بشخصيات متعدّدة بل بجيل واحد من زوايا متعدّدة. وإلى ذلك ناست الرواية بين التخييل والتسجيل وراوحت بين فضاءات الإبداع وفضاءات التوثيق والتأريخ. ومنها ـ أي الثنائيات الضديّة ـ صنعت الرواية شعريّتها القائمة على علاقة موتورة ومتوتّرة.ولقد استدعت" مجازفات البزنطي" العديد من أجناس الكتابة وأنواع الفنون وإن كنّا أشرنا إلى الخبروالسيرة والشعر فإنّنا لا ننفي وجود صيغ أخرى كالتقارير والمحاضروالخواطر أو ما تسمّت في الرواية بالتأملات والرؤى الفارغة حينا والعامرة أغلب الأحيان ونعتقد أنّ لعبة الأجناس الأدبيّة جديرة بدراسة مستفيضة تتجاوز مقامنا هذا. على أنّ ما يهمّنا هو قدرة الكاتب على التأليف بين المتناقضات واقتداره على نسج الحكاي اوتناسلها بعيدا عن التكلّف والحذلقة والإدّعاء بغير الموجود ونستطيع القول إنّ رواية " مجازفات البيزنطي" قد تمكّنت من الجمع بين التصوّر الجماليّ الحداثيّ والموقف التاريخيّ الذي يجب أن يلتزم به المؤلف خصوصا عندما نرى عشرات الروايات العربيّة المحنّطة لأنّ أصحابها يتوهّمون أنّ الحداثة صنعة لغويّة والحال أنّها حرفيّة لن تتأتّى لنا إلاّ متى قرنّا الجميل بالنافع واعتبرنا الكتابة فعلا تاريخيّا والتزاما اجتماعيّا قبل أن تكون ترفا فكريّا واستجابة لرغبات ذاتيّة أقلّها الشعور بالنرجسيّة.

ــــــــــــــــــــــــــ

(2) الربيعي عبد الرحمان مجيد: كتابات مسماريّة على جداريّة مغربيّة. دار الثقافة. الدار البيضاء. ط 1. 2004. ص 29.
(3) Andrea Del Lungo. Pour une poétique de l’incipit. Poétique.n 94. avril 1993. Seuil. p. 131
(4) Jean Ricardou ; Le Nouveau Roman. Editions Du Seuil.1990. P 152.
(5) نظريّة المنهج الشكلي": نصوص الشكلانيّين الروس. ترجمة ابراهيم الخطيب. الشركة المغاربيّة للناشرين المتّحدين. ط. 1. 1983. ص. 179
(6) Gérard Genette.SEUILS. Editions du Seuil 2002. p. 7.
(7) الباردي محمّد: الرواية العربيّة والحداثة. دار الحوار للنشر والتوزيع. ط. 2. 2002. ص. 72.
(8) القاضي محمّد: الخبر في الأدب العربي .
(9) الباردي محمّد. م. س. ص. 73.
(10) أنظر مثلا الصفحات: 30 ـ 31 ـ 32
(11) Geoffrey Hartman: Sémantique de la poésie. Editions Du Seuil 1979 p 153.
(12) كارلوس فوينتيس: في مدح الرواية: انتصار التصوير النقديّ. ت. حمّوبوشخّار. كتابات معاصرة. عدد 63.مجلّد 16، آذار ـ نيسان. 2007. ص. 7.

بقلم: رضا بن صالح

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى