في حوار مع الشاعرة ندى الحاج
مسحورة هي بالحب، هذا الإكسير الذي يختزن سر الحياة كل الحياة وينير ليالي الأقمار السوداء، ويبعث جميع من في القبور، ويتردد في كل صوت، ويظهر في كل ظل، ويحول الصحراء عالماً نورانياً فيه سفر الحب برؤية تستمد إلهامها من الأرض من الأجيال المتعاقبة التي تجعل من الأعمار سلسلة متداخلة تؤلف لوحة الزمان اللامتناهية.
غابة الضوء عنوان ديواني الأخير، تقول الشاعرة ندى الحاج، هو صورة أخرى للإنسان الذي يشبه الغابة في حالات وجعه، ومعاناته، وعواطفه، وأحاسيسه النابضة. ويتوق دائماً الى التسامي نحو الضوء المتجلي من خلال التطهر بالألم والمعاناة.
إن الضوء والغابة هما بنظري من أبرز عناصر الطبيعة التي هي ينبوع التعبير الرئيسي في دواويني، فأنا استلهم الصور الشعرية مما تسبغ علي من إبداعات جمالية، ومما أسبغ عليها من نبض إنساني. ولا شك في أن هذه الغابة المتداخلة والمتعرجة، إنما هي عمق روحي ونفسي وعالمي الداخلي الذي قطعته بحثاً عن الضوء ووجدته في الحب الشمولي الذي يفلق كل لحظة من الحياة. وفي الشفافية والإيجابية في محاولة اكتشاف الذات والآخرين بعيداً عن البؤس واليأس والعدمية والعبثية.
وفي جديد الشاعرة ندى الحاج بوح لكل ما يتفاعل في نفسها من حب وصدق وحرية فاتحة ذراعيها للقريب العاجل، للمجهول الخفي، للمتسلل في مسام النشوة، إضافة الى كونه يرسم عمراً من دهش الشفق وفي عين إله يحنو ويغفر.
"أنا أتوق دائماً الى التفلت من كل القيود التي تشمل القيود الجسدية، والاجتماعية، والجغرافية المتعلقة بالزمان والمكان. لا أخشى أبداً البوح، لأن لدي قناعة تامة بأن التحرر يستطيع أن يلمس الجوهر الذي يختصر بثلاث: الحب والحرية والصدق.
وإذ كنت لا أخشى البوح إلا أنني اعتبر أن للقيم خلفية تتخطى المحسوس الى المثالية. لذلك أركز في كتاباتي دائماً على الثنائية بين المنظور وبين اللامنظور، بين الواقعية وبين الحلم، بين الإنسان وبين الله، بين الأرض وبين السماء، فمنذ أن خط قلمي القصيدة الأولى ولغاية القصيدة الأخيرة في ديواني الجديد، لم يتغير البوح عندي، إنما طورت نظرتي، من خلال تجاربي ومعاناتي، مفهومي للحرية والصدق والحق، وهي قيم أؤمن بها، وأعتبرها جزءاً لا يتجزأ من حياتي ومن شخصيتي".
ولأن الشاعرة تعيش عالماً خاصاً رسمت حدوده في دواوينها، فإنها أبدعت علاقة خاصة مع الخالق نبع الحياة ومحور الغفران والحنان، ومدت له بديلها عبر الأفق. ليلمسهما وليدرك مدى قدرتها على الحب.
"إن الله كما أفهمه هو المطلق الذي يسعى الإنسان دائماً الوصول إليه، من دون أن يعلم أنه موجود في داخل كل فرد، وأن الطريقة الوحيدة للمسه هي التطهر والحب. لذلك، بقدر ما نقترب من الحب ومن الشفافية، نقترب من الله، ونلمس تواضعه وحبه المطلق، إنه يهمس دائماً في آذاننا، يشعل ناراً في قلوبنا دائمة التوهج، يحيطنا بملكوته السرمدي الأبدي المتفلت من لعبة العمر ومن هزات الرياح وبؤس الزمان، والمنطلق أبداً الى شفافية الحب وسمو العاطفة. وأنا أرى الله وألمسه بقلبي في قرص الشمس، في ماء الصلاة ونشوة الوجود، في بحيرة الأرق وشبق الأحلام، في صدق الجنون وكسرة الأمل، ومع تقدمي في رحلة العمر وفي سماء الحب، أدركت أن الله فيّ، إني في فضائه يوم أمسكت يدي
كشفتني لذاتي
غرفت من عيني
وأمطرت أكوان لتختفي أخرى
وتوق الشاعرة ندى الحاج الى الحب والى التسامي يجعلها أقرب الى شعراء التصوف "أنا أحب شعر الصوفيين لأنه يسعى الى الاتحاد بالله، إلا أنني أختلف عنهم، في كوني أكتب انفعالاتي وأحاسيسي كما أعيشها، أي أنني أكتب حالاً إنسانية وجودية، في حين أن التصوف هو نتيجة تأثير ثقافي معين".
تركز الشاعرة في ديوانها، الى جانب عنصر الضوء الطاغي على معظم القصائد، على عنصر الماء الذي تعتبره توأم الحياة والحب دائم التجدد:
"بين الماء والحب علاقة مميزة، كلاهما لا يمكن حصره كلاهما لا يمكن تحديده بالمادة.
إن الحب، على غرار الماء، يمتاز بالشفافية التي تخترق عمق الذات الإنسانية، ينعش القلب والأحاسيس ويضفي الحياة على الروح وعلى القلب".
ومن هنا، تضيف، "أحرص على استعمال الماء كوسيلة تعبير في ديواني عن مكنونات نفسي، وعن توقي الى رؤية الإنسان يشبه الماء بتدفق العاطفة والشفافية، وبحلمه وطموحه الى الحب والسلام.
على غرار لوحة غلاف الكتاب بريشة اللبناني عادل قديح التي على الرغم من تجريديتها، تبين بوضوح تدفق النور والضوء شلالات الى قلب الإنسان، تحرص الشاعرة ندى الحاج على استعمال الأسلوب التجريدي المتحرر من عناصر المادة والمتفلت في المدى الكوني الواسع باحثاً عن الضوء ومكتشفاً مكامن الحب والحقيقة.
"أنا أحرص على أن تكون قصيدة مختصرة الكلام، لأنها تشبه شطحات الضوء الموجودة في اللوحة في الغلاف، وقطف الحالة العاطفية والتناقضات في أعماق الروح والنفس، بأقل كلام ممكن، وأكثر كثافة بالمعنى. إنني أعتمد الأسلوب الخاطف الذي يشبه الحالة التي أكون فيها عندما أكتب قصائدي، والذي يرافق المضمون بكل أبعاده الفلسفية أحياناً والعاطفية الشفافة أحياناً أخرى.
وكل قصيدة تفرض علي الشكل والأسلوب، لذلك، تمتاز كل واحدة بخصوصية معينة وبفرادة تجعلها لا تشبه غيرها، وتتجانس في شكل أساسي مع المضمون لتؤلف معه عالماً خاصاً لا يشبه أي عالم آخر في أي قصيدة أخرى".
وتضيف: أنا لا أحبذ الأسلوب المباشر في الشعر. فالشعر يأتي من الشعور، لذلك عليه أن يحافظ على حميمية هذا الشعور وعلى تغليفه دائماً بهالة من السرية المتشحة بوشاح يشكل في رأيي الحد الفاصل بين الحلم وبين الحقيقة.
ولدى الشاعرة بوح ينساب ببساطة وشفافية تماماً كالشلال ليعبر بجرأة لطيفة نابعة من شخصية ندى الحاج عن الظلم وعن المعاناة وعن حالات الحب التي تصل عندها الى مرحلة العطاء اللامحدود. كذلك عن الثورة التي تملأ قلب الشاعرة كونها امرأة شرقية تمنعها القيود المجتمعية أحياناً من الانطلاق على الرغم من مقاومتها لها وتحررها منها الى حد بعيد:
"أنا أعبر عن كل ما يجول في نفسي وأبوح بكل عواطفي من دون أي مشكلة وأي تعقيد وأي خوف من المجتمع، وذلك عائد الى تربيتي. فوالدي الشاعر أنسي الحاج أضفى على العائلة جواً من الصدق في العلاقة بين أفرادها. وعاش طول عمره ولا يزال ينادي بالحرية، ويكتب عنها، ولا شك في أن التجانس الذي لقيته بين حياة والدي اليومية وبين شعره، أعطاني القوة والجرأة للبوح بحقيقة مشاعري من دون خوف، متسلحة بمدرسة وادي في الشعر وفي الحياة التي أؤمن بها وأحبها".
وتضيف: (دفعني التحرر من القيود المجتمعية الى تكريس كل طاقاتي الشعرية لخدمة الجوهر في الحياة وفي الإنسان ولاكتشاف الضوء الداخلي الذي يزخر به قلب كل إنسان وتنبض به الطبيعة من حولي).
– ندى الحاج ابنة الشاعر أنسي الحاج، الى أي مدى تأثرت بوالدها والى أي مدى يوجه هو كتاباتها؟
جوابها يأتي واضحاً: "يحرص والدي تماماً على عدم التدخل في كتاباتي إلا عندما أطلب منه رأيه في قصيدة كتبتها، عندها يعطيني رأيه بإيجاز كلي، ويقوم عملي كناقد. في هذا المجال فقط استفدت منه من أجل التقدم. بما أنه لا يعبر كثيراً عن مكنونات قلبه وعن مختلف الأمور حوله، وبما أنني أضطر في كثير من الأحيان الى سحب الكلمات منه، لذلك أقول أن شخصيتي الشعرية مستقلة تماماً عن شخصية والدي الشعرية".
إضافة الى الوالد الشاعر، تزوجت ندى الحاج المخرج السينمائي اللبناني جوزف بونصار، الذي يقدس الإبداع ويعتبر الكلمة ملكة احتفل بها على مدى سنوات بطقوسية مميزة على خشبة "المسرح" البلدي، الذي أسسه خلال سنوات الحرب. فكان واحة أمان وسلام في أمن الوحشية والمدفع: "على الرغم من أن جوزف، تقول، يغوص في أعماق الكلمات والصورة الشعرية ويمسرحهما، إلا أنه يحترم مساحة الشاعرة عندي، لذلك يحرص دائماً على إعطاء رأيه في قصائدي عندما أطلب منه من دون أن يتدخل في المضمون. وهنا أشير الى مدى تقديري الكبير له، لأنه يقدر قيمة القصيدة ويقرأ بعين الناقد المتجرد. وعلى الرغم من أن ديواني الأخير يحتوي قصائد جريئة إلا أن زوجي يقرأها دائماً بعيداً عن المنظار الشخصي ويركز على تجربتها الفنية والإبداعية. من هنا، أختصر كثيراً طريق معاناتي المجتمعية، ووفر لي الأجواء الملائمة للإبداع الحر البعيد عن أي تأثر أو أي قيود، فانعكس كل ذلك على شعري الذي أصبح أكثر عمقاً مع الوقت يحمل أبعاداً فلسفية تابعة من عمق التجارب والحالات الإنسانية".
ندى الحاج، الابنة، عاشت مع والد شاعر، أبدع وأحدث ثورة في اللغة. فكانت له بصماته الإبداعية والتحولية في النصف الثاني من القرن العشرين ولا يزال الى اليوم أحد أبرز رواد مدرسة الشعر الحديث ليس في لبنان فحسب إنما في العالم العربي. "أنا معجبة جداً بوالدي، تقول، لأنه اخترع لغة لا تشبه أحداً سواء في الماضي أو في الحاضر. لغة متفجرة من الداخل ومن الخارج، مشعة، متوهجة، تشبه شخصيته وطبعه وروحه يغلفها الصدق والشفافية وعمق التجربة، والتمايز. إن هذه الصفات كلها الموجودة عند والدي، أحاول أن أجمعها بدوري في قصائدي".
وتضيف: "أنا متأثرة بوالدي من ناحية القيم الجمالية والإبداعية التي آمن بها ومارسها وكتبها طيلة حياته، إلا أنني أحاول عدم قراءة كتبه كثيراً خوفاً من التأثر بها باللاوعي عندي وترديدها في قصائدي. وهنا أحاول دائماً أن أغلب الوعي في حالاتي الشعرية كي أبقى بعيدة عن واحة والدي، ومستقلة بعالمي الخاص الذي يتوق الى التوهج بالصفات التي يتمتع بها والدي، إنما ضمن شخصيتي المختلفة عن شخصيته".
قصائد ندى الحاج في الديوان هي عبارة عن مجموعة حالات شعرية تفرض انفعالاتها وتناقضاتها وأحاسيسها على المضمون والشكل البعيدين كل البعد عن الصناعة الشعرية: "عندما أعيش حالاً معينة، تقودني تلقائياً الى الكتابة، وأنا بطبيعتي أحب الاختصار في الكلام كي لا يضيع الجوهر في التفاصيل. وإذا كنت أركز في التجانس بين الشكل وبين المضمون إلا أنني لا أعتمد أبداً على افتعال الحالة أو الكلمة إنما تأتيان تلقائياً، وتتطوران لتكونا في خدمة القصيدة التي أتوق وأحلم أن تتوهج وتتجدد باللغة عميقة بالتجربة الإنسانية، وزاخرة باللحظات التي تأسر الحس وتعكس عمق الروح. ولذلك لا أستطيع أن أكتب قصائد مناسبات لأنها تفرض علي حالاً مصطنعة، وأنا لا أكتب في هذا المجال إلا إذا تأثرت وعشت كل كلمة أو صورة شعرية قد تنساب مني على الورق. فمثلاً كتبت قصيدة بعنوان "أطفال الحجارة" في فلسطين لأنني تأثرت بالظلم الذي يعاني منه هؤلاء، وبالقتل الذي يرافقهم يومياً، وأتت في مجملها إنسانية رفيقة تعبر عن معاناة الأطفال الشاملة ليس في فلسطين بحسب إنما في كل بقعة تعيش القهر في العالم".
وتختم ندى الحاج، (يبقى هدفي في كل ما كتبت وأكتب أن أظهر وأبلور جوهر الإنسان من خلال حالاته العاطفية المختلفة وتناقضاته التي تعكس حقيقة وجوده، وذلك من أجل عالم أفضل يواجه عصر العولمة الذي يلغي الإنسان والقيم الإنسانية ويجعل من الآلة الباردة القاسية السيد على العالم. وكم أخشى على عالم المثل والقيم والإبداع من سيطرة الآلة التي تمشي حكماً نحو التدمير، في حين أن الإنسان والإنسانية يتوقان دائماً الى السلام).
بيروت
عن المشاهد اللبنانية