الخميس ١ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠٠٧
بقلم أحمد الخميسي

في محبة الوهم

حكي لي والدي – ولم يكن يميز بين خيالاته وما يحدث – أنه وهو تلميذ في المنصورة وقع في غرام قُلة ماء، كان يلمحها خلف ستار شباك يوميا أثناء ذهابه إلي المدرسة وعودته منها . كانت القلة وهو سائر على الطريق مشبعا بأحلام العشق تبدو له مثل رأس فتاة تتابعه ببصرها وقلبها من بعيد . قال إنه تعلق بها، وتغزل فيها بأجمل قصائده المبكرة إلي أن اكتشف أنها قلة فخارية ثابتة في صحن فوق إفريز الشباك. علقت الحكاية بذهني خاصة حين قرأت فيما بعد قصة ليوسف إدريس بالمعنى ذاته عن شخص في زنزانة ملاصقة لحائط سجن النساء تخيل أن خلف جدار زنزانته امرأة تطرق الجدار لكي تتواصل معه. ربما كانت حكاية القلة حقيقية ، أو أن والدي تخيلها فوجدها طريفة ، فصار يؤلفها وهو يحكيها كأنها حدثت له . ومؤخرا عدت للتفكير في قصة القلة حين قرأت للروائي الألماني توماس مان عبارة في روايته " الموت في فينسيا " - الصادرة عام 1913- مفادها أن الشوق نتاج المعرفة الناقصة. وإذن فإن فقد أججت المعرفة الناقصة أشواق والدي

إلي الحب حين عوض نقص المعرفة بخيالاته وأوهامه ، كما نفعل نحن جميعا حين نحسب القلة الفخارية غرام العمر كله ، وحين تبدو لنا نظريات التغيير السياسية طريقا إلي الجنة ، ونخال الأصدقاء أخوة لنا من لحمنا ودمائنا ؟ ثم يتضح أن كل ذلك وهم وراء ستار شفاف أضفينا عليه من أشواقنا كل جماله ؟ فهل تكبر الأحلام والأشواق من نقص المعرفة ؟ وهل أن أشواق الإنسان إلي العدل والحرية والحب والكرامة والسلام قائمة على أن معرفتنا بما نصبو إليه ناقصة ؟ فإذا اكتملت معرفتنا بأحلامنا – أو بتجلي تلك الأحلام في الواقع - ذوت أشواقنا إليها ؟! أذكر أنني حين سافرت للاتحاد السوفيتي كتبت في أولى رسائلي من هناك إلي أحد الأصدقاء : " أكتب إليك من زمن آخر .. من المستقبل ". وبمرور الوقت تكشفت الصورة هناك عن وضع مختلف تماما عن تلك اللوحة التي رسمها الشوق وحده مع المعرفة الناقصة . ومنذ نحو أربعين عاما كان والدي يهون على نفسه فيخاطبني بقوله : لم ير جيلنا شيئا من أحلامه تتحقق ، لكن جيلك أنت سيرى العدل والكرامة والمساواة بدون شك . لكن جيلي لم ير شيئا من ذلك . والآن لا أجد في نفسي شجاعة كافية لأقول لابنتي : لكنك أنت سترين كل هذا . وأسأل روحي : هل كانت الأشواق العظيمة ثمرة معرفة ناقصة ؟. وهل أن اكتمال المعرفة هو النقطة التي يبدأ عندها الشوق في النقصان؟. ألا يطرد تجسد الأحلام في هيئة معينة الأحلام ذاتها ؟ أم أن الأحلام تواصل وجودها نحو صورة أخرى ؟.

في حياة كل منا " قلة " ، قد تكون حزبا سياسيا، وقد تكون امرأة ، وقد تكون ولدا يعقد عليه آماله ، وقد تكون صديقا ، وقد تكون وهم الكتابة ، أو دور بارز . ونحن نمنح تلك الأحلام أجمل قصائدنا ، وأوقاتنا ، وطاقتنا ، ونحيا على أن القلة هي النور الذي نقاتل من أجله. هناك شيء لا يتحقق في كل الأحلام ، لكن فيها أيضا شيئا آخر ، كالبذرة ، ينمو ، ويتمدد مثل الضوء ، ويتخطي الحواجز ، وكلما تجسد في هيئة محددة تجاوزها إلي هيئة أخرى أرقي . لأن الأشواق الإنسانية التي هي نتاج معرفة ناقصة هي أيضا أشواق لاستكمال المعرفة . فالقلب الذي خفق من أجل قلة وراء نافذة هو وحده القلب القادر على أن يخفق بعنف من أجل امرأة من لحم ودم . لقد طوى الإنسان قلبه آلاف السنوات على حلمه بأن يكون طائرا مرفرفا ، يفرد جناحيه على العالم ، وكم مرة اتضح له أن حلمه هذا وهم ، إلي أن تراكمت لديه المعرفة فتمكن من التحليق بأجنحة فولاذية إلي أبعد نقطة في الفضاء ؟ .

ليس المغزى الرئيسي من قصة القلة أننا كثيرا ما نعشق الأوهام ، لكن المغزى الرئيسي أننا نعشق . ليس المهم أن تتحطم نظريات التغيير السياسية، المهم أننا مازلنا نريد التغيير ، فإذا تحطم الأصدقاء والأحبة ، وتكشفوا عن أوهام ، فإن الطريق الوحيد لاكتساب الأصدقاء والأحبة هو المزيد من الوهم، والإيمان بأن العالم ممتلئ بالخير وبالأصدقاء والكتاب والسياسيين وبالكثيرين ممن لا يقرءون ولا يكتبون لكن بين جوانحهم نفوس النبلاء والشعراء . فالأفضل أن تعاقبنا الحياة بقولها : كنتم واهمين، عن أن تعاقبنا بقولها : عشتم بنفوس جرداء قاحلة.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى