قراءة فـي ديـوان "مـغـارة الـريـح" لإدريـس الـمـلـيـانـي
الشاعر إدريس الملياني صاحب تجربة متميزة في الحركة الشعرية بالمغرب، له مراس شعري فريد، يحشده من قصيدة لأخرى ومن ديوان لآخر , يتوفر على نفس شعري لا ينتهي لأن الرئة الـتي يـتـنـفـس منها هي الشعر، إنه مبدع بالموهبة، يتحلى بوضوح المعنى والمبتغى.. فالشعر سواد مداده وبياض قلبه، لم يهن له حلم أو عزم، بل ظل دائما متجددا متوقدا عبر دواوينه الشعـرية التالية:
ـ اشعار للناس الطـيـبـيـن (مشترك) 1967ـ في مدار الشمس رغم النفي 1974ـ في ضيافة الحريق 1994ـ زهـرة الـثـلج 1998ـ حدادا علي 2000ـ مغارة الـريح 2001ـ تانـيـرت ـ ألـواح أمازيغـية 2005ـ بملء الصوت 2005
للشاعر مساقط رأس كثيرة والفعلي منها هو الذي كان بمدينة فـاس سنة 1945 (عام الجوع )، أرخ له بقصيدة "الحـزن" وهي مكررة في بعض دواوينه، إنها قصيدة الحزن والجوع واللعنات والآهات... وبها يكون الشاعر قد وقـّع لشخصه عـقـد ازديـاد وشـهـادة مـيـلاد...
"فـي عـام الجـوع ولـدتُولـدتَ مـعـيو كـبـرتُكـبـرتَ مـعـيتـقـتـاتُ دمـيوأنـا مـن دمـك أقـتـاتْآه لـو أمـلـكُأن أحـيـا جـيـلـيـنيا جـيـل اللعـنـات..." ص (14)
... أما مدينة تازة فهي مسقط رأسه الشعري , حيث كانت مهـبـط إلـهـامه، ولا يزال الشاعر على ا رتـبـاط بهـذه الـمـديـنـة الـتـي ألـهـمـتـه الـكـثـيـر حتى صارت لعـشـقـه ديـوانـا مـنـظـوما وهوية شعرية تتردد بصوتـه وقـلـبه في هـذا الـديـوان الـشـيـق والـجـمـيـل...
دخـلـت "مـغـارة الـريـح" رغـم أ نـي لا أتـقـن فـن الاسـتغـوا ر... تـسـاء لـت بـدهـشـة وفـضـول عـن خـروج الشـعـر من المغارة لـيعـانـق آفـاق الـفـضـاءات الـمـضـيـئـة، وبوعي قرائي مـفـتـوح انـدسـسـت في بـنـيـة الـقـصائـد وسـمـحـت لـنـفـسي بـخـلـق الـتوسـيعـات الـمـمـكـنـة كي أنـحـو إلى إضاءة بعـض الـنصوص الـمـفـتـوحة التي يـلـتـقي فـيها الـتـخـيـيـل والـتـاريخ والأسـطـرة والـشـعـر، وهـي نـصوص تـسـتـجـيـب للـفـهـم والـتـذوق الـجمـالـي. دخـلـت فـي مـغـامـرة قـرائـيـة لأ لج " مغارة الريـح"، ولـكثـافـة الـعـتـمـة تزودت بـرؤى الإصـبـاح والانـبـلاج كـكـاشـف... اسـتـهـوتـنـي غـوايـة الـقـراءة وانـتـشـيـت بـحـرقـتـهـا الـمـتـوهـجـة لأن روح الـشـعـر تـسـتـغـويـنـي وهـاجـسـه يـشـغـلـنـي، تـوغـلـت في " مغارة الريح " ـ الـديـوان ـ كـمـتـلق ٍ فـبـدأ مـجـال الـرؤيـة يـتـسـع والـفـهـم يطـالـعـنـي مـن بـعـض الـقصائـد عـبـر خـيـوط ضـوئـيـة تـمـسـكـت بـهـا حـتى لا أضـيـع في عـالـم الـشـعـر, الـعـالـم الـشـاسـع والـمـمـتـع الـجـمـيـل...
مـن بـاب الـفـطـرة أن يـتـعـلـق الـشـاعر بـطـفـولـتـه ويـرتـبـط بـها ارتـبـاطا غـريـزيا لأنـها تـمـتـزج بالـحـس والـجـسـد والـنـفـس والـوجـدان , وبـذلـك تُكـوّن جوهرا في مطـلـق الإحساس وتـشـكـل رافـدا غـنـيـا يـصـب فـي سـيـرة الـذات والـحـيـاة...
للـشاعـر مـجـمـوعـة نـوايـا تـرجـمـهـا إلـى ذكـريـات مـتـوالـيـة في نـصـوص شـعـريـة تـسـتحـضـر الـماضي بـالـعـواطـف والأحـاسـيـس، مـاض يـصـل نـقـي الـعـظـم مـع الـحـنـيـن.
تـخـلـفـت الـذاكـرة إلى الـوراء ورمـت بـالـكـل في كـنـف الـحـنـيـن الـذي يـتـشـمـم فـيـه الـشـاعـر عـبـق الـتـاريـخ الـخـالـد والأريـج الـدفـيـن وبُـعـد الـغـياب والماضي الـبـعـيـد في أعماق الـطـفـولـة، وكما قال الشاعـر الـعـراقـي عـبـد الـحـمـيـد الـصـائـم: "...الـطـفـولـة هـي الـزهـرة الـوحـيـدة الـتي تـحـن إلـيـهـا نـحـلـة الـشـاعـر." ولهذا جاءت الـقـصـيـدة الـميـمـون طـائـرها للـبـحـث عـن الـمـفـقـود الـثـمـيـن بـعـنـوان "عـمـي بـوزيـان "
"... وحـيـنـما صـحـا مـن بـعـد عـشـريـن عـامعـاد إلى سـوق الـمـديـنـةبـاحـثـا عـن أهـلـهو قـد أتـى بـي مـعـهصـغـيـراإلـى مـتـاهـتـهولا أزال مـثـلـهضـائـعـاأبـحـث عـن طـفـولـتـي فـيـهـا!.. " ص (13)
في هـذا الـديـوان لم يـخـف الـشـاعـر مـا هـو أسـاسـي، بـل أبـرز الـظاهـر واعـتـمـد الـتـصـريـح بـدل الـتلـمـيـح في حـضـرة الـطـفـولـة كـمـرجـع مـعـتـمـد , تـجـول في تـاريـخ مـتـخـيـلـه الـشـعـري ووظـف بـلاغـة الـهـامـش الـذي الـتـقـط مـنـه الـجـزئـيـات والـتـفـاصـيـل الـدقـيـقـة مما طوع الـنصوص وزادها مـسـحـة جـمـالـيـة...
(إن الـشـعـر رضـيـع الـخـلـق والـطـبـيـعـة، خـارج عـن الـتـاريخ والـتـجـيـيل، ولهـذا فـكـل مـرحـلـة مـن مـراحـل الـعـمـر إلا ويـعـتـمـد الـشـاعـر فـيـها عـلى شـعـريـتـهـا لا عـلى تـاريـخـها..) إنـهـا اسـتـعـتادة شـعـريـة تـشـكـل فـي حـد ذاتـهـا عـودة إلـى جـذور الـمـاضـي الـبـعـيـد/ الـقـريـب لـسـقـيـه بـمـاء الـحـاضـر الـذي يـسـكـن لـحـظـة الكـتـابـة الـشـعـريـة...
بـالـفـعـل طـلـع الـديـوان عـلى الشـاعـر مـن أرض الأصول والـفـروع (تـازة والـنـواحـي) وسـجـل فـيه جزءا مـن وقائع طـفـولـتـه اسـتـدعى لها عـدة شـخـصـيـات مـثـل: (عمي بوزيان ـ تيزار ـ أحمد زروق ـ أم خارجة ـ حارس المخزن ـ الملكة كـاليبسو ـ ملكة الخيام) وفـضـاءات مـثـل: (كهف الغولة ـ الممر الصغـيرـ رأس الماء ـ مغارة الريح) وعـادات وتـقـالـيـد مـثـل: (فـدان الـطعام ـ تـاغـنـجـيـة ـ نواح الحمام ـ رقصة البارود). وللإشارة فـقـط فـكـل هـذه الـمـسـمـيـات هي شبه جردة عـناويـنـيـة لـقـصـائـد من الـديـوان، وفـيهـا تـضـمـيـنـات لـمـفـردات تـحـيـلـك عـلى مـعـاجـم الأسـمـاء والأعـلام، لكن الـشـاعـر خـصـص لهـا مـجـالا سـمـاه (عـتـبـات الـعـتـمـات الـنـصـيـة) يـقـع مـا بـيـن الـصـفـحـتـيـن (81) و(90) من الـديـوان حـيـث يـتـم فـيـه الـشـرح والـتـوضـيـح والإحـالـة والـتـهـمـيـش، وهـو بـالـفـعـل مـلـحـق لاحـق ومـصـاحـب مـتـمـم زاد الـديـوان وضـوحـا والـقـارئ فـهـمـا... ومـن خـلال هـذه الـتـجـلـيـات والإضافـات أشـهـد للـشـاعـر الاغـتـنـاء والـثـراء بـحـقـول ثـقـافـيـة ومـعـرفـيـة مـتـنـوعـة، يـلـون الـمـمـكـن مـنـهـا بتوسـم مـن الـشـعر ويـنـزاح عن اللـغة الـمـألـوفـة طـلـبـا للـغـة شـعـريـة جـمـيـلـة تـتـولـد فـيـهـا الـصـور مـن الانـفـعـالات والأحـداث والأمـكـنـة والـشـخـوص والـوقـائـع، وكـذلـك الـدرامـا الـداخـلـيـة الـتي تـغـدي الـشـاعـر... إنـه مـتـمـكـن مـن ذاتـه، يـطـاوعـه نـسـيـج الـلـغـة فـيـبـدع بهاء الـقـصـيـد...
جاء إلـيـنا الـديـوان من وراء الماضي الـضارب في أعـمـاق الـتـاريـخ الـعـريـق، نُـقـشـت صوره في الـذاكـرة بـإزمـيـل الـتـفـقـد وغـرسـت في وجـدان الـشـاعـر الاعـتـراف عـبـر سـيـد الـكـلام وهـو الـشـعـر.
"... والأتـانالأتـان الـحـرونالأتـان الـتي أسـقـطـتـنـي صـغـيـرا...أمـا زلـتَ تـضـربـهابـعـصا الـسـنـديـانْكـلـما حـرنـت في الـطـريـقإلى السوق..مـثـقـلة بـاحـتـطـاب الـسـنـيـن؟" ص (25)
جـذور الـديوان تضرب في الامـتـداد الـوجـودي للـشـاعـر وعـمـق مـوطـن طـفـولـتـه الـذي يـحـتـفـظ بـه في شعـره، أخـلـص للـكـلمـة فـمـنـحـتـه ذاتـها وأعـد لـشـخـصـه مـرجـعـا مُـهّـمـا كـلـمـا عـاد إلـيـه إلا وتـصـفـح جـزءا مـن حـيـاتـه، ولا أدري كـيـف يـتـعـامـل مـع لـحـظـة الـتـحـول الـقـرائـي وهـو يـقـرأ مـثـلا هـذه الـقـصـيـدة "كـهـف الـغـولـة".
"بـيـت جـدي الـقـديـم هـنـاكيـقـيـم عـلـى جـبـلشـامـخ الـنـظـرا تيـطـل عـلـى الـشـعـبتـحـرسـه غـولـة الـكهـفعـن أهـلـه الـغـوثمـحـتـضـنـا كـنـزهفـيحـضـيـضالـسـمـاء!.." ص (
24)
نـزل إلـيـنـا الـشـاعـر إدريـس الـمـلـيـانـي مـن عـهـد طـفـولـتـه يـشـد أوزار ضـلـوعـه ويـضـمـد حـروف جـسـده , جـاءنـا من طـفـولـة تـتـضـخـم فـيـهـا الأنـا وتـتـولـد عـلى إيـقـاعـهـا الـكـيـنـونـة مـن جـديـد فـي نصوص يـتـدفـق فـيها الـنـفـس الـشـعـري. عـاد إلـيـنـا من حـفـريـات تـراثـيـة وثـقـافـيـة، وتـأمـلات روحـيـة مـدهـشـة، خـلقـت جـسـر وصـل بـيـن الـمـاضـي والـحـاضـر، وفي " مـغـارة الـريـح " الـقـصـيـدة قـال:
"انـظـروا هـذا أنـاذلـك الـطـفـل الـذي يـرعى الـشـيـاهحـافـيـا يـنـتـعـل الـصـخـرويـقـتـات عـلى عـشـب الـجـبـلعـازفـا لـحـن هـواه.." ص (31)
يـرتـكـز شـعـر إدريـس الـمـلـيـانـي عـلـى أسـلـوب خـاص ومـتـمـيـز، يـدخـر طـاقـة جـمـالـيـة، ويـزخـر بـقـوة فـنـيـة عـالـيـة، لـه بـعـد إبـداعـي يـسـهـب فـيـه ويـفـيـض ولـذلـك يـحـظـى شـعـره بـالـتقـديـر الـقـرائي، وعـن ديـوان "مـغـارة الـريـح" تـولـدت هـذه الـورقـة الـمـتـواضعـة لـتـحـّول ما كـان واصفـا إلى مـوصـوف، هـذه هـي سـنـة الـقـراءة , وبـهـا أكـون قـد احـتـفـظـت للـشـاعـر في وجـدانـي بما هـو لـه أهـل مـن الـتـقـديـر والاحـتـرام...