الجمعة ٢٠ حزيران (يونيو) ٢٠٠٨

قراءة في حرمتان ومحرم لصبحي فحماوي

بقلم: د. سمر الديوب/ سورية

تعدُّ الروايةُ ديوانَ العربِ في عصرِنا الحاليّ. وقد عاش هذا الروائيُّ حياته بين الكتبِ، فكانَ الكتابُ مثاله في الحياةِ، لذا عملَ على محاكاتِه ليقينه أنه ثمرةُ العقولِ والإبداع، وراقَب بعينه المشهدَ الإبداعيَّ العربي ولبثَ طويلاً في عوالِم الأدبِ العربيّ قديمه وحديِثه، فكانت هذه الروايةُ وليدةَ مناخٍ ثقافيٍّ حار.

تأتي أهميةُ هذهِ الروايةِ من قدرتها على الجمعِ بين الإبداعيَِّ والاجتماعيِّ والوطنيِّ في الآن نفسه، فهذه الرواية نصُّ إبداعيٌّ اجتماعيٌّ عن حياةِ العربِ في فلسطين، ومدونةٌ للوعيِ الوطنيِّ والقوميِّ. إذ نشعرُ في أدبه بآلام الشعبِ العربيِ في فلسطين المحتلةِ، وبفداحةِ المأساةِ التي تعرضَ لها.
يقول ص 162: (تجدُ الفلسطينيَّ يتصرفُ بطريقةٍ مختلفة عن أيِّ عربيَّ آخر، تجدهُ يحبُّ ويكرهُ في نفسِ الوقتِ ويتشجع ويجبنُ معاً لدرجة الرعب، كما قال امرؤُ القيس مكرِّ مفرٍّ مقبل مدبر معاً.... تجده جميلاً، وروحه مشوهةً متفانياً في العمل وهو زاهدٌ في الحياة كلِّها، لا يتأثرُ بنزفِ دمِ جرحٍ عابر، ذلك لأنَّ حياته نازفة بالأعداءِ والأقاربِ والمعارفِ......)

حين نقرأ هذه الرواية نعي جيداً أنها ليست أصداءَ لأحداثٍ. إنها إبداعٌ ارتوى من خميرةِ الزمنِ، وتشبعَ بروحِ المجتمعِ، وأعلى شأنَِ القيم السامية.

وأودُّ أن أبدأَ حديثي بكلامٍ على:

1- العتبةِ النصية: (حرمتان ومحْرم). تشيرُ هذه العتبةُ إلى ثقافةِ الروائيِّ، وتؤكُد مفهومَ التمردِ على التقاليد، والمناداةِ بحريةِ المرأةِ، والتعامل معها بصفتِها إنساناً قبلَ أي شيء. فثمةَ همٌّ أرقهُ، وثمة رغبة إبداعيةٌ في إخراج هذا الهمِّ. فكان الهمُّ والكتابة فرسين لعربةٍ واحدة لديه.

2- الرؤية والرؤيا:

تحمل هذه الرواية نبوءات مستقبليةً، وثمةَ قصديّة وراء هذا التنبؤ بمآل القضيةِ الفلسطينيةِ بوصفِها قضيةً مركزية عربيةً. إنه فلسطينيُّ يُسأل عن القضية الفلسطينيةِ، أرَّقه الكفاحُ الفلسطيني، فوجدَ نفسه بصفتهِ كاتباً ومثقفاً يدورُ في هذا الفلكِ خاصةً بعد ظهورِ العملِ الفدائيِّ ومعركةِ الكرامة.

وكأنما أصبحَ لديه كشفُ تنبؤيٌّ بأن ما يحدثُ لن يقتصرَ على المجالِ الذي تعيشهُ الشخصياتُ، بل سيتسع ويتسعُ، لذلك نرى أن رؤيته شموليةُ أكثر منها تنبؤيةٌ، وهي نظرةٌ للأحداث التي تجري مع نظرةٍ أبعدَ إلى الأحداث التي يمكنُ أن تجري.

أثارت روايتهُ مجموعة تساؤلاتٍ: ما إشكالية علاقةِ الروائيِّ بالواقع الوطني والسياسيِّ والاجتماعيِّ؟ ما الاتجاهُ المضمونيُّ لهذه الرواية. وما طابعها العام؟

لقد اهتمَّ بالخلفيةِ الاجتماعيةِ للمشكلةِ الفلسطينية، فعالجَها معالجةً اجتماعيةً، فالأسبابُ كامنة في المجتمع.

لقد قدم رؤيته ورؤياه فيما يتعلقُ بالهمِّ الدينيّ، والمشكلات الاجتماعيةِ المتعلقةِ بالمرأةِ من خلال محورٍ واحدٍ هو القضية الفلسطينية.

فتصدَّر روايته إهداءٌ إلى أطفال غزَّةَ، وعالجَ مشكلاتِ المرأة من وجهةِ نظرِ الراوي لا الرجل الشرقي، فقدَّم رؤياه فيما يتعلق بمشكلةِ تعدُّدِ الزوجاتِ، والظلمِ الذي يلحق بهنَّ من خلال سردِ قصةِ السائق الذي تزوج أربع نساء، ص71.

أتى سردُ القصة من خلالِ تداخلِها مع أحداثِ الروايةِ الأساسيةِ وزرعَ نظراتِه النقديةَ للمجتمعِ من خلالِ أحداث قصته.

وقد أثارَ مشكلة المحرم وآثاره، وقضية حجابِ المرأة والبرقعِ، وصدمة المجتمع الجديد في علاقته بالمرأة.

وأظهر رؤيته لمجموعةِ قضايا متعلقة بالدين والمرأة مثل ارتباطِ سكانِ المكانِ الذي أقامت فيه المعلمتان بالصلاةِ، وإهمالِ أركانِ الإسلام الأخرى ص9، والتعاملِ مع المرأةِ بوصفها جسداً مشتهى (انستري يا امرأة)، ورغبةِ المرأة في المساواةِ بالرجل ص 100، والظلمِ الاجتماعيّ الذي تتعرضُ له فثمةَ امرأةٌ عشيقةٌ، وتعددُ زوجاتٍ وثمةَ قيد مفروضٌ عليها مقابل حرية بلا حدود للرجل.

يسوِّغ الروائي للمرأةِ تصرفاتِها ص 107، فـ (الكبَتُ يخرجُ الإنسان عن بساطتِه) وبثّ رؤيته ورؤياه من خلالِ شخصياته: فـ (جوهرُ ديننا كاللؤلؤ، ولكنّ صلابة الأغلفِة التي يغلفونه بها وخشونتها تكادُ تخنقُ أو تقتل اللؤلؤةَ غير القابلة للقتل، مهما حاولوا خنقها) ص 115.

أما التنبؤاتُ المستقبليةُ للقضيةِ الفلسطينية فهو يرى أن الإصرارَ على البقاءِ فعلُ مقاومةٍ، وهذا الفعلُ يزدادُ صلابةً ص 207 (صحيحٌ أننا نزداد فقراً، ونعاني شظف عيشٍ، ونقدمُ مزيداً من الشهداءِ ولكننا نزدادُ ثباتاً وصلابةً ومقاومةً وغداً يحلها ربنا).

مشكلةُ الفقر برأيه تحولت إلى إفقار وخراب ديارِ، وخطف أعمار. كما وعى وضعَ المرأةِ الخصوصيَّ جداً في المجتمع، وكيفية أدائها وظيفتَها في ظلّ الاضطرابات السياسية نتيجة الاحتلال. وأوضاعُ المجتمع في فلسطينِ المحتلةِ مبثوثةً في فضاءاتِ الأرضِ وتعطي مؤشراً واحداً وهو أنه لا استقرار بدءاً من صنع القرار ومروراً بإعادة البناءِ والإعمار.

والملاحظُ أنه يفصلُ تماماً بينَ شخصيتهِ بصفتهِ رجلاً وأديباً. فقد غرفَ من معاناته بصفتِه إنساناً في زمانٍ معين، مكان معين، وظروفٍ معينةٍ. وكأن همَّه الخاصّ يأبى إلا أن يطلَّ ولو من نوافذَ صغيرةٍ. وما أكثَر ما يتساءلُ: هل تسجنُ المرأةُ نفسها من جديدٍ في أقفاصِ الحبِّ والشوقِِ الخيانةِ والغدرِ بعد أن سارت في خطواتٍ من التقدمِ الاجتماعيِّ؟!

3- المقولات الجمالية في الرواية:

اعتمد الفحماوي على جانبين متكاملين هما: البناءُ الروائيُّ والخلفيةُ الجماليةُ للنصِّ الأدبيِّ. ودراسةُ البناء الروائيِّ تتيحُ لنا إمكانية الكشفِ عن أسرار التأليفِ والصياغة الكامنة وراء تناسقِ كيانِ الروايةٍ ومتانة تركيبه. ومن المعلوم أن هذه الأسرارَ هي التي رسمت لأسلوبه حدودَه التي تميز إيقاعاته وموسيقاه الداخليةَ والخارجية. والحديثُ عن المثل الجماليةِ يعني الكشفَ عن المثلِ الجماليةِ بمعنى أن فعل الكاتب يرتبط بإيصالِ رسالةٍ إلى القارئ تحمل في طياتها وجهةَ نظر إلى العالمِ والوجود والحياة الاجتماعية.

وأهم المقولات الجمالية:

أ- الجميل: قدّمَ الروائي جسدَ المرأة جميلاً من خلالِ فكرةٍ مختلفة عن غيره من الروائيين. فبدلاً من أن يكونَ الجمالُ داعياً للتأمل والإبداع يحملُ حكمَ قيمةٍ أخلاقياً تحكمه إدانةٌ اجتماعيةٌ يتواطأ عليها الوجدان الجمعيُّ بصورةٍ أو بأخرى.

ب- الحب: مقولةُ جماليةٌ تثبتُ اهتمامَ المرأةِ بحبِّ الوطنِ وحبِّ الرجل، وترتبطُ مقولة الحبِّ لديه بمفهوم وطنيٍّ وقوميٍّ وإنسانيّ.

وثمة جرأة في تناول مفردات الحبّ وما يرتبط به ص 7.

ج- الهزل: التزمَ الفحماوي سبيلَ الأدب الجاد في تقديم قضايا المرأةِ والمجتمع، لكنه لوّنها بأسلوبٍ هزلي في بعضِ المواضعِ جعل أسلوبه شائقاً يثيرُ لدى القارئ رغبةً في الابتسامة.

د- الشاعري: مقولةٌ حاضرةٌ بقوةٍ في الرواية، جعلت القارئ يشاركُ مشاركةً وجدانيةً في مصائرِ الشخصياتِ وبخاصةٍ في المواقفِ العاطفية التي تصورّها لقطاتٌ قويةٌ في إيحائها، وعفويتها. كما تحضرُ اللغةُ الشعريةُ بقوةٍ أيضاً مؤكدةً ثقافةَ الروائيِّ التي أظهرَت مبدعاً مثقفاً جمع في ذاكرتِه قديمَ الأدبِ العربيِّ وحديثه من امرىء القيس وزهير بن أبي سلمى وأبي محجن الثقفي مروراً بتوفيق زيّاد ونزار قباني. يقول ص 10 (دوّت طلقة زائرةٌ من الشباك مخترقةٌ جسدها الطري، وسكنت قلبها الرضيع، طلقة نفذت إليها من النافذة اغتصبت روحها حيث سكنت، فسكنت الطفلة على درج مكتبها، وانكسرت الزنبقة على حضن أوراقها التي تعلّمها القراءة والكتابة).

وقد وظفَ العبارةَ الشعرية في الروايةِ فكتبَ ببساطةٍ وعفويةٍ، وعبَّر عن ذاتهِ التي تحتوي العالَم كلَّه.

فذاته ذاتٌ جماعيةٌ تبتعد عن الذاتيةِ الضيقَة فيدخلُ في الخصوصياتِ العميقةِ للمجتمعِ، ويكتبُ عما يعبر عن المجتمع من خلال رؤيته ورؤياه.

هـ- مقولة القبيح: حاضرةٌ حضورَ مقولةِ الجميلِ، وتشكلُ ظاهرةً نقديةً تثيرُ النفور تارةً والتشاؤم تارةً ثانية، والاحتجاجَ تارةً ثالثة. والشعور بالقبيح يسميه علماءُ الجمال الغضب الجماليَّ. فقد اشتدَّ صراعُ الفلسطينيين مع قوى الاحتلال، وصراعُ المرأةِ في المجتمع ص 178.

وكثيراً ما تكلمَ على القبيح في المجتمع وسخر من تناقضاتِه.

د- المشاركة في مخاطبة المتلقي: طريقته في كتابةِ هذه الرواية لم تقتصر على السردِ والوصفِ، لقد حوّل نفسه من موضوعٍ إلى فاعلٍ ومنتجٍ. لم تترجم شخصياتُه رؤيته الواقع الاجتماعي جعلها تحاورُه، وتطالبُه بتعديلِ مصيرِها. لقد ولِدت أفكارُ الشخصيات من خلال تشكيلها الفني ص 227. فطالبتهُ كل فتاةِ بالزواجِ ممن أحبت. وبإبطالِ زواجها من أبي مهيوب ص 234 (شخصياتي صارت هي الحقيقة، وأنا الوهم، ذلك لأنها ستحيا بعدي، وأنا سأموت مثلما عاشت الأهرامات وماتت فراعنتها).

ترك القارئ في النهايةِ يتفاوض مع شخصياتِه ويقررُ النهاية ص 234.

خاتمة:

يمتلك أدبُ الفحماوي خصوصيةً تستُّحق البحثَ والتحليلَ، وتأتي أهميةُ هذه الرواية من المعالجةِ الفنيةِ للموضوع لا من الموضع نفسهِ، انطلَق من التحليلِ الاجتماعيِّ للمشكلةِ، ولم ينطلق من الأفكارِ التي يحملُها عنها. فأرخ للأحداثِ في الأرضِ الفلسطينيةِ من خلالِ شخصياتٍ روائيةٍ مقنعةٍ، والإقناعُ أول طرقِ التغيير. ونجاحُ الروايةِ مرتبطٌ بقدرتِها على التغيير.

جميلةٌ، لأن الفنَّ الروائيّ بارزٌ فيها. فاستطاعت تحقيق الانسجامِ العضويِّ بين مستويين من الحياةِ: المستوى الشخصي والمستوى الاجتماعيِّ.

هذه شهادةٌ على إبداعِ روائيٍّ وارتفاعِ وعيه بزمنهِ وقضايا وطنه. فقد تجلى واضحاً أن الموضوعَ الوطني هو الأبرزُ في روايته.

فإذا كانت شخصياته في الرواية قد حاكمته لأنه رسم لها طريقها، وحكمت عليه بقسوةٍ فلنحكم عليه نحن بالإبداع.

بقلم: د. سمر الديوب/ سورية

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى