قراءة مزوِّرة لسيرة مزوَّرة
مزعجٌ هذا الكتاب. فهو عسيرُ البناء حدَّ التعقيد غامضُ المعنى حدَّ اللُّبس. وهو، على هذا كله وبهذا كله، مثير مستفزّ. يباغتك عنوانه "إيلات" اسمُ مدينة/ ميناء على شاطئ الوطن المفقود فلسطين، فتظن نفسك في المشرق. لكنك تقرأ الكتاب فتجد نفسك في المشرق والمغرب، بل في الكون كله، وتجد نفسك مع شخصية سمّيت باسم المدينة، وأضيفت إليها كنية الفلاسفة المناطقة: "إيلات المنطقي" رجلا غريبا "لا شرقي ولا غربي"، كزيتونة القرآن يشتعل فيها زيت الرغبة في المعرفة وطلب الحقيقة والحق، لكنها ليست مباركة، بل مشؤومة على نفسها، تموت كل حين وتبعث، ولا ترى في الكون غير شؤم كثير.
تقرأ الكتاب فتظنه كتابا في التاريخ أو في الجغرافيا. وهو كذلك: كتاب في التاريخ الأسود المشوه وفي الجغرافيا المقسّمة المنهوبة. لكنه مع ذلك ليس كذلك. هو ليس كتابا في التاريخ والجغرافيا. فليس فيه روحُ التأريخ غيرَ نزعة السرد ونقل الحدث. وليس فيه روحُ الجغرافيا غيرَ حديث هنا وهناك عن بغداد ومرج البحرين (وأين يكون؟) وسيدي بوسعيد وقصر غيلان .
يباغتك مع العنوان الأول عنوانٌ فرعيّ ترى فيه حبل نجاة من الإزعاج:"حوليات الموت والإغراب الموتور" فتجده واضحا حد الإزعاج، جليا حد الغموض. فتقول في نفسك: "هذا كتاب في موت يتكرر، كُتِبَ بإغراب يطلب الشماتة في القارئ كأن له عنده وترا، ويطلب أخذ الثأر مني". وتقول في نفسك أيضا:"لأقرأنه مرة فأفهمنه فأردّنّ الثأر لكاتبه". ثم تفكر مليا وتنزعج فتقول:"هذا ما يطلبه صاحبه مني، لينال مني ثأره. لأقرأنّه مرة ومرة فلا أفهمنّه، فأردّ ثأره إلى نحره". ثم تتأمل وتنزعج فتقول:"وهذا ما يطلبه صاحبه مني، لينال مني وتره". ويؤول أمرك في النهاية إلى مزيد من الانزعاج، فتقول في نفسك دوما:"والله لقد أصاب مني ثأره على كل حال. ولأنظرنّ في كتابه في كل حال".
في صدر الكتاب إهداءٌ للوالدين اللذيْن علّما صاحب الكتاب محبة العلم، ولمعلّمين جلّة علموه "حرفا كي لا يكون لهم عبدا"، وفيه بعد ذلك تصديرٌ يحكي قصة الكتاب العجيبة قاوم رغبة في الوجود حتى انتصر على عقال صاحبه، فكان. وهو الآن بين أيدينا يثأر من كاتبه لأنه قد خُلِّدَ بكينونته. فغلب الكتابُ الكاتبَ ككل مرة ففاز بالخلود.
ومع الإهداء والتصدير سبعة عشر فصلا تكوّن الرواية، تطول وتقصر، لكنها بطولها وقصرها قد كتبت بلغة صفوية كلغة المسعدي أو هي أغمض وأشعر.
ولعل الكاتب سيغضب منا فيقول إن لغة المسعدي هي من لسان العرب، ولا يصح أن ننسب اللغة إلى الشخص بل إلى القوم. لكنا وجدنا في الرواية نفحاتٍ مسعديةً كثيرةً في صفات الشخصيات وملامحها، وفي بعض الأماكن والأزمنة، قد يطول الحديث في عقد المقارنة بينها. على أن ذلك كلَّه لا يجعل الرواية نسخة مسعدية. فإنّ شخصياتِ المسعدي واضحةُ الحال متشابهة المآل. أما شخصيات الغضاب فمتناقضة ملتبسة تتلون في كل حين بلون جديد، بل تتسمى بين الحين والحين باسم جديد، تجرب فتموت فتبعث، فتجرب فتموت فتبعث، فتجرب فتموت فتبعث، كذلك شأنها حتى بليت خلودا. فكان خلودها شؤما عليها طلبته فأعطيها فتورطت فتعذبت.
وأظن أن الغضاب قد عذّب شخصياته أكثر مما عذبّ المسعدي غيلان وأبا هريرة ، وأنه قد وجّهها غير وجهة شخصيات المسعدي. فإذا كان المسعدي قد وجّه غيلان وأبا هريرة ومدين إلى السماء، فإن فرج الغضاب قد وجه "إيلات المنطقي" إلى الأرض. فكانت أولى نصائح خياله "تشيلا" له أن انظر الدنيا/ الحياة/ الأرض:"ابحث عن الحياة... ابحث في الحياة"(ص27). وكانت عناوين الفصول تؤكد أن حركاته حركات معراج إلى الأرض لا حركات إسراء إلى السماء . فخاض البطل التجريب في الأرض مرات كثيرة، حتى ظنناه رجلا يعيش بيننا يأكل الخبز ويمشي في الأسواق معنا.
غير أن إيلات لا يشبهنا وإن كان يعيش بيننا. هو رجل يسأل ويجرب ويبذل نفسه للموت حتى لا تطمئن نفسه إلى خيال الكهف وظلاله. هو رجل لا تقيم نفسه على اليقين إلا ريثما تتحول. فكانت فصول الكتاب استعادةً لرواية إيلات لقصصه مع الحياة والموت نسبها إليه بعضُ الرواة زورا وبهتانا أو صدقا. فكان ما يُرْوَى سيرةً مسخا كما يدّعي صوت إيلات وهو يصوّب التاريخ ويصححه. أما نحن فنظن أنها سيرةٌ حقٌّ فيها كثير من المسخ والخطايا، لكنها سيرة صادقة جرّب فيها صاحبها الحياة بكل ما فيه من روح ريبية شجاعة. وسنجرب نحن أيضا حكاية القصة كما فعل "باقر النوتي"، لكننا لا نطلب من رواية السيرة قول الزور كباقر، بل درك المعنى وبلوغ الحقيقة.
تبدأ الرواية فصلا حواريا مسرحيا، يتناجى فيه البطل وصاحبته ظلين ثم شخصين ويتعاتب فيه الإلهان آدو وإيلل. تبدو تشيلا مؤمنة كميمونة غيلان راضية النفس مرضية، تروي شيئا من سيرتها بين قومها وتطلب لإيلات الرضا بقدر الآلهة، لكن إيلات يتقلب بين الشك والإيمان، ويرى في الابتهال الكاذب قتلا للإنسانية، فيعترف بأن عقلَه لا يطمئن إلى ما يطمئن إليه قلبُه، فيقول:"هذي دماغي تنشط فتؤرقني كلما طلبت هدوءَ النفس استقرارَها، فأفزع" (ص 10). ولا تنفع توسلات تشيلا، إذ يقرر إيلات الرحيل، فتنهض من الكون عاصفة كالقيامة تندثر بها الشخوص، فلا يبقى غير كلام ترويه النمل الجماعة من أمر إيلات زورا، فلا يكون إيلات غير "وهم من عذابات الحياة" (ص 15) جنى على نفسه وجنت عليه جماعة النمل التي أحيتها الآلهة بعد الطوفان وندمت على ما فعلت. وبهذا الفصل تنكشف للقارئ صورة البطل المهزوم في كل حين، تهزمه كنيته التي تلازمه كالقدر المكين: المنطق والعقل، وإن كان بها ينتصر على الحياة الفاسدة، وبها انتصر على ما يبدو على الموت والنسيان.
على أن إيلات يفاجئنا في الفصل الموالي حيا ينطق، يحذرنا مما حل بسيرته من تشويه تتناقله أفواه الناس زورا، تنقله عن راوية كذاب يدعى "باقر النوتي" يغيّر اسم إيلات إلى "إياد" واسم تشيلا إلى "ربيع" فيروي قتل إياد لربيع بسيف بتار هربا من الحقيقة وجبنا، وتنتهي حياته في الصحراء ميتا ككلب عفن. لكن إيلات يصحح التاريخ ويشير إلى ما دوّنه من عذاباته قبل موته الأخير ثم يفنى في طوفان الكون فلا تبقى منه غير "صحائف ورثت عذابي فهي تحدث بي إلى آخر الدهر" (ص 22). وبذلك يفنى الكائن ويخلد الكاتب بما كتب. لكن ما في الصحائف سيرةٌ مشوهةٌ ومسخ لا ندري ما نصدق منه وما نكذب.
يسرد إيلات قصةً من قصص حياته مع تشيلا "قبل أن يؤخذ بالخلد عذابا" (ص 25)، تعيب عليه ذهابَ عزمه وانكسارَ همته:"أما أنتم يا ابن الأرض فلا عزم لكم وإنما للحياة شاتمون. أو تعرفون الحياة حقا لتشتموها؟ بل إني لأكاد أشك أنكم أحياء" (ص 25). تقول تشيلا هذا الكلام الجارح، فتقدح في إيلات "نشيد الحياة" كما قدحت ميارى في نفس غيلان محبة الفعل والجهاد، فيُخلَق من جديد خلق العازم على طلب "نور المعرفة". يعتزل الناس كما فعل أبو هريرة من قبله أو من بعده، ثم يطلب أنس الجماعة فيكون بينهم غريبا "كالمسيح بين اليهود" بعبارة المتنبي. فينصرف إلى المقبرة بحثا عن قبر معلمه علي بن محمد يبعث جمجمته ويحدثها بما شهده في الجامعة من أساتيذ "هلاميات" التفتوا إلى شهوات الجسد وتركوا شحذ الهمم لمواجهة الخيبات والهزائم. فيقف إيلات على أوهام المثقفين وفسادهم "إذ النضال في أعرافهم بدؤه زق وقينة وأفقه الخيانات" (ص 35) في عالم العولمة وصراع القوى ضد من ليست له قوى.
إن هذه التجربة مع الأستاذ الجامعي قد دفعت إيلات إلى هجر الدراسة والعلم وطلب العمل والفعل. فكان الانتقال من التنظير إلى التجريب، ومن قوة الفكر إلى قوة الجسد. لكن البطالة حرمته اللقمة، فباع كتبه وكان عليه أن يحرقها كما فعل أبو حيان التوحيدي نكايةً في أهل زمانه. وانتهى إيلات كالمجنون في كوخ بعيد يشكو إلى البحر فشلا، حتى أنس إليه البحر وبعث إليه آنسة كالحورية السحرية هي تشيلا، سحرته بالحسن واتحدت به ثم هجرته ثم وصلته في الحلم وهْمًا به يحيى. هي امرأة كنساء العرب في القصيدة الغزلية حسنا وبهاء، لكنها تمتلك من جرأة الموقف ومن رقة الحلم ما يجعلها خيالا أو وهما نكاد لا نراه في امرأة الواقع. كانت رفيقا لإيلات يستلهم منها ما أمرت:"ابحث عن الحياة.. ابحث في الحياة". فخاض في الحياة "يرتحل ويتعلم ويقترف من الجرائم أبشعها فأحدها وقعا. ودماغه ما تنفك تؤلمه فتعابثه" (ص 38).
إن كثيرا من قصص إيلات تتكرر. إذ يتواعد وتشيلا، فتدفعه مرة أخرى إلى البحث بالرحلة والتجريب بالفعل، فيزور معبدا غريبا تتعبد فيه الجماعة لذات مسخ أخرجت من المقبرة، لعلها شيء من تراثٍ بالٍ لـ"كائنات تراثية" بعبارة محمد عابد الجابري. لكن إيلات وجد في هذا المسخ معلّما يدعوه إلى الرحلة "حتى يبلغ الثقل" (ص 46) فأصبح "كائنا ذا تراث" بعبارة عابد الجابري مرة أخرى، فسار في إثره يتعلم منه البيان وحسن الإنشاد حتى بلغ الثقل حقا، فخرج عن قوانين الزمان والمكان وتطهر من أدران الجسد بإيلام الجسد، مجاهدة صوفية شديدة لا هوادة فيها بلغت به البعث والكشف حقا لا جدال فيه. على أن هذا الكشف لم يخرج إيلات من لعبة الوجود شأن كثير من الصوفية، بل دفعت به إلى غمرة الوجود وزحام الموجود.
لم يكتف إيلات بالحكمة والمعرفة والنظرية إذن، بل طلب التجريب والفعل والتغيير. "ففتح مواسير المياه الآسنة" (ص 53) في المدينة وكشف عورات الناس وفضح معايبهم. وبحث خصوصا عن العدل "والعدل أساس العمران"، فنبش سيرة "موسى الإخويني" قاضي القضاة الذي سرق وزنى وباع الخلقَ نَخّاسا، ثم خدع أهل المدينة فجلس بين أيديهم قاضِيا، قاضيًا على الفضائل.
وقد فعلت سيرة موسى الإخويني في إيلات فعلا عجيبا، فترك معلّمه وطلبَ الحكمةَ وحيدا. فساح في البلاد بحثا في السيرة مصنفا الكتب. ولعله بالكتابة قد استُهْدِف وصنع بقلمه الأعداء. وهو حال المثقف العربي منذ زمن بعيد وقريب. اتخذ إيلات من دار الكتب محلا لكتابة، لكن غلامه أحمد "النبي بغير رسالة" قُتِل غيلةً. فاتُّهِم بقتله. وحُشِر "في السجن دون محاكمة" وأذيق من ألوان العذاب ما ذكّرنا برواية "شرق المتوسط" لعبد الرحمان منيف أو أبشع، جزاء البحث في سيرة مجرم صنع منه الناس قديسا معصوما. وفي الرواية صفحات قليلة في فن التعذيب اختصر بها فرج محمد الغضاب أهوالا في قتل الإنسان وبغداد تنتهك وتستحل على يد المغول الجدد أو التكسوس .
إن تجربة التعذيب في السجن قد خلّصت إيلات من السذاجة النضالية أو النضال الساذج، فأتقن دور العسس أنفسِهم، متّخذا من سلاحهم ضده سلاحا ضدهم. فتلصص على السجان وجعله في ذاته مسجونا. وتمكن من تولي أسرار نابغة القبو المقهور بعد موته، فدس السم لسجانيه وأحرق مكتبة القلعة، فمنع بذلك تزييف التاريخ الذي نهضت به قلعة التعذيب. إن هذه القلعة، إن لم تكن صورة لواقع سمعنا عنه في "أبو غريب" قبل سقوط بغداد أو قبله، رمز للمؤسسة التي تقتل الإنسانَ في العالِم وتجعله في يدها وسيلة لتشويه التاريخ وطمس الحقائق. فكان حرق المكتبة فعلا نضاليا انتصر به إيلات على سجانيه وعلى مؤسسة التعذيب، أو إمبراطورية التزييف. فخرج إلى الفعل النضالي، واستحق تمجيد بغداد له بعد مماته. لكن إنجاز إيلات شُوِّه مرة أخرى على يد الرعاع والعامة والجهلة، فبنوا له "قبّةَ مزار يحجّها القوم على مدار السَّنة يطلبون الكرامات والشفاء من كل العلل" (ص 70) وجعلوا منه وليا صالحا وتدروشوا حول مقامه، فأفسدوا عليه ما فعل شأنَ الجماعة في ما فعلت مع أبي هريرة حين أرشدهم إلى المائدة وجنة في الصحراء فجهلوا، فنصح صديقه نصيحته المشهورة:"ارحمهم ولا تؤمن بهم".
وقد استفحل أمر إيلات مع الجماعة أكثر. فجعلوه محلّ تتبع لأنه يكشف زيفهم ولا يؤمن بهم ولا يرحمهم. فما كان منه إلا أن بال عليهم حقيقة لا مجازا، فرمَوْهُ بالجنون وأفردوه إفراد البعير المعبد، ولم ينصره إلا المجنون العاقل "سيدي صالح". ومرة أخرى وجد إيلات في المقبرة مأوى ومهربا من حياة الناس أو من ناس الحياة، فاتخذها مسكنا جمع فيه مع "شيخ منبوذ رُمِيَ بالسحر" (ص77) وقائع هذا العالم الجديد الذي يحيى فيه الجماعة، فكانت سجلات وكتب متفردة تفتح في العلم أبوابا. لكن مآلها كان كالعادة تشويها ومسخا، فجُعلت مادةَ تدريس في جامعات حولت الغايات وميّعت الأهداف وتكسبت بها تكسبا.
إن ما شهدته كتابات إيلات من تشويه قد أوهنت فيه روح الكتابة، فهجر مع الكتابة تشيلا. واتخذ له صاحبة جديدة هي رملة ابنة شيخ القبيلة. ويبدو أن إيلات قد أحب أن يبدل وسيلة التغيير. فقصد سيد القبيلة ورأسها وأغوى ابنته لعله يحبلها ثورة في نسب أبيها. فارتحل بها بعيدا هربا من أعوان الشيخ وسكن بها كهفا سكنت فيه إليه. وانتهت مغامرته هذه إلى اكتشاف مخرج هوة في الجبل. فكان الكشف والاكتشاف.
وتغيرت بعد ذلك دفة الرواية، فتولتها رملة ابنة الشيخ، وقد وقع إيلات في حبائل الحمى فعشقته كما عشقت المتنبي، وأخذت منه مأخذا فأخذته وحل محله شبيه به كشبيه المسيح. ثم ما لبث هذا المسخ أن قطعت أعضاؤه وتعطل لسانه وشلت يمينه حتى مات ميتة الأنبياء فرفع إلى السماء معراجا. لكنه ترك من رملة توأما ولدين طلبا عن أبيهما خبرا حين شبّا، فتاها في الكون بحثا عن سيرته. أما رملة فقد فعلت فعل النمل، فلبست خيال تشيلا، وشوهت سيرة إيلات وجعلت منه قديسا أو نبي عشق، وما كان إلا إنسانا فيه روح الملائكة ونفس الشياطين.
كذلك تتعدد تجارب إيلات وميتاته وعذاباته، صنعوا منه مواطنا مثاليا يُسحَق ويحوّل إلى آلة لتنفيذ الأوامر، ثم ضيعوا وطنه وحكموا عليه بالحياة جوعا، حصارا ظالما لأنه كان إنسانا يطلب الإنسان منه وفيه ليكون إنسانا.
إن هذه التجارب الفريدة في البحث، وإن كانت مليئة بالخطايا والإخفاقات، تجعل القارئ مهووسا بسيرة إيلات المروية، مدركا ما فيها من أوهام وأحلام. لكن صوت باقر النوتي يغلق باب الرواية في الفصل الأخير ينبهنا من غفوتنا. فندرك أن ما كنا نقرؤه ليس سوى سيرة مزيفة نقلها زورا وانتحلها بهتانا. ويعترف باقر بالحقيقة، فيروي قصة لقائه بإيلات عطشان تائها في الصحراء كأنه "مومياء من غابر العصور قدمت" (ص 132) تأكله الحمى فيهذي ويبكي حرقة على ماضي العذاب أو على مستقبل بائد. ولا يتذكر غير طفولة بشرية يتطلع فيها الصبي إلى النجوم شوقا إلى السماء ورغبة في معرفة الأرض وامتلاكها، فتبث فيه أمه روعة الحلم:"احلم نور عيني، واعقد العزم فإنك داركه يوما. وما خلق النجم إلا لعينيك به تكتحلان ولروحك إليه تهفو.." (ص 133). وبهذه الذكرى الإنسانية الخالدة يختفي إيلات مرة أخرى وتظهر سيرته في الركبان يروونها، فيحفظها باقر النوتي ويحرّفها ويرويها.
إن انتهاء الرواية بهذا الكشف يثبت أن سيرة إيلات سيرة مفتوحة. فهو إنسان يستعصي على الموت لأنه يعيش في الموت. فينفتح باب الرواية على آت هو كتاب ثان عنونه صاحبه بـ"الرقيم"، لعلنا نجد فيه سيرة لإيلات أقل مسخا من سيرته في الكتاب الأول.
هذه سيرة إيلات كما قرأناها في كتاب "إيلات". وجدنا فيها إغرابا موتورا حاولنا فهمه ودركه، أخذا بالثأر من الكاتب. ولعلنا أغربنا نحن أيضا، وزوّرنا السيرة المزوَّرة فكان الجرم أبشع. ولعلنا لم نفهم، فكان كلامنا على الكلام أشد إزعاجا من الكلام نفسه.
الإحالات: