الأربعاء ٨ آذار (مارس) ٢٠٠٦
بقلم مارسيل خيو

قلب في المنفى

تسللت أشعة الشمس إلى غرفتها لتداعب بلطف أجفانها المغمضة. أحست بلمسة دفء فوق وجهها فتحت عينيها لتجد الصباح قد أطل. فكرت في نفسها هاهو يوم آخر يمضي من حياتها.

اليوم عيد ميلادها . اليوم قد أوصلها قطار العمر السريع إلى محطة الثلاثين بعد أن غادرت بأرجل مرتجفة وقلب وجل عربة العشرينات. واليوم يصادف ذكرى أخرى غير ميلادها. منذ ثلاث سنين بتاريخ اليوم تخلت عن شخص تحبه ولا تستطيع أن تتزوجه و رحلت مع رجل تزوجته و لا تستطيع أن تحبه...........

غادرت السرير بتكاسل واتجهت نحو النافذة لتزيح الستائر عنها ولتسمح لأشعة الشمس أن تُدخل الدفء إلى غرفتها والى قلبها….. الشمس لا تشرق كثيراً في بلاد الصقيع هذه. لعلها هي الأخرى تفضل البقاء في بلادها البعيدة، حيث تتسلل إلى كل البيوت وكل القلوب.

ثلاث سنين مضت من عمر غربتها، ثلاث سنين زواج تركت لها طفلا في الثانية من عمره وجنينا في رحمها، ثلاث سنين ولا تزال الشمس تذكرها ببلادها الحلوة التي تفصلها عنها مياه المحيطات المالحة.

ثلاث سنين وهي تنام كل ليلة في حضن من قبلت أن يكون زوجها، وربما لم تندم على اختيارها فهو على كل حال شخص لطيف وودود ، يحبها ويحسن معاملتها ،ولكن بالرغم من ذلك لا تزال تتذكر مع كل إشراقة شمس ذلك الوجه الأسمر الذي طبعت عليه الشمس لونه الخاص وذلك الصدر الواسع كحقل قمح وقت الحصاد.

تركت النافذة ومشت نحو المطبخ. صبت لنفسها كأسا من النسكافيه . تذوقته ومثل كل مرة امتعضت من حموضة طعمه. وتذكرت بالرغم منها طعم القهوة بالهال التي كانت ترشفها معه في ذلك المقهى المنزوي المتكئ على كتف البحر. ثلاث سنين ولم تعتد بعد طعم النسكافيه ولم تستطع أن تنسى يوماً مذاق القهوة التي كانت تشربها معه.

أدارت قرص المذياع على غير هدى ، ربما كانت تبحث بين الأصوات عن صوت فيروز الذي تعبده، والذي رافق كل صباحاتها في الوطن. صوت فيروز الذي تفتقده في غربتها كطفل يحن إلى دندنات أمه....... لن تسمعه........ هي تعرف ذلك جيداً ولكنها لا تزال تبحث عنه كل صباح منذ ثلاث سنين بإصرار منفي يحلم بالعودة إلى أرضه. ربما كانت تحلم أن تخلق لها أغانيها المفضلة قوقعة وطن صغير تحتمي داخله من مارد الغربة....... ولكنها لم تجده....... عندما حدثت زوجها مرة عن هوايتها في البحث عن صوت فيروز كل صباح، ضحك وأجابها بكل بساطة أنها تستطيع أن تشتري أشرطة فيروز وتسمعها على المسجل متى شاءت...... لم ترد عليه بشيء .... مسكين ألا يعرف أنه لا أحد يمكنه شراء وطن..

أهو خطأها ؟؟؟ لا تزال تسأل نفسها هذا السؤال كلما فكرت لماذا لم تستطع أن تندمج في وسطها الجديد. لم لم تعتد برودة الطقس هنا وفصول الشتاء المتواصلة. لم لا تزال تحلم بصيف حارق يكوي بشرتها. ولمَ لم تعتد طعم النسكافيه وتنسى طعم القهوة بالهال التي كانت تشربها معه؟ وما السوء في الأغاني الإنكليزية والفرنسية حتى لم تعوضها عن أغاني فيروز. لم لا تحب كل ما هو جديد ولا تزال تبحث في أنقاض ذاكرتها عن نتافات الماضي.

ولم لم تستطع أن تحب زوجها رغم هذه السنين وبرغم الطفلين اللذين يجمعانهما ؟ الحقيقية هي لا تكرهه ولكنها لم تستطع أن تحبه كما أحبت ذات صيف ذلك الشاب الأسمر صاحب الصدر الواسع كحقل قمح وقت الحصاد.

ذلك الشاب الذي مازال طيفه يزورها كل يوم حتى وهي بين أحضان زوجها. وطالما تساءلت ما سر هذا الحب الذي لا يريد أن يغادرها؟! ولمُّ يتسع صدر ذلك الحبيب ليحيطها بين ذراعيه أينما ارتحلت ؟ لم هو بهذا الدفء وكأنه الوطن؟

بالأمس سمعت أنه قد تزوج .... فتاة قروية بسيطة ... آه ....لو يعرف كل من يحسدها على زواجها من الثري وعلى غربتها كم تحسد هي تلك الفتاة . تكاد تراها برغم هذه المسافات التي تفصلهما ..تكاد تراها كم هي سعيدة معه.... ألا يكفيها أنها في كل ليلة تغفو على كتفه وتشعر بخفقان قلبه الذي يكاد يتسع العالم بأسره ...كيف لا تحسدها وهي المنفية في قلب قارة باردة....والأخرى تنام في دفء حضن الوطن.....وطن أختصر في صدر شاب أسمر....

أي جنون..... لما تفكر الآن بكل هذا.... وما الفائدة.... وهل تستطيع أن تعيد دولاب الزمن إلى الوراء .... هل تستطيع أن تعود تلك الطبيبة المتخرجة حديثاّ والتي كان عليها أن تقضي مدة سنتين في خدمة الريف.... تلك الفتاة المليئة بالطموح والأحلام التي كانتها في يوم ما ...تلك الفتاة التي كانت تفيض نشاطاّ وحيوية ...أين هي من هذه المرأة التي لا تستطيع أن تستيقظ في الصباح إلا على المنبهات ولا تنام في الليل إلا بمساعدة المنومات.... آه لو تستطيع أن تعود حقاً إلى تلك الأيام .... أيام رحلت إلى تلك القرية الساحلية البعيدة عن العاصمة مليئة بالأحلام عن النجاح الذي ستحققه هناك كطبيبة ....لم تكن تعرف يوم اختارت بين مئات القرى المنتشرة على مدى الوطن تلك القرية المنسية....لم تكن تعلم أنها على موعد مع قدرها..... لم تكن تعلم حين دخل إلى عيادتها ذلك الشاب الأسمر ويده تضغط على ساعده الذي ينزف أنها قد التقت قدرها وجه لوجه.... لا تزال تذكر كيف رفض أن تخدره قبل أن تخيط له الجرح الذي سببه له طلق ناري أصابه بالخطأ... لا تزال تذكر كيف وقفت مندهشة أمام جبروت هذا الرجل الذي تحمل كل ذلك الألم دون أن يخرج منه آهة واحدة...أتراه كان يكابر أمامها لأنها امرأة والرجل الشرقي لا يقبل أن يظهر ضعفه أمام امرأة... أم كان حقاً يملك من الصلابة ما تساعده أن يصبر على كل ألم مهما كان... لم تعرف حينها .... ولكنها لم تستطع أن تمنع نفسها من الإعجاب به...... لم تعرف حينها أنها سترتبط بهذا الشاب بخيوط خفية لن يقوى شئ على تحطيمها..... أحبته... وهي الطبيبة ... وهو الذي لم يكمل دراسته الثانوية بسبب وفاة والده وتحمله هو مسؤولية إعالة والدته وأخوته السبعة .... هي ابنة العاصمة المعتادة على ترف المدنية.... وهو القروي الذي لا يعرف من جغرافية العالم غير حدود أرضه ولا يعرف من رفاهية غير الاستلقاء تحت أشجار بستانه ليتناول الغذاء بعد يوم شاق ....

أحبته ...هي التي تنتقي من العطور الفرنسية أجملها ... وهو الذي تمتزج رائحة عرقه برائحة الليمون والبرتقال والتراب..... سألت نفسها كثيرا لما حدث ما حدث...لماذا هذا الشاب الذي يبعد عالمها عن عالمه بعد الأرض من السماء...أتراها لأجل هذا أحبته.... هل جذبها إليه بساطته وطيبة قلبه التي لا تتعارض أبدا مع قوته وحزمه ... هل فتنتها رجولته التي تعلن عن نفسها بثقة ودون ادعاء من خلال قوة ملامح وجهه ودقتها.....أم أنها فتنت بعينيه التي تشبها عينا صقر ينظر من فوق قممه بشموخ إلى كل ما تحته من مخلوقات.... لا ... لم يكن شئ محدد .... لم يكن هذا الشيء أو ذاك... كان كل شئ.... كان هو بكل ما فيه.... بطيبته وصلابته.... بتسامحه وعناده.... بطبيعته الريفية العفوية وتزمته.... كل شئ فيه كانت تحبه .... أتراه هو من جاء على قياس أحلامها...أم أننا عندما نحب نغير مقاييس الأشياء لتصبح على قياس من نحب ... لم تهتم بفلسفة الأمور... أحبته و انتهى....أحبته بكل الشوق الذي كانت تكنه للحب ...أحبته بحرمان السنين السابقة حيث لم يترك لها انشغالها بالدراسة وقت للحب...

لا تعرف متى وكيف أحبته... كان يتردد على عيادتها لتغير له ضمادات الجرح ... و عندما لم يعد هناك داعي لقدومه وجدت نفسها تقول له أنه يجب أن يأتي كل يوم لتطمئن على الجرح بدلاً من أن تخبره أن كل شئ على ما يرام.... لامت نفسها بعد خروجه على طلبها و ندمت على تهورها لا سيما أنه لا بد قد أدرك أن جرحه لم يعد يتطلب مراقبتها... قررت أن تكون حازمة معه في المرة القادمة وأن تتعامل معه بحيادية الأطباء فتلقي نظرة سريعة على جرحه وتخبره أنه لم يعد بحاجة للعودة إلى عيادتها.... وقد فعلت هذا فعلاً عندما جاء في اليوم التالي لتفاجأ بسحابة كآبة تمر على وجهه ... بدا كملاك طُرد من فردوسه .... وعندما هم بالانصراف وجدت نفسها تدعوه لشرب فنجان قهوة معها... قبل بفرح...فرح حاول إخفائه تحت قناع من الحزم والجدية ولكنه بدا يطفح من عينيه... سألته عن القرية وأهلها ... تحدثا مطولاً .....كان صموتاً بطبعه .... وإذا سئل يختصر إجابته ببضع كلمات يقولها ببطئ ولكن بثقة.... يومها كان حديثه مميزاً ربما لأنها أول مرة يتحدثان فيها عن شئ غير جرح ساعده.... لم تعد لها رغبة في الكلام ...أرادت فقط أن تسمع وتسمع المزيد من كلامه.... عرفت أنه لم يكمل دراسته ولكنها وجدت فيه شخص مثقف ...أخبرها أنه يحب قراءة كل كتاب يقع تحت يديه.... نسيت نفسها للحظات ...نسيت أنها طبيبة وهو مريضها... أحست وكأنها تلميذة صغيرة جالسة بوجل أمام أستاذها ....شعرت أنها تريد أن تقضى العمر كله وهي جالسة تشرب القهوة معه... ولكن الممرضة طرقت الباب لتعلمها أن هناك مريض بانتظارها ...خطفوها من السماء التي كانت تحلق فيها وألقوها برغم منها على ارض الواقع .... عادت الطبيبة وعاد هو مريض لم يعد لوجوده مبرر هنا... ارتشف ما بقي من فنجان قهوته ووقف ليخرج وهي لا تزال جالسة ... شعرت بقامته وكأنها امتدت لتشغل الغرفة بأكملها وتصل إلى السماء...

" شكراً على القهوة ... يا دكتورة... " قالها وكأنه يذكر نفسه قبل أن يذكرها هي بأنها طبيبة وهو.... سار نحو الباب وقبل أن يخرج استدار ليلقي عليها نظرة أخيرة.... أحست نفسها تائهة في ليل عينيه ....خرج .... وقفت للحظات متجمدة في مكانها.... لا تعي ما يدور حولها... وعندما نبهها أخيراً صوت قرع على الباب ... هرعت لتلم فناجين القهوة كمن يحاول إخفاء جريمته قبل أن تكتشف... عادت لتجلس خلف طاولتها ووضعت على عيونها النظارات لتأخذ من جديد مظهر الطبيبة أو ربما لأنها خافت أن يرى الناس في عيونها بقايا طيفه الراحل....

خلال الأيام التالية التي لم تره فيها كانت مشوشة التفكير، لا تستطيع التركيز على شئ ،
تفكر به تارة، تلوم نفسها على تفكيرها به تارة أخرى ، تحاول أن تقنع نفسها أن ما يربطها به هو مجرد افتتان عابر ... تضع أمام عينيها كل الفوارق التي تفصلهما ..... تردد على نفسها مراراً أن وجودها هنا مؤقت وأنها يجب أن تعود إلى العاصمة حيث تنتظرها حياة مرفهة وصاخبة ،حيث السهرات والنوادي وشباب مرفهين يقودون أحدث السيارات و...... تباً لهذه السخافات .....ألم تهرب من صخب هذه الأجواء إلى هدوء هذه القرية ...ألم تمل السهرات والنوادي والشباب المرفهين الذين لم يعد يملكون من الرجولة غير الاسم.... ألم تحب الناس البسطاء الطيبين في هذه القرية...

وهو ... ألا يختصر في شخصه كل صفات الرجولة التي تحلم بها.....

مر أسبوع ...طرق الباب ... أخبرتها الممرضة أن هنالك بالخارج مريض.... دخل هو...كانت تكتب شئ ما لذا لم تلاحظ دخوله...ولكنها أحست بحضور طاغي يملأ الغرفة ...رفعت رأسها لتجد نفسها أمامه وجه لوجه.... لا تعرف لما اضطربت ... ربما تورد وجهها من شدة الانفعال.

وعندما أرادت أن ترحب به بصيغة حيادية كأي مريض لم تجد صوتها ... اكتفت بأن تومئ له بإشارة من يدها أن يجلس .... جلس وهو ينظر مباشرة في عينيها.... لأول مرة تلمح في عينيه علائم اضطراب... و كأنه فهم ما يدور في ذهنها ،لذا عاد وأخذ يلعب دور الرجل الحازم ... أخبرها أنه يرغب بدعوتها لتناول الغذاء مع عائلته غداً .... وأن أهله سيكونون سعيدين جداً بالتعرف عليها... لم تكن هذه أول مرة تتلقى فيها دعوة للغذاء في هذه القرية فالناس هنا يرحبون دائماً بالغريب باستضافته في بيتهم ... وقد كانت دائماً تلبي هذه الدعوات بفرح... فهل ترفض الآن....أنها دعوة مثل كل الدعوات الأخرى ويجب أن تلبيها ... بررت لنفسها....... قبلت... وبالرغم من ملامح الحزم والجدية ، أضاء وجهه بابتسامة تحاول أن تخفي نفسها فتفضحها شدة الانفعال.

وقف ومد لها يده مودعاً...لاحظت أنها أول مرة يسلم فيها عليها باليد ...و عندما مدت يدها لتسلم عليه فاجأها حجم يده مقارنة بيدها ...لأول مرة تلاحظ أن هنالك فرق بين يد أنثى ويد رجل ...
تفا جئت أكثر عندما شعرت بتيار كهربائي يسري من يده إلى جسدها عبر يدها ...وفكرت هل تنتقل الكهرباء عبر الأيادي...... أحست أن يدها طفلة صغيرة تتوق لأن تنام في راحة يديه الدافئة.

عندما زارتهم في الغد وتعرفت على عائلته شعرت بأنها تنتمي إلى هذا المكان وهؤلاء الناس ..أحبتهم .... أحبته أكثر عندما رأته كيف يعامل أمه وأخوته ... زاد إعجابه به وهي ترى مدى احترام الكل له ومدى نجاحه هو في أن يلعب بنجاحه دوره كأب ... أحست أنها فخورة بنجاحه .... وأنها لو دارت العالم كله لن تجد شخص يمكن أن تشعر بالأمان في حضرته مثله هو.

طلبوا منها أن تزورهم دائماً ... بعدها أصبح تقليد دائم أن تتناول الغذاء معهم مرة في الأسبوع ... كانت تنتظر هذا اليوم طيلة الأسبوع لتلقاه ... ولكن بعد شهر لم تعد بحاجة للانتظار فقد باتت تلتقي به كل يوم ....
لم تُخضع حبها لمنطق العلاقات الناجحة... ولكن المنطق فرض نفسه في النهاية.

أثارت أخبار علاقتها العواصف في وسط العائلة .... لم يستطيعوا أن يفهموا كيف أن ابنتهم الطبيبة تعشق فلاح .... سألوها " بأي منطق يمكن أن تبرر هذه العلاقة" أجابتهم بجملة كانت قد قرأتها يوم ما " للقلب منطق لا يمكن أن يفهمه المنطق" .... استهزئوا بها في البداية... قالوا لها أنها قد تلقت ضربة شمس في تلك القرية ذهبت بعقلها...

طلبوا منها أن تترك تلك القرية وتعود لحضن العائلة عودة الابن الضال .... عبثاً أخبرتهم أنها تحبه برغم كل تلك الفوارق التي بينهما .... أنها تحبه كما هو... بل لأنه كما هو... كريم كالأرض.. قوي كشجرة السنديان ... حنون كشمس نيسان...
قالوا لها أن حبها مجرد نزوة والحياة الزوجية لا يمكن أن تبنى على نزوة بل على تناسب بين الزوجين في كل شئ.... وضعوا أمامها الكثير من الأمثلة عن فشل الزواج في حال عدم التناسب.... هددوها أن هي بقيت مصرة على موقفها أن يتخلوا عنها ويتركونها تواجه مصيرها- الذي سيكون مفجعاً بالتأكيد بحسب رأيهم- وحيدة دون سند.
خافت.... بدأ منطقهم يتسلل قليلاً فقليلاً إلى عقلها ليحل تدريجياً مكان منطق قلبها... بدأت تفكر بعقلانية ... كان كلامهم يتردد في رأسها ويفرض نفسه بقوة ... تصارع داخلها منطق القلب الذي لا يأخذ بعين الاعتبار شيئاً غير عاطفتها ومنطق العقل الذي يحسب كل الأمور ويقيس كل شئ ويحاول دائماًُ إيجاد التوازن بين طرفي المعادلة.... كان قلبها يخبرها بأنها ستكون أسعد الناس إن هي تزوجت بهذا الحبيب وأنها إن خسرته تكون ودعت الحب نهائياً فأين ستجد شخصاً آخر يحبها بهذا العمق وتحبه هي الأخرى بكل بساطة واندفاع...

وفي دوامة حيرتها ظهر رجل آخر... طبيب قادم من أمريكا ... يزيدها بخمس سنين فقط.. غني ... وسيم ... وابن عائلة لها اسمها و صيتها ... جاء يبحث عن عروس له بعد أن أنهى اختصاصه
وحصل على وظيفة في واحدة من أشهر مشافي أمريكا... تهافتت حوله الكثير من الفتيات ولكنه أختارها هي دون الجميع .... أو ربما أختارها القدر ليضعها على المحك كي تختار بين ما تراه هي مناسب وبين ما يراه الكل مناسب ... بين أن تحفر بأظافرها في الصخر لتشق طريق لها وحدها لم تطأه من قبل قدم بشرية وبين أن تسير في الطريق الواسعة المعبدة التي يدفعها الكل أن تمشي فيها ويحذروها أن هي حادت عنها أن تضيع... بين أن تكون نسر يبني عشه في أعلى قمة تحت الشمس وبين أن تكون خروف يسير مطأطئ الرأس حيث يقوده القطيع ....

تعبت من التفكير خاصة والكل من حولها كانوا يشجعونها على القبول بالطبيب ولا يرون كيف يمكن أن تفكر مجرد تفكير بالمقارنة بينه وبين ذلك الفلاح .... هكذا كانوا يروا الأمر ...طبيب وفلاح ...غني وفقير .... الحياة في أمريكا أو في ضيعة منسية.... وأما هي فكانت تقيس الأمور بمقاييس مختلفة ... كانت من أعماقها ترغب بترك كل شئ وراءها في سبيل من تحب ولكن الخوف من الفشل كان يحاصرها ويكبح جماح رغبتها... كانت حائرة بين أن تتحدى الكل وترتبط بمن أختاره قلبها وتتحمل بذلك النبذ من عائلتها وسخرية الناس من حولها وربما شماتة البعض
منهم وبين أن ترتبط بالشخص الذي تحوم حوله أكثر العائلات الراقية لتكسب مصاهرته ....

تكاد تجن في كل مرة تفكر فيها كيف سمحت لهم بأن يخطفوا منها حب حياتها بمنطقهم السخيف
يكاد قلبها يتحطم عندما تتذكر كيف وقفت أمامه ذات يوم وهي تبكي وتخبره بأنها أضعف من أن تستمر في التحدي وأنها لا تستطيع أن تراهن على الزواج منه لأنها أن فشلت تكون قد خسرت كل شئ أهلها والعريس وحتى مستقبلها المهني .... تكره نفسها كلما لاح في ذهنها منظره وهو يحاول أن يمنع الدموع من أن تظهر في عينيه فقد كان من النمط الذي يبكي بقلبه لا بعيونه ...

كم أرادت يومها أن يضمها إليه ويخبرها بأنه لن يتركها ترحل عنه ... كم أرادت أن يخطفها رغماً عنها ويسجنها في قلبه إلى الأبد .... ولكن كبريائه لم يسمح له بهذا ... لقد وقف أمامه شامخ كجبل ... ورغم أن قلبه كاد ينفطر من شدة الألم ... إلا أنه تمالك أعصابه ... تمنت أن يلومها أن يقول أي شئ ولكنه لم يقل شيئاً ... كانت تشتهي أن تلقي نفسها في حضنه لتحمل معها ذكرى أخيرة حلوة منه...ولكنه مد يده مصافحاً وقال " أتمنى لك السعادة....يا دكتورة" كانت كلمته الأخيرة كسكين طعن في لحظة واحدة قلبه مع قلبها....

طعنة لا تزال ينزف قلبها منها إلى الآن .... رحل ولكنه لم يرحل أبداً ... فهي لا تزال تتذكره كلما أشرقت الشمس في منفاها ... ولا تزال تحن إلى طعم القهوة التي كانت تتناولها معه... ولا تزال تحن إليه حنينها إلى الوطن ...وطن اختصر في وجه شاب أسمر....


مشاركة منتدى

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى