الاثنين ١٣ كانون الثاني (يناير) ٢٠٢٠

قُبح الواقع في "مرايا " سعيد رضواني

أحمد الشيخاوي

إن "مرايا" هذه السردية المتشبّعة بدوال الشراسة ، في عصر تغريب الكائن، ومسخه، لتكتسي طابع المغايرة والابتكار، من لعبة تحاول نسج خيوطها على مقاس الإفلاس الروحي، والخسائر الرمزية التي تُسجّلها آفاق الموت النفسي البطيء.

وهو نزر من منظومة لا يمكن الإحاطة بها كليا، في ما يشبه التأريخ لوجعنا الكوني ونزيف إنسانيتنا، جرّاء ما تمارسه إيديولوجيات التوحّش والأنانيات واستعباد البشر، كما كينة لاغتيال الحلم الفردوسي المشروع، الذي في مقدوره إنقاذ الأجيال، من خلال كتابة انقلابية وثائرة، تناهض شتى أساليب الأدلجة وسياقاتها الأصولية المكشوفة.

تفصح هذه "المرايا" الصادرة في طبعتها الثانية عن مؤسسة الموجة الثقافية، 2019، بحيّز يربو على المائة صفحة من القطع المتوسط، تسوّده 11 قصة، مع مقدمة هامسة ومعبّرة جدا لرائد القصة المغربية، الأستاذ أحمد بوزفور، نقتبس له منها قوله:

"وربما كان مما يضاعف متعة هذا الدوار اللذيذ في "مرايا" لغة الكتاب الجميلة الكامنة خلف هذا العالم المتعاكس المتصادي، إذ كلما تضاعفت تفاصيل هذا العالم، كلما توارت اللغة التي تعبّر عنه. لغة شفافة كصباغة التشكيلي المحترف، تبرز الموضوع وتختفي أمامه. لا تهتم بالبلاغة لأنها مشغولة بالتعبير، ولا باللعب اللغوي لأنها تلعب بالأشياء وصور الأشياء".

إنه بناء درامي محبوك، لا يعتمد اللغة الشعرية، وإن دلّ على حِلمية مدغدغة بتجليات ذلكم القرين الذي يشوه صور وجودية الكائن، إزاء مراياه.

وربما تكون عوضت ذلك، بموسيقى السرد التعبيري وغواياتها الممكنة، من حيث وفرة الاشتغال على جملة من جدليات تلوين الحلم، مقابل تشويه لحظات الصحو، ومحطات الواقعية.

نقرأ للسارد في مناسبة تنسف أوهام المفاضلات، ما بين البداوة والمدنية، ضمن حدود تعريفات وتوصيفات، تتماشى، ومتتالية معانٍ، مع عتبة المجموعة القصصية، انتدبت لأجله، مما هو والج في أزمة ثقافية، تنم عن جلد الذات وإبراز عيوبها وأخطائها، إذ تعرّيها المرايا بالتمام، وما ذاك، نهاية، إلاّ ضرب من إسقاط هذياني، يُفيد قبح وسوداوية وجور الراهن. يقول: "ومثلما افترض ذلك، فقد افترض أنه لا بد قد حل قبل شهور قليلة ضيفا على هذه المدينة، كي يكدّ مثل أبناء قريته ويسترجع أرضه التي سلبها منه ذات يوم جاره الذي اتهمه بدين لم يسدده فمنحه الأرض مقابل الدين. لا بد أن يعود إلى أرضه، إلى بقراته التي هي الآن ملك لجاره. ولا بد... ولا بد... ولا بد... ومثلما احتمى بهذه اللابد التي ستنقذه، كما ظنّ، من الضياع، احتمى من وجع رأسه بسبسيه الذي أخرجه من جوربه، الذي ملأ شقّه بالكيف، الذي امتطى سحائب دخانه وسافر على متنها إلى عوالم أخرى، عوالم لم ترها عين من قبل، ولا خطرت على عقل بشر غير مخدّر".

عوالم الحلم وجمال ما بعد المرايا الروحية، يصنع كامل ذلك، التخدير الاضطراري، وليس البطولي، وهي كتابة تتأسس على دورة ذاكراتية كاملة، واسترجاع مرتّب، وتراتبية راصدة لأدق التفاصيل، عبر مسْرحة خزين الآلام، وتجويده تبعا لصياغات تفرض انثيالات الفعل الكتابي "الفلاش باكي"، والسياحة الذهنية في متاهاته، وهي تفرز لذة الهروب، بعد صحو قاهر وطارد مفخخ بقيود الضريبة الوجودية، المشدودة إلى إسمنتية الواقع وإكراهاته.

نقتطع له أيضا، قوله: "ونقضي سنة معا، هي تفكّر في الخطوبة، في الزواج، وأنا أفكر في المشرط، في الحقن، في السليكون، فأحنّ إلى طقوس العمل... فتدعوني طقوسه إلى حجرة بيضاء تختلط فيها أنفاسي برائحة الكحول والمورفين، وتضج فيها أسماعي بصرير الآلات المتأهبة للانقضاض، وتتخدر فيما أعيني تتأمل الجسد المخدّر.

"أسوّي الجسد فوق المحفة، وآمر المشرط والحقن وباقي الأدوات ببدء العمل فتتكالب شفراته وشوكاته وأسنتها على النهود النائمة بالوخز والتشريح والرتق".

وعليه، فهي هوية الكائن المطفأة، قبالة مرايا صقيلة، لا تكذب، مهما راوغ الكائن، واستسلم لغيبوبته وخدره ودوخته الوجودية، أو بالأحرى، يكاد يكون هذا الكون مطفأ، إلاّ من الحضور الأنثوي الذي قد يلوّن صفحات الأعمار، ويبلّل عبورنا الآدمي الآثم، المثقل بتاريخانية المجازر والمراثي.

وحدها المرأة، إذن... جديرة بأن تحقق المعادلات الإنسانية الصعبة، وتصنع الفارق، وتكون الملهمة، فيما يرتبط بوصايا الفرار، دون تثاقل، إلى عوالم الجمال والحلم، هنالك، أشد ما يكون غورا في أدغال ذواتنا، لأغراض تصحيحية تتسنى بتبنّيها، التصالحات النرجسية والغيرية والوجودية.

مثلما نقتبس له كذلك، قوله: "أفتح باب الحوش، أبعث نحو الأسفل بنظرة شفقة إلى نملة تحمل حبة قمح، كما أنوء أنا بعبء تكاليف الحياة، وإلى الأعلى أنظر، منبها معي بصر ابني، نحو عش السنونو الطيني، نحو أفراخه المتأهبة للطيران أتحسس رقبة الثور الأرقط وازنا سمنته، ثم ألتفت جهة مكان الكلب فلا أرى غير السلة، فأعلم أن ابني الآخر وكلبه الأسود يغيران داخل البيت على الأثاث بالكسر والتهشيم".

بهذا الموقف السيزيفي، وسائر ما يستفز بيادر الطفولة البعيدة، تنوع السردية إيقاعاتها، بما يعادل تعدّد مراياها ومستويات انكشافها، كي تزجّ بالمتلقي في فصول زمن فوقي تغذيه نبوءة القاص الذي ترعبه ذاكرته، فترتسم ملامح نظير هذه المقامرة الإبداعية المؤنسنة للكائنات والأشياء وعناصر الطبيعة ككل.

هكذا نقف على حقائق وجودية جمّة، ورسائل تسطّرها خيبات وانكسارات الكائنات الشمعية أو المسوخ، وهذا ليس انتقاصيا ولا قدحيا، بقدر ما هو ضمادات إبداعية واقية من بعض آثار التقزز والنفور المولّد نتيجة الاصطدام بواقع البشاعة والإدماء النفسي والتغريب الروحي.

لتصنع مرايا السرد المنشود منها، محرّضة على مزيد من التأمل في الحالات الإنسانية الأكثر عصيانا وشذوذا، فتدل الكائن، بذلك، على مكان الخلل، ومناحي سلبيته ونقصانه وافتقاره إلى الخطاب العقلي الذي يجعل من الإيديولوجي مطية إلى السمو الروحي، لا العكس، بأن تستعبد وتضطهد هي، جيلا بالكامل، وقد أحرز ما أحرزه من منجزات علمية باعثة على الغرابة والانبهار.

أحمد الشيخاوي

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى