السبت ٣٠ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠١٧
رُؤى ثقافيّة«288»
بقلم عبد الله بن أحمد الفيفي

قِيَمٌ عربيَّة بامتياز (مع مرتبة الشَّرف الأُولى)!

 1-
صعبٌ عليكَ أنْ تشعرَ بأنَّ الآخَرَ صخرةٌ!
والصَّخرةُ قد تُؤتيكَ صداها،
الإنسانُ يُمسي صخرةً بلا صَدًى حينَ لا يكون!
الإنسانُ يُمسي صخرةً بلا صَدًى حسبَ عجائنِ التكوين!

ـ2ـ

لا مبالغة في القول إن ثقافتنا العربيَّة هي ثقافة: «أنت تبني وأنا أهدم»! فما يبنيه التعليم يهدمه الإعلام، وما قد يرمِّمه الإعلام يهُدُّه «الإنترنت»، ووسائل التواصل الاجتماعي. وهكذا، لتستحيل ثقافتنا العربيَّة إلى أطلال وخرائب، نبكي عليها صبحًا وعشيًّا، ونذرف دموع (صالح بن عبدالقدوس):

رَأَيتُ صَغـيرَ الأمرِ تَنْمِي شُـؤونُهُ
فَـــيَـكـــبُـرُ حَـتَّى لا يُحَــدُّ ويَـعْــظُـمُ
وإِنَّ عَــــنـاءً أَنْ تُـفَـــهِّـــــمَ جــاهِـــلًا
فَـيَحْسَـبُ جَـهـلًا أَنَّهُ مِـنكَ أَفْـهَــمُ
مَـتَى يَـبْـلُـغُ البُـنْـيَـانُ يومًا تَمـامـَهُ
إذا كُـنْـتَ تَـبْـنِـيْـهِ وغَـيْـرُكَ يَـهْدِمُ؟!

ـ3ـ

وقد سبق القولُ في رؤيةٍ ماضية، على سبيل المثال: إن سبب عدم بروز الشِّعر اللهجيِّ على الشِّعر الفصيح في بلدٍ عربيٍّ وحيدٍ هو (سوريا)، كان حظر النشر للهجات في الصحف ووسائل الإعلام الأخرى. على حين ساد طوفان اللَّهْوَجَة وسائل الإعلام المكتوبة والمرئيَّة والمسموعة في الخليج العربي، وطغت مساحة الشِّعر اللَّهَجي- الذي كان ينبغي طبيعيًّا أن يبقى شفهيًّا لا مكتوبًا- على مساحة الشِّعر الفصيح، مع كلِّ القِيَم الأعرابيَّة النابية التي تُصاحب ذلك الضخَّ الشعبوي. ثُمَّ ها نحن أولاء اليوم لا نكتفي بارتدادنا عن ثقافة الكتابة إلى ثقافة المشافهة، وعن الثقافة العالمة إلى الثقافة العاميَّة، ولا بكتابة الأدب اللَّهَجي لنشر الجهل والجاهليَّة، بل نُدخِل اللهجات برمجيَّات الحاسب الآلي العالميَّة، لتعمَّ آفاتنا المعمورة!

ـ4ـ

من وجهٍ آخر، لا تنفصل تربيتنا اللغويَّة والاجتماعيَّة المضطربة اليوم عن قِيَمٍ تربويَّةٍ أُخَر موروثة أو مستوردة. ولعلَّ من أبرز القِيَم الموروثة قيمتين: الاتكاليَّة، والتقاعس عن العمل. ففي الأُولى تشحننا القِيَم الشِّعريَّة بقدرٍ كبيرٍ من إلقاء التبعات على مشاجب لا حصر لها، داخليَّة وخارجيَّة، بدءًا من الأب والأم، فالمدرسة، فالمجتمع، فالنظام العام، فالدولة، فالاستعمار، فإسرائيل، فالعالم، فالكون.. إلخ. لكلِّ شيءٍ لدينا تخريج، وتبرير، ومسؤول آخر، وحاشانا. الطالب المهمل، عِلَّته في المدرِّس، أو المنهج، أو الوزارة، أو طريقة الاختبار. والمتخرِّج، الذي يريد أن يكون من أَوَّل يوم مديرًا، عِلَّته في البطالة، والفساد، وظروف العمل غير المرتَّبة وَفق مؤهِّلاته وتطلُّعاته.

والمثقَّف، غير القادر على التكيُّف مع محيطه والتوافق مع مجتمعه، مشكلته في تقييد الحُريَّات والتخلُّف العامِّ، والدولة «البوليسيَّة»، ولا سبيل له، إذن، إلَّا بالهجرة الفكريَّة أو الجسديَّة، وإلَّا فإنه مسحوقٌ لا محالة. الأنثى مشكلتها قِيَم الذكورة، والذكورة مشكلتها قِيَم الأنوثة! وهكذا في دوَّامة لا تنتهي من الشكوى، والتذمُّر، وعدم الرِّضا عن شيء.

ولا شكَّ أن في كثير من تلك الشكاوَى حقًّا، وأن النقد مهمٌّ للإصلاح، بدونه تتردَّى الأُمم إذ يستشري فيها الفساد، غير أن تلك وهذا باتا لدينا، في كثير من الأحيان، مجرد سبيل لتبرئة الذات؛ ليشعر المرء بالراحة، وهو يرمي أوزاره النفسيَّة أو الاجتماعيَّة أو الوجوديَّة على كاهل آخر، فيستريح. ذلك لأن على المتشكِّي أن يسائل نفسه، قبل غيره، وماذا قدَّمتُ أنا لنفسي أو وطني؟ أ وليس على الفرد جزء من المسؤوليَّة؟ وما الوطن والأُمَّة؟ أليسا من مجموع هؤلاء الذين يُلقِي الواحد فيهم المسؤوليَّة على الآخر؟ بَيْدَ أننا- في شأن (الراحة) و(التعب)- لا نأخذ عادةً بمبدأ الحكيم: «اتعبْ ترتحْ»، بل بمقلوبه العقيم: «ارتحْ تتعبْ»!

إن قِيَم التشاكي والتباكي- بدءًا من وقوف العربيِّ في العصر الجاهلي على الأطلال وبكائه على الدِّيار، وانتهاءً بمقولة «لا تشكِ لي لأبكي لك»- تبدو قِيَمًا عربيَّةً صميمةً بامتياز، مع مرتبة الشَّرف الأُولى، تتشكَّل في صُوَرٍ شتَّى من ممارسة الفرد البسيط، إلى المسؤول الكبير، وصولًا إلى الدولة، فالوطن العربي كلِّه.

ألا نرى- على سبيل الشاهد- كيف يَحِنُّ المرء مَرَضِيًّا إلى ماضيه في عالمنا العربي؟ وكيف يبكي شبابه، ويفزع من سنيِّ عُمره؟ فما أن يجاوز العربيُّ الخمسين، حتى يُعرِض عن الحياة قبل أن تُعرِض عنه، ويعتكف مترقبًا الموت بقنوطٍ كافر. وهي تربيةٌ يُسَقَّاها اجتماعيًّا منذ نعومة أظفاره. ففلانٌ عجوزٌ مسكينٌ «رِجل في الدنيا ورِجل في القبر»، وفلانٌ «ختيار»، وفلانٌ شائب «مهكَّع». وإنْ ظهرَ منه خلافَ ذلك، حُطِّم بعبارات مثل «يا الله حسن الخاتمة!»، مع مخاطبات أخرى، من قبيل: «يا عم، أو يا خال، أو يا بابا، أو يا جدو». في أساليب ظاهرها الاحترام، وباطنها من قِبَلِه الازدراء، وتبشير المرء بالفناء.

ومن المعيب، وَفق هذه الثقافة، أن يُظهِر مَن تقدَّم به العُمر ابتهاجًا، أو إقبالًا على الحياة بصورةٍ من الصُّوَر، بل عليه أن يحترم سِنَّه، وأن يلبس مُسوح الاكتئاب، وأكفان الموتى! وإلَّا فهو متصابٍ، ومراهقٌ كبير، وقد «شاب وعاب»، إلى آخر المأثورات من ثقافتنا القبوريَّة.

لأجل هذا فإنه في حكم المؤكَّد، ودون عمليَّات إحصائيَّة، أن العالم العربي هو أكثر بلدان العالم استهلاكًا لصبغات الشَّعر؛ بسبب ذاك الرعب القاتل من الشيب ودلالاته، وهَلَعًا من ألسنة الناس الحداد، التي تُسارع بالمرء إلى قبره قبل أوانه، دون شفقةٍ أو رحمة، تُذكِّره بدنوِّ أجله بكرة وأصيلًا، وترثيه حيًّا قبل يومه. وهذا تراثٌ عريق، منذ الحِنَّاء والكَتَم، وغيرهما ممَّا أبتكره العرب خضابًا للشَّيب. ومن هنا قام بكاء الشباب في الشِّعر، وعُرِف النواح لحلول الشَّعر الأبيض، بابًا تعبيريًّا امتاز به العرب، حتى يكاد لا يخلو منه صوتٌ شِعريٌّ أدرك اشتعال الرأس شَيبًا. وتلكم بكائيَّات العرب العتيقة على الأطلال، في صورها الشتَّى. على حين لا تلحظ هذا الهاجس العُمري الفظيع في الثقافات الحيَّة، ولا الاستنفار الجمعيَّ، لبلوغ المرء عمرًا متقدِّمًا، لتشييعه إلى مثواه الأخير. كما لا تسمع هنالك: «عمو، ولا خالو، ولا جدو».. وليس ثمَّة استهلاكٌ جنونيٌّ لصبغات الشَّعر لنكران العُمر وطمس بياض الأيَّام. بل إنك لتجد عجوزًا شمطاء، «رِجلها والقبر»- حسب تعبيراتنا الجارحة الدارجة- لا تيأس من الحياة، ولا ينقطع أملها أبدًا، ولا تنكفئ عن العمل. ربما رشَّحت نفسها لرئاسة دولة عظمى، ساعيةً في مناكبها إلى آخر الأنفاس. والناس من حولها يمنحونها الثِّقة والتأييد والمؤازرة. كما تجد امرأة أخرى، ربما بلغت فوق التسعين، ما زالت مشغولة بقراءة المسماريَّة، ودراسة الآثار البابليَّة قبل آلاف السنين؛ لمعرفة أفكارهم الطبيَّة، كـ(الطبيبة الألمانيَّة مارتا هاوس شبرغر)! ليس هذا فحسب، بل إن كثيرًا من هؤلاء يُظهرون أيضًا إنتاجيَّةً أكبر في هذا العمر، ولاسيما في الشؤون العلميَّة والإنسانيَّة.

لذلك- كما يقول كاتب المقال أ.د/ عبدالله بن أحمد الفَـيْـفي- تبقى تلك الشعوب حيَّةً منتجة، من المهد إلى اللحد. ويشقى النصفُ من عمر العربي معطَّلًا تقريبًا؛ لأنه قد بلغ من العُمر عِتيًّا، ونصفه السابق ضائعًا في اللهو واللعب و«الولدنة». فمتى يكون؟! هذا في عالم الذكور، أمَّا نصف المجتمع الآخر من الإناث، فغير محسوب أصلًا، يكاد لا يكون له حضور إلَّا في الإحصاءات العامَّة لتعداد السكَّان لتهيئة المقابر الكافية للمواطنين!


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى