الجمعة ٤ تموز (يوليو) ٢٠٢٥
بقلم رانيا مرجية

كأننا عشرون مستحيلاً...

في حضرة الغائب الحاضر

كأننا عشرون مستحيلاً... في حضرة الغائب الحاضر: توفيق زيّاد

في تموز، حين يتوهّج القيظ في بلادنا المنكوبة بالأمل، تحطّ الذكرى على أرواحنا كنسمةٍ حارقة. تموز الحارق، الذي يحمل إلينا طيف توفيق زيّاد، لا كذكرى لرحيل، بل كعودة يومية إلى حضوره الساطع في وعينا الجمعي، في قصائدنا، وفي شوارع الناصرة والرملة واللد والجليل.

في الخامس من تموز 1994، لم يُغلق الكتاب، بل فُتح على اتساعه. في ذلك الصباح، غادر توفيق زيّاد في حادث سير مفجع، وهو في طريقه إلى أريحا ليستقبل الزعيم العائد ياسر عرفات، ولكنّ فلسطين ودّعته كمن يشيّع نبضها، لا أحد شعر أن الشاعر رحل، بل أنّه صعد إلى طبقة أرفع من الحضور.

توفيق زيّاد ليس مجرد شاعر. هو اختصار لوطن. هو ضمير جمعيّ بلغة المفرد.
هو الذي قال ذات وجع:

"كأننا عشرون مستحيلاً
في اللد والرملة والجليل
هنا... على صدوركم، باقون كالجدار
وفي حلوقكم
كقطعة الزجاج، كالصبّار
وفي عيونكم
زوبعة من نار"

في هذه الكلمات، التي تحوّلت إلى مانيفستو فلسطينيّ، نجد أن زيّاد لا يكتب الشعر كترف لغوي، بل كفعل مقاومة. قصيدته ليست مرهفة كزهرة، بل عنيدة كصخرة. صلبة كجذور الزيتون.

لم يكن زيّاد بحاجة إلى بلاغة، لأن الواقع الفلسطيني المتصدع هو البلاغة ذاتها، وهو جعل من الألم نشيدًا، ومن الهوية درعًا، ومن الانتماء فِعلًا.

وُلد زيّاد في الناصرة عام 1929، وعاش كل المراحل الأكثر شقاءً في تاريخ الفلسطينيين داخل الخط الأخضر.
لم يكن الغياب القسري عنوانه، بل الحضور العنيد. لم يُهجّر، لكنه عاش في وطن صار فيه الفلسطيني غريبًا رغم جذوره.

ترجَم نضاله في الكنيست، حيث لم يكن نائبًا عاديًا، بل صوتًا مرعبًا للاحتلال.

كان يحمل آلام شعبه إلى الميكروفونات، لا ليبرر، بل ليفضح.

أصرّ أن يكون رئيس بلدية الناصرة، ورفض الانحناء حتى أمام السياسات الإسرائيلية الأشد قسوة.

وفي يوم الأرض 1976، كان اسمه يتردّد على كل لسان.
قاد الجماهير بكرامة الموقف لا بشعارات جوفاء.
ذاك اليوم، الذي صار عيدًا وطنيًا خالدًا، هو أحد بصمات زيّاد الأكثر ألقًا.
كان يعرف أن الكرامة تبدأ من الأرض، وأن البندقية التي لا تحمي زيتونة، ليست أكثر من ضجيج.

في شعره، كانت الأم حاضرة كرمز الوطن:

"أجمل الأمهات
التي انتظرت ابنها
أجمل الأمهات
التي انتظرته
وعاد مستشهدًا"

كل أم فلسطينية اليوم، في جنين، في غزّة، في بيت لحم، تردّد هذه القصيدة دون أن تعرف أنها كتبت بدمع شاعرٍ اسمه توفيق زيّاد.
في قلبه، كانت الأم خريطة العودة، وكانت الشهادة ليست موتًا بل خلودًا.

قصائده تُدرّس في الخفاء. وتُتلى في بيوت الحداد. وتُغنّى في أعراس المقاومين.
إنه من القلائل الذين قالوا ما فعلوا، وفعلوا ما آمنوا به، وكتبوا ما يشبههم.
لم يكن شاعر سلطة، بل شاعر شعب. لم يُغره الكرسي، ولا البذلة، بل كانت كوفيته الشعرية هي تاجه الحقيقي.

حين مات، لم يمت.
لأننا لا نودّع من علمنا أن نكون "عشرين مستحيلًا".
لأن الذين يكتبون قصائدهم على جدران السجون، وفي حضن الوطن، لا يرحلون.
هو اليوم في كل شاعر مقاوم، في كل أمّ شهيد، في كل طفلٍ يقول: "أنا من هنا، باقٍ هنا".

وفي ذكرى رحيله، نقف لا لنبكي، بل لنرتل اسمه كقصيدة لا تنتهي.
توفيق زيّاد، يا ابن الناصرة، يا ملح الأرض، لا زلنا نسمع صوتك يهتف من بعيد:

"فإمّا حياةٌ تسرّ الصديق
وإمّا مماتٌ يغيظ العدى"

ونردّد معك:
نحن عشرون... لا، بل ملايين من المستحيل.

في حضرة الغائب الحاضر

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى