كذبت على أبي
ستفتح المدارس أبوابها غداً,
فات أيلول بسرعة البرق وقد دخلنا في تشرين الأول،
جلبتني أمي إلى النهر حيث المياه الوفيرة،
– هيا يا ولد، قدر ماء واحد لا يكفيك ولا اثنان! أنت ذاهب إلى المدرسة غداً ويجب أن تتنظف تماماً،
لم أشاكس هذه المرة واستسلمت للاستحمام بسهولة،
أحضرت معها فستانها الذي قد تمزق نسيجه، ولذا عليه أن يقوم بمهمته الأخرى...الليفة،
وحفنة من سحيق الغسيل،
سحيق يقوم بمهمات كثيرة،
يغسل لنا السجاد، البطانيات، الثياب، شعر رؤوسنا، نفرك به جلودنا!
ومهمات أخرى.
ما إن وصلنا إلى المشرعة حتى شرعت في الماء، وصرت أغوص وأنبق.
– تعال لأدلك جلدك، قالتها أمي وهي تتحزم بثوبها كي تستعد لفركي،
– دعيني أمص آخر لذات السباحة قبل الذهاب إلى المدرسة!
فغداً سيكون الوقت مختصاً للدراسة لا لغيرها!
رشت سحيق الغسيل على رأسي الذي كانت قد حلقته بموس عشرات الأرقام تحت الصفر، فأصبح يعكس نور الشمس في النهار وضياء فانوسنا في الليل.
وبدأت تفرك جلد رأسي بخيوط فستانها الأملح،
ثم وعكت جلدي بقسوة!
ففي وقت الاستحمام كأنها تنسى أني ولدها! ... وعكته بقسوة تامة.
هيأتني للذهاب إلى المدرسة غداً، فغداً سأبدأ رحلة طويلة قد تستغرق عشرين عاماً لتنتهي إلى الدكتوراه!
ثم غسلت سروالي الذي أصبح قصيراً يبعد عن الكعبيين فتراً أوشبراً وكأنه في خصام معهما!
فبعد عامين كبرت وزاد طولي والسروال اللعين يقصر بعد كل غسلة،
وهل تظن أبي جالساً على كنز فيشتري لي سروالاً في كل عام؟
ثم غسلت القميص الذي توافقنا أن تقص كميه ليصبح قميصاً نصف ردن محترم!
لم يوافق أبي في البداية على ذهابي إلى المدرسة!
– سوف يضربه المدرس!
– وهل سرق مالية أبيه؟! أم يطلبه بطلب؟!
– نعم، ابنكِ لا يجيد الفارسية!
– ولكنه تعلم القليل منها من التلامذة الذين درسوا في الأعوام الماضية!
أنا كنت ممتنعاً، محتفظاً بورقتي لا أصوت لأبي ولا لأمي،
كنت حائراً لا أدري هل أدرس أم لا؟!
أمي تشجعني وأبي يخيفني!
والحقيقة كنت أسمع من التلامذة أن المدرسين يضربونهم بخرطوم المياه أو بجريد النخل!
وكلما سألتهم عن السبب وجموا وفروا هاربين إلى بيوتهم!
لم أتذكر كيف استطاعت أمي أن تقنع أبي فوافق على ذهابي إلى المدرسة، لكنه مكره للأمر ولدرجة شديدة!
– إن مس المدرس شعرة منه فسأمنعه من الذهاب! قالها أبي وهو يدفع طبق الطعام بعد ما شحن منه طاقة كان قد أهلكها في الجري وراء الأغنام.
احتواني الأرق تلك الليلة،
أسرح برهة من الزمان مع النجوم وأنا ممدد على بطانيتي وسط الحوش مع أبي وأمي وإخواني الثلاث وأختي،
وتطير روحي تارة متجولة في صفوف المدرسة التي تبعد عن بيتنا نصف ساعة.
تصورت المدرس غولاً يجب أن أصارعه، إما نصر وإما شهادة!
تمنيت لو كان باستطاعتي معانقة الغد بسرعة،
كان الانتظار يقتلني،
فلو خفت من أمر استعجلت الوقوع فيه، لم تهمني عاقبته، خيراً كانت أم شراً!
هكذا كانت فلسفتي عند الشدائد.
لا أدري متى أدركني النعاس لكني استيقظت قبل أن تصيح الديكة!
أضرمت النار في المنقل لتهيئة الشاي،
واستيقظ أبي ثم أمي وأخي الكبير، الذي لم ير المدرسة خلال سنواته الخامسة عشرة قط!
لبست سروالي وقميصي وتجوربت ولبست حذائي الجديد الذي قد اشترته أمي أمس،
– شكراً لك أمي سيستر هذا الحذاء الجديد جوربي الذي لم يعد يغطي أصابع رجليّ!
وأخيراً ذهبت إلى المدرسة،
حاملاً دفتراً وقلم رصاص في كيس بلاستيكي،
واضطراباً في قلب صغير،
قلب طفل يبلغ من العمر ستة أعوام يذهب إلى المدرسة لأول مرة.
أخطو إلى الأمام خطوتين وإلى الخلف خطوة،
– اذهب ولا تخف، ليس الخوف من خصائل الرجال!
– ولكن المدرس سيضربني بالجريد والخرطوم!
– تحمل الوجع، فأنت قد عاركت أولاد الحارة اكثر من مرة! وقد يتغلبون عليك أحياناً،
وهل تذكر المرة التي ضربك حسون بحجر فسال الدم من رأسك ولم تبك؟
هذا لأنك شجاع وتتحمل الأوجاع!
ومن لم يركب الأهوال لم ينل الآمال، اذهب إذن.
وصلت إلى المدرسة،
وبعد أن جاء المدير والمساعد وخطبا فينا خطبتين لم أعرف منهما شيئاً، دخلنا إلى الصف.
كنا ثلاثين تلميذاً،
وكلنا دائخون! هادئون! تاركون عراكنا خارج المدرسة! وكأننا تماثيل لا يتحرك منا شيء سوى الأجفان!
ينظر أحدنا للثاني وكأنه يلتقي بزميله لأول مرة! ودون أن تنبس شفتاه ببنت كلمة!
خطى رجل ضخم في الصف،
لا مراء أنه المدرس،
كان يختلف عما سمعته عن الغول، ولكنه أخافنا!
تمسمرنا على رحلاتنا،
جلس على كرسيه وبدأ يتكلم،
فهمت بعض ما قال:
ألم يعلمكم أولياء أموركم القيام للمعلم؟!
ثم وصف كل منا بحيوان!
حمار، بقرة، بغل، قرد وحيوانات أخرى تلفظها بالفارسية فلم أعرف معناها!
ثم نظر إلى جدران الصف فرأها ملطخة بالرسوم التي لا روح فيها ولا ملح،
وبأسماء تلاميذ الأعوام الماضية،
ذكرى من نجم حميدي،
ذكرى من علوان الخالدي،
موسى الساري، محمد البريهي، جبر كعبي، وأسماء أخرى.
راح المدرس يتفحص الجدران ويقرأ الأسماء التي كتبت عليها بأقلام الرصاص والطباشير الملونة.
– من هو نجم حميدي؟!
وبالصدفة كان اسم أحد التلامذة نجم حميدي!
قام نجم وصفعه المدرس!!!
طار شرار من خد نجم،
ومن خدودنا أيضاً!
راح نجم يصرخ من شدة الألم وقد صرخ آخرون من شدة الخوف!!!
– من علوان الخالدي؟!
– أنا ناجي الخالدي،
وصفعه أيضاً!!!
– ومن موسى الساري؟
لا جواب.
– ومحمد البريهي؟
– أنا محمد البالدي،
وصفعه!!!
– لتكونوا عبرة للآخرين!!! هذا حائط لا سبورة ولا دفتر رسم.
صمت المدرس وساد السكوت في الصف،
وازداد خفق القلوب،
وخفج الأرجل،
وضاقت الصدور،
واصفرت الأوجه،
ترى ...هل سنتخلص من حجرة التعذيب هذه؟!
نذر علي إن لم يجد اسماً يشبه اسمي على الجدار سأتبرع بقلمي الرصاص هذا لابن معيوف!
ورن جرس الفسحة وفر التلاميذ من السجن ... رأساً إلى بيوتهم!
كانت الصفوف بلا حوش، وما إن خرجوا من الصف إلا وجدوا أنفسهم أحراراً كعصافير أطلق سراحها من قفص، فطارت بين الأقصان واختفت.
لم يثبت في الحصة الثانية إلا ثلاثة تلاميذ أنا رابعهم،
دخل الصف مرة ثانية،
– لا جواب.
ثم عطل الصف وذهبنا إلى بيوتنا.
كذبت على أبي تلك الليلة حين سألني:
هل ضرب المعلم أحداً؟
فأجبته: لا!
وفي اليوم الثاني غاب عشرة تلاميذ من الصف ولم يحضروا قط.
وبعد شهر هرب خسمة آخرون!
وفي نهاية السنة الدراسية صفينا على عشرة!
وها أنا اليوم تذكرت تلك الأيام فأوصدت عيادتي وركبت سيارتي هارباً من ضجيج المدينة متوجهاً إلى صفاء القرية.
تفقدت بعضهم، كانوا لم يجيدوا القراءة والكتابة!
مساكين، لا ذنب لهم.