الجمعة ١٠ شباط (فبراير) ٢٠٠٦
إبِيجْرامات، أُنْقُوشات، لافتات، إعلانات مبوبات! من يقول: هات؟
بقلم إبراهيم عوض

كلام مثل عدمه عن العقاد وطه حسين وأحمد مطر وأدونيس ومحمد عباس..

القسم الأول من ثلاثة

الأنقوشة (Epigramme)

تأصيل فن، وتحرير مصطلح

كنت منذ نحو أسبوعين أستمع لطالبٍ أرسله لى أحد الأصدقاء للتباحث معى فى موضوعٍ يدرسه بغية الحصول على درجة الدكتوريّة فى الأدب العربى، وكان مما عرضه علىّ من موضوعات: "الإبيجرام فى الأدب العربى الحديث". ولما قلت له: ألا تظن أن هذا موضوع كبير عليك وأن من الأفضل أن تحدده بفترة زمنية أصغر؟ رد بأن الإبيجرامات فى الأدب العربى قليلة جدا، فلذلك اضْطُرّ أن يفتح باب الموضوع على مصراعيه جميعا بحيث يشمل الأدب الحديث كله. ومن يومها وأنا مشغول بذلك الأمر: أولاً انشغالاً عاديًّا كصدًى من أصداء المناقشة التى دارت بينى وبين الطالب المذكور، ثم انشغالاً علميًّا حين بدا لى أن أدرس بعض ما كنتُ طالعتُه بأُخَرة مما رأيت أنه يدخل تحت تصنيف الإبيجرام بسهولة، وهو ما اضطرنى إلى مراجعة ما كنت قرأته للعقاد وابن أخيه عامر فى "آخر كلمات العقاد"، وكذلك إلى "جنة الشوك" للدكتور طه حسين، وديوان الدكتور عز الدين إسماعيل: "دمعة للأسى.. دمعة للفرح"، الذى رأيته فى يد أحد الزملاء منذ عدة أعوام وقلبت فيه سريعا، و"لافتات" الشاعر العراقى أحمد مطر، وكذلك "إعلانات مبوبة" للدكتور محمد عباس، التى كنت رأيتها على المشباك قُبَيْل كلامى مع الطالب المذكور ولفتّ انتباهه إلى أنه لا ينبغى أن تفوته قراءتها هى ونظائرها عند الكاتب نفسه لأنها قريبة جدا مما هو بسبيل البحث فيه. ثم توسعتُ فى القراءة فى بعض المراجع الورقية، والمواقع والمعاجم والموسوعات المشباكية، فكان هذا البحث الذى آمل أن يشكّل إسهامةً نافعةً وسْط الدراسات القليلة التى تدور حول هذا الموضوع فى نقدنا العربى. ونبدأ بتعريف الإبيجرام، وأسوق لذلك بعض ما وجدته من تعاريف على المشباك، وهذه هى:

Epigramme: Petit poème qui se termine par une attaque qui tient de la satire. L’une des épigrammes les plus connues de la langue française est celle que Voltaire écrivit -non sans humour- contre un adversaire des philosophes nommé J. Fréron:
L’autre jour au fond d’un vallon
Un serpent piqua Jean Fréron
Que pensez-vous qu’il arriva ?
Ce fut le serpent qui creva.

***

Une épigramme est un court poème renfermant généralement une pointe grivoise ou assassine.
La célèbre épigramme suivante est due à Voltaire :
L’autre jour au fond d’un vallon,
Un serpent mordit Jean Fréron.
Que croyez-vous qu’il arriva ?
Ce fut le serpent qui creva.

***

L’épigramme, d’abord simple inscription gravée, est devenue un genre littéraire avec Simonide et Anacréon, dès le 6ème s. av. J.-C. Les Alexandrins développèrent le genre et adaptèrent l’épigramme à tous les sujets. La concision est la règle du genre.
Au 1er siècle Méléagre constitua un recueil de pièces de poésie légère : son recueil, la Couronne de Méléagre, servit de base à diverses anthologies. C’est au 14ème siècle que fut composée l’ Anthologie Palatine, synthèse de nombreuses anthologies, dont celle de Céphalas (10ème siècle) et celle de Planude (14ème siècle). Elles sont pour nous d’un grand intérêt par leur diversité même quant à leur sujet et quant à leur époque de rédaction, puisque certaines sont attribuées à Simonide, et que d’autres datent du 10è siècle de notre ère.

***

Au sens propre, le mot…désigne tout type d’inscription sur un objet qui n’est pas spécifiquement destiné à servir de support à l’écriture.
Dans l’antiquité, une inscription un peu soignée était rédigée en vers, comme en témoignent certains graffitis de Pompéi. Le mot « épigramme » a donc fini par désigner une pièce de vers assez brève pour être inscrite sur une stèle ou tout autre objet. Notons que c’est à partir de Martial à Rome que le mot « épigramme » prendra le sens de « court poème satirique terminé par une pointe ».

***

Petite pièce de 2 à 6 vers se terminant par un trait satirique, destiné à ridiculiser un ennemi. L’épigramme est le plus court des genres littéraires puisqu’elle consiste, selon l’étymologie, en une inscription. Ainsi l’entendaient les Grecs, qui en ornaient les tombeaux, statues, monuments, ex-voto. Les Latins furent les premiers à lui donner une destination satirique ou moqueuse. En France, c’est surtout à l’époque classique qu’à la faveur des polémiques et d’une certaine promotion de l’esprit l’épigramme s’est spécialisée dans l’attaque à bout portant jusqu’à devenir un genre poétique, une miniature de la satire. Escrime verbale où la brièveté est la meilleure des armes : tout le mérite de l’épigramme réside dans la façon de placer les coups et dans l’art d’enfoncer le trait final.

وملخص هذه التعريفات أن "الإبيجرام" هى قصيدة قصيرة (من بيتين إلى ستة) تُنْظَم للسخرية من أحد الخصوم، وتنتهى نهاية لاذعة، إن لم تكن فاحشة مُصْمِيَة، وأنها كانت فى بداءة أمرها عند الإغريق مجرد نقوش تُسَجَّل على القبور والتماثيل وما أشبه، ثم حولها الرومان فيما بعد إلى فن أدبى يقوم، بالدرجة الأولى، على التركيز والانتهاء بلسعة هجائية بارعة. وقد استشهد اثنان من أصحاب التعريفات السالفة بالإبيجرام التى كتبها فولتير يتهكم بها على غريمه وغريم الفلسفة والفلاسفة جان فريرون، ونصها: "منذ يومين لدغ ثعبانٌ فى قلب الوادى جان فريرون. ترى ما الذى تظنونه قد حدث؟ لقد مات الثعبان!". كذلك قرأت أن الإبيجرامات الإغريقية أنواع: فهناك إبيجرامات تهكمية، وأخرى غزلية، وثالثة أخلاقية، ورابعة نَذْرِيّة، وخامسة لختام المأدبة :

Epigrammes satiriques, Épigrammes amoureuses, Épigrammes morales, Épigrammes votives, Épigrammes de fin de banquet.

ولست بحاجة إلى القول بأنه ما من فن من الفنون يظل بنفس خصائصه وصفاته التى قُنِّنَتْ فى مرحلة من مراحل تاريخه إلى الأبد. بل إن الإبيجرامات نفسها قد تطورت، كما قرأنا، من مجرد نقوش على القبور والتماثيل إلى أن أَمْسَتْ فنًّا أدبيًّا ذا سمات مميّزة. ثم إننا لسنا ملزمين بأن نتعبد لشروط الإبيجرام كما قرأناها فى التعريفات المذكورة، بل بمستطاعنا أن نطوّرها ونُدْخِل عليها من التحوير ما يلائم ظروفنا وأذواقنا وإبداعات الأدباء الذين نقرؤها لهم. فعلى سبيل المثال يمكن أن تكون الإبيجرام نثرا أو شعرا، ويمكن أن تقوم المفارقة فيها مقام النهاية المفحشة، ويمكن أن يطول عدد الأبيات، فى حالة الإبيجرام الشعرية، عن ستة، كما أنه ليس من الضرورى أن تكون الإبيجرام أبياتا أو سطورا مستقلة من البداية، بل يمكن أن تكون جزءا من نص شعرى أو نثرى أكبر نقتطعه نحن فيصبح نصًّا مستقلا حينئذ، وهو ما يصدق على بعض إبيجرامات أوسكار وايلد ومارك توين مثلا كما هو معروف وكما جاء أيضا فى مقدمة الدكتور عز الدين إسماعيل لديوانه: "دمعة للأسى.. دمعة للفرح" (شركة مطابع لوتس/ 2000م/ ص 14- 15). ثم إن ما قرأناه عن أن الإبيجرام الإغريقية لم تكن كلها هجاء وتهكما يخوِّل مبدعى الإبيجرام أن يجعلوها فى الموضوعات الغزلية والنصائح الأخلاقية والانتقادات السياسية... إلخ.

والآن إلى بعض ما كُتِب عن هذا الفن فى لغتنا، ولعل ما خطَّته يراعة الدكتور طه حسين فى كتاب "جنة الشوك" (وأرجو ألا أكون مخطئًا) هو أول ما أُلِّف فى ذلك الموضوع فى النقد العربى، بل أغلب الظن (ولعلى لا أكون مخطئًا هنا أيضًا) أنه أطول ما كُتِب على يد واحد من الكتاب المشاهير مثل طه حسين، إذ خصص له اثنتى عشرة صفحة من القِطْع الكبير فى بداية كتابه: "جنة الشوك"، الذى صدر فى منتصف الأربعينات من القرن المنصرم، حلل فيها خصائص هذا الفن وتحدث عن تاريخه فى الآداب الأوربية قديما وحديثا، كما عرّج على السؤال الخاص بمدى معرفة العرب له، لينتهى إلى أنه كان موجودا عند بعض شعراء العصر العباسى مثل بشّار بن بُرْد وحمّاد عَجْرَد ومُطِيع بن إِيَاس وغيرهم، وإن لم يورد شيئا من الشواهد التى تعضِّد ما يقول مكتفيًا بتأكيده أنه كان موجودا فى شعر ذلك العصر. وقد ذكر أن نشأة هذا الفن كانت نظما لا نثرا (جنّة الشوك/ المجلد الحادى عشر من "المجموعة الكاملة لمؤلفات الدكتور طه حسين"/ الشركة العالمية للكتاب/ بيروت/ 408)، كما تناول الخصائص التى تميّزه قائلا إن "الإبيجرام" شعر قصير يمتاز "بالتأنق الشديد في اختيار ألفاظه بحيث ترتفع عن الألفاظ المبتذَلة دون أن تبلغ رصانة اللفظ الذي يقصد إليه الشعراء الفحول في القصائد الكبرى، وإنما هو شيء بين ذلك لا يُبْتَذَل حتى يفهمه الناس جميعا فتزهد فيه الخاصة، ولا يرتفع حتى لا يفهمه إلا المثقفون الممتازون الذين يألفون لغة الفحول من الشعراء" (ص 412). وقد لفت كاتبنا أيضا الانتباه إلى أن المعنى فى هذا الشعر هو أثر من آثار العقل والإرادة والقلب جميعا، علاوة على أن نهاية كل قطعة منه لا بد أن تكون "أشبه شىء بالنصل المرهف الدقيق ذي الطرف الضئيل الحاد"، فضلا عن "الحرية المطلقة" التى كثيرا ما ينتهجها ناظموه والتى يتجاوزون فيها "حدود المألوف من السنن والعادات والتقاليد"، إذ تدفعهم "إلى الإفحاش في اللفظ وإلى الإفحاش في المعنى" (ص 413ــ 414).

ويبرز الدكتور طه شرط القِصَر فى كتابة الإبيجرام مبينا أن الهدف من ذلك أن يكون هذا الفن "سريع الانتقال، يسير الحفظ، كثير الدوران على ألسنة الناس، يسير الاستجابة إذا دعاه المتحدث في بعض الحديث، أو الكاتب في بعض ما يكتب، أو المحاضر فى بعض ما يحاضر، ثم ليكون مضحكا للسامعين والقارئين بما فيه من عناصر الخفة والحدة والمفاجأة ، ثم ليكون بالغ الأثر آخر الأمر فى نفوس الأفراد والجماعات" (ص 414ــ 215). كما يلفت الأنظار الى أن الشعر العربى القديم قد عرف هذا الفن، وإن كان قد قَصَره على تلك القصائد الساخرة التي نظمها بشّار بن بُرْد وحماد عَجْرَد ومُطِيع بن إِيَاس وأصحابهم فى البصرة والكوفة وبغداد رغم عدم معرفتهم مصطلح "الإبيجرام" مع ذلك (ص 409، 414، 418).

فأما ما كتبه الدكتور طه عن فن الإبيجراما فى الأدب العربى فكلام ينبغى النظر فيه، فإن وجدنا شواهد على وجود النصوص التى تنطبق عليها خصائص هذا الفن كان من حقنا أن نقول بملء الفم إن العرب قد عرفوا الإبيجرام: عرفوها واقعًا، وإن لم يعرفوها مصطلحًا. وقد استطعت أن أعثر على الشواهد التالية التى تدل على وجود هذا الفن فى أدبنا، ولاحظت أنها لا تقتصر على بشار وعصبته كما قال د. طه حسين، بل تساير شعرنا كله فى جميع العصور تقريبا. يقول الأعشى مثلا عن حبيبته هُرَيْرَة كيف أحبَّها هو، وأحبت هى شخصا آخر، وأحب هذا الشخص فتاة غيرها، وأحبت هذه الفتاة رجلا سواه... وهكذا دواليك على طريقة "دوخينى يا ليمونة"!:

عُلِّقْتُها عَرَضًا، وَعُلِّقَتْ رَجُلاً ** غَيري، وَعُلِّقَ أُخرى غَيرَها الرَجُلُ

وعُلِّقَتْهُ فَتاةٌ ما يُحاوِلُها ** مِن أَهلِها مَيِّتٌ يَهْذي بِها وَهِلُ

وَعُلِّقَتني أُخَيْرَى ما تُلائِمُني ** فَاجْتَمَعَ الحُبُّ حُبّاً كُلُّهُ تَبِلُ

فَكُلُّنا مُغرَمٌ يَهذي بِصاحِبِهِ ** ناءٍ وَدانٍ وَمَحْبولٌ وَمُحْتَبِلُ

ويقول الحطيئة:

أَبَت شَفَتايَ اليَومَ إِلاّ تَكَلُّمًا ** بِشَرٍّ فَما أَدري لِمَن أَنا قائِلُه

أَرى لِيَ وَجهاً شَوَّهَ اللَهُ خَلقَهُ ** فَقُبِّحَ مِن وَجهٍ وَقُبِّحَ حامِلُه

ويقول الفرزدق:

لَو أَنَّ قِدْراً بَكَت مِن طولِ ما حُبِسَت ** عَلى الحُفوفِ بَكَت قِدْرُ اِبنِ جَيّارِ

ما مَسَّها دَسَمٌ مُذْ فُضَّ مَعدِنُها ** وَلا رَأَت بَعدَ عَهدِ القَيْنِ مِن نارِ

ويقول بشار بن برد:

قالوا: العَمى مَنظَرٌ قَبيحٌ ** قُلنا: بِفَقدي لَكُم يَهونُ

تَاللهِ ما في البِلادِ شَيْءٌ ** تَأْسَى عَلى فَقدِهِ العُيونُ

ويقول ابن الرومى:

لو تلفَّفْتَ في كساءِ الكسائي ** وتلبَّسْتَ فروة الفرَّاءِ

وتَخلَّلْتَ بالخليل وأضحى ** سيبويه لديك رَهْنَ سِباءِ

وتكوّنتَ من سوادِ أبي الأســود شخصًا يُكْنَى أبا السوداءِ

لأَبَى اللَّهُ أن يَعُدّك أهلُ الـعلمِ إلا من جملة الأغبياءِ

ويقول جحظة البرمكى:

لَنا صاحِبٌ مِن أَبرَع الناسِ في البُخلِ ** وَأَفضَلِهِم فيهِ وَلَيسَ بِذي فَضْلِ

دَعاني كَما يَدعو الصَديقُ صَديقَهُ ** فَجِئتُ كَما يَأتي إِلى مِثلِهِ مثلي

فَلَمّا جَلَسنا لِلغَداءِ رَأَيتُهُ ** يَرى إِنَّما من بَعضِ أَعضائِهِ أَكلي

وَيَغتاظُ أَحياناً وَيَشتُمُ عَبدَهُ ** وَأَعلَمُ أَنَّ الغَيظَ وَالشَتمَ مِن أَجلي

أَمُدُّ يَدي سِرًّا لآكُلَ لُقمَةً ** فَيَلحَظُني شَزْرًا فَأَعبَثُ بِالبَقْلِ

إِلى أَن جَنَت كَفّي لَحْينِي جنايَةً ** وَذلِكَ أَنَّ الجوعَ أَعْدَمَني عَقْلي

فَأَهوَت يَميني نَحوَ رِجلِ دَجاجَةٍ ** فَجُرَّت، كَما جَرَّت يَدي رِجلَها، رِجلي

ويقول أيضا فى حبيبته التى وعدته فأخلفت وعدها باللقاء:

يا كاذِبًا في وَعدِهِ بِلِسانِهِ ** مَن لي بِمَصِّ لِسانِكَ الكَذّابِ؟

ويقول ابن حجاج فى عدم مبالاته بالرد على من يهجوه:

وأولاد الحرائر لم يُجَابوا ** لَدَيَّ، فكيف أولاد القحابِ؟

ويقول السَّرِىّ الرَّفّاء:

سَلَوْتُ محمَّدًا لمَّا تَمادى ** به الهِجرانُ وانقطَع العِتابُ

وقد يُنسَى الربيعُ إذا تَولَّتْ ** لَيَالِيهُ، وقد يُسْلَى الشّبابُ

ويقول لسان الدين بن الخطيب:

نَسَبْتَ لِىَ المساوِىَّ اعتسافًا ** وغطَّيْتَ المكارم بالذنوبِ

أَعَلاّمَ العيوبِ، جزاك عنى ** بما أَسْلَفْتَ علاَّمُ الغيوبِ

ويقول ابن قادوس الشاعر الفاطمى فى الرشيد بن الزبير القاضى اليمنى الذى استطاع أن يحل مسألةً علميةً عجز عنها كل من كان بمجلس الملك الصالح من العلماء والأدباء، مما دفعه إلى أن يقول إنه ما سُئِل عن شىء إلا وجد نفسه يتوقَّد فهما، وكان أسود البشرة زنجى الملامح، فعلَّق ابن قادوس على كلامه قائلا:

إن قلتَ: من نارٍ خُلِقْت وفُقْت كل الناس فهما

قلنا: صدقتَ، فما الذى ** أطفاك حتى صرتَ فحما؟

وهجاه ابن قادوس فى مناسبة أخرى بقوله:

يا شِبْه لقمانٍ بلا حكمةٍ ** وخاسرًا فى العِلْم لا راسخا

سلختَ أشعار الورى كلها ** فصرتَ تُدْعَى: الأَسْوَدَ السَّالِخا

(والأسود السالخ هو أخبث الثعابين وأفتكها سمًّا). ويقول ابن حيدرة فى رجل خضب شيب رأسه:

يا من يدلِّس شَيْبَه بخِضَابه ** إن المدلِّس لا يزال مريبا

هَبْ ياسمين الشيب عاد بنفسجا ** أيعود عُرْجُون القَوَام قضيبا؟

ويقول ابن قتادة فى نظيرٍ له يُدْعَى: "المُكَرْبَل"، وكان هَجّاءً طويل
اللسان:

ما نال خَلْقٌ فى الهِجَا ** ما ناله المُكَرْبَلُ

كل الهجاءِ آخرٌ ** وهو الهِجَاء الأوَّلُ

لأنه يأخذ مِنْ ** عِرْضِه ويعملُ

ويقول ابن عرام الأسوانى، وهو شاعر فاطمى أيضا:

يا لائمى فى غزالٍ ** قلبى رهينُ يديهِ

لا تَطْمَعَنْ فى سُلُوَِى ** فلا سبيل إليهِ

كم لامنى فيه قومٌ ** وعنّفونى عليهِ

حتى إذا أبصروه ** خرّوا سجودًا لديهِ

فاحفظ فؤادك فالمو ت فى ظُبَا مقلتيهِ

ويقول الشيخ على الحريرى الشاعر الأيوبى فى بعض صوفية عصره ممن كانوا يتعاطَوْن الحشيش:

أرى فقراءنا من كل علمٍ ** ومن دينٍ دوابًا فى ثيابِ

يراعون الحشيشة حيث كانت ** وهل يرعى الحشيشَ سوى الدوابِ؟

ويقول شاعر أيوبى آخر فى التنفير من التطلع إلى الوزارة:

لا تَغْبِطَنَّ وزيرا للملوك، وإن ** أناله الدهر منهم فوق طاقتهِ

واعلم بأنّ له يوما تمور به الأر ** ض الوقور كما مارت لهيبتهِ

هارون، وهو أخو موسى الشقيق له ** لولا الوزارة لم يأخذ بلحيتهِ

ويقول أبو الحسين الجزار الشاعر المملوكى مدافعا عن اتخاذه الجزارة حرفة:

لا تلمنى يا سيدى شرف الد ين إذا ما رأيتَنى قصّابا

كيف لا أشكر الجزارة ما ** عشتُ حفاظا وأرفض الآدابا

وبها أضحت الكلاب تُرَجِّيــــــــــــنى، وبالشعر كنتُ أرجو الكلابا؟

ويقول الشاب الظريف فى حبيبته التى هجرته:

أيها الهاجر، حَدِّثْنــــــــــــــــــــــــــىَ: ما أوجب هَجْرَك؟

ما الذى لو جُدْتَ بالوصــــــل، حبيبى، كان ضَرَّك؟

أيها الصابر عَنِّى ** ليتنى أُعْطِيتُ صبرك

أيها الجاهل قدرى ** أنا لا أجهل قدرك

أيها الشاغل أسرا رىَ، ما أفرغ سِرَّك

يا محيّاه، أنار الــــــــــــــــــــــلـه فى العالم بدرك

قد يئسنا منك خيرًا ** فكفانا الله شرَّك

ويقول صفى الدين الحِلَّىّ مُورِدًا حوارا له مع إبليس:

وليلةٍ طال سهادى بها ** فزارنى إبليسُ عند الرقادْ

فقال: هل لك فى شقفةٍ ** كبشيةٍ تطرد عنا السهادْ؟

قلت: نعم. قال: وفى قهوةٍ ** عتَّقها العاصر من عهد عادْ؟

قلت: نعم. قال: وفى مطربٍ ** إذا شدا يطرب منه الجمادْ؟

قلت: نعم. قال: وفى طفلةٍ ** فى وجنتيها للحياة اتقادْ؟

قلت: نعم. قال: وفى شادنٍ ** قد كُحِّلت أجفانه بالوسادْ؟

قلت: نعم. قال: نم آمنًا ** يا كعبة الفسق وركن الفسادْ!

ويقول إسماعيل صبرى:

عجِبتُ لهم قالوا: سَقَطتَ. ومن يكُن ** مكانكَ يَأمَنْ من سُقوطٍ وَيَسْلَمِ

فَأَنتَ امرُؤٌ أَلصَقت نفسكَ بالثَرى ** وحرَّمتَ خَوفَ الذُلِّ ما لَم يُحرَّمِ

فَلَو أَسقَطوا من حيثُ أنتَ زُجاجَةً ** على الصَخْرِ لم تُصْدَع وَلم تَتَحَطَّمِ

ويقول حافظ إبراهيم:

جِرابُ حَظِّيَ قَد أَفرَغتُهُ طَمَعًا ** بِبابِ أُستاذِنا الشيمي، وَلا عَجَبا

فَعادَ لي وَهوَ مَملوءٌ، فَقُلتُ لَهُ: ** مِمّا؟ فَقالَ: مِنَ الحَسراتِ، واحَرَبا

ويقول جميل صدقى الزهاوى:

ساءلتُ شيخًا قد تحد ** دبَ: ما تفتش في التراب؟

فأجابَني متأوهًا: ** ضيّعتُ أَيّامَ الشباب

ومما أذكره أن المرحوم إبراهيم عبد القادر المازنى قد أوصى أن يُكْتَب على قبره هذان البيتان:

أيها الزائر قبرى ** اُتْلُ ما خُطَّ أمامَكْ:

ها هنا، فاعلم، عظامى ** ليتها كانت عظامَكْ

على أن الإبيجرامات لم تقتصر فى أدبنا على الشعر وحده، بل شَرِكها فى ذلك النثر أيضا. وهذه بعض أمثلة سريعة على هذه الدعوى: قال أبو بكر الصِّدّيق: "احرص على الموت تُوهَبْ لك الحياة"، وعن الفاروق عمر أنه قال: "ليس العاقل من عرف الخير من الشر، وإنما من عرف خير الشَّرَّيْن". وجاء فى "أخبار أبى تمام" للصُّوِلىّ: " كان أبو تمامٍ إذا كلمه إنسان أجابه قبل انقضاء كلامه، كأنه كان عَلِمَ ما يقول فأعدَّ جوابه، فقال له رجل: يا أبا تمام، ولم لا تقول من الشعر ما يُعْرَف؟ فقال: وأنت لم لا تعرف من الشعر ما يقال؟ فأفحمه". وجاء فيه أيضا عن أحدهم أنه قال: "دخلت على أبي تمام وقد عمل شعرًا لم أسمع أحسن منه، وفي الأبيات بيت واحد ليس كسائرها، وعلم أني قد وقفت على البيت، فقلت له: لو أسقطتَ هذا البيت! فضحك وقال لي: أتراك أعلم بهذا مني؟ إنما مَثَلُ هذا مَثَلُ رجلٍ له بَنُونَ جماعة، كلهم أديب جميل متقدم، فيهم واحد قبيح متخلف، فهو يعرف أمره ويرى مكانه، ولا يشتهي أن يموت، ولهذه العلة وقع مثل هذا في أشعار الناس".

وفى "أخبار الحمقى والمغفلين" لابن الجوزى: "عن أبي يوسف القاضي قال: ثلاثٌ، صدِّقْ باثنتين ولا تُصَدِّقْ بواحدة. إن قيل لك إن رجلاً كان معك فتوارى خلف حائط فمات فصدِّقْ، وإن قيل لك إن رجلاً فقيرًا خرج إلى بلد فاستفاد مالاً فصدِّقْ، وإن قيل لك إن أحمق خرج إلى بلد فاستفاد عقلاً فلا تُصَدِّقْ". وفيه كذلك عن الأوزاعي: "بلغني أنه قيل لعيسى ابن مريم عليه السلام: يا روح الله إنك تحيي الموتى؟ قال: نعم بإذن الله. قيل: وتبرىء الأكمه؟ قال: نعم بإذن الله. قيل: فما دواء الحُمْق؟ قال: هذا الذي أعياني".

وفى "أخبار النساء" لابن الجوزى أيضا: "جاء رجلٌ إلى عليّ رضي الله عنه، فقال له: إنّ لي امرأةً كلّما غَشِيتُها تقول: قَتَلْتَني. فقال: اقتلها، وعليّ إثمها". وفيه أيضا أن عبد الملك بن مروان رأى يوما بثينة حبيبةَ جميلٍ الشاعر الأموى "فقال لها: ما رَأَى جميلٌ حين لهج بذكرك بين النّساء كلّهن؟ قالت: الذي رأى فيك النّاس حين جعلوك خليفة من بين رجال العالمين. فضحك حتّى بدت سنٌّ له سوداء كان يخفيها". وفيه أيضا: "قال العتيبي: قيل لبعض الأعراب: ما الذي ينال أحدكم من عشيقته إذا خلا بها؟ قال: اللمس والقُبَل والحديث. قال: فهل يطؤها؟ قال: بأبي أنت وأمّي ليس هذا عاشقًا، هذا طالبُ وَلَد".

ومن كتاب "الأذكياء" لابن الجوزى كذلك: "بلغَنا أن رجلاً جاء إلى حاجب معاوية فقال له: قل له: على الباب أخوك لأبيك وأمك. ثم قال (معاوية) له: ما أَعْرِف هذا. ثم قال: ائذن له. فدخل فقال له: أي الإخوة أنت؟ فقال: ابن آدم وحواء. فقال: يا غلام، أعطه درهما. فقال: تعطى أخاك لأبيك وأمك درهما؟ فقال: لو أعطيتُ كُلَّ أخ لي من آدم وحواء ما بلغ إليك هذا".

وفى كتاب "أشعار أولاد الخلفاء وأخبارهم" للصولى: "قالت عُلَيّة بنت المهدي: ما حرَّم الله شيئاً إلا وقد جعل فيما حلَّل عوضا منه، فبأي شيء يحتج عاصيه والمنتهك لحرماته؟". وفيه كذلك: قالت علية للرشيد (أخيها) بعد إيقاعه بالبرامكة: ما رأيت لك يوم سرور تاما منذ قتلت جعفرا، فلأي شيء قتلته؟ فقال: يا حياتي، لو علمت أن قميصي يعلم السبب الذي قتلت له جعفرا لأحرقته!".
ومن "الصداقة والصديق" لأبى حيان التوحيدى: "كتب يحيى بن زياد الحارثي إلى عبد الله بن المقفع يلتمس معاقدة الإخاء، والاجتماع على المخالصة والصفاء. فلما لم يجبه كتب إليه يَعْتِب، فكتب له عبد الله: إن الإخاء رِقٌّ، وكرهتُ أن أُمَلِّكَكَ رِقِّي قبل أن أعرف حُسْن مِلْكَتك". ومن ذلك الكتاب أيضا: "جاء رجل إلى مطيع بن إياس فقال: قد جئتك خاطبًا، قال: لمن؟ قال: لمودّتك، قال: قد أَنْكَحْتُكَها وجعلتُ الصَّدَاق أن لا تَقْبَل فِيَّ مقالة قائل". ومنه أيضا: "قَرَع رجل باب بعض السلف في ليل فقال لجاريته: أبصري من القارع. فأتت الباب فقالت: من ذا؟ قال: أنا صديق مولاك. فقال الرجل: قولي له: والله إنك لصديق؟ فقالت له ذلك. فقال: والله إني لصديق. فنهض الرجل وبيده سيف، وكيس، يسوق جارية، وفتح الباب وقال: ما شأنك؟ قال: راعني أمر، قال: لا بِكَ! ما ساءك؟ فإني قد قسمت أمرك بين نائبة: فهذا المال، وبين عدو: فهذا السيف، أو أَيِّم: فهذه الجارية! فقال الرجل: لله بلادك! ما رأيت مثلك!".

وفى "معجم الأدباء" لياقوت الحموى أن أبا على الصواف قال يوما للإمام ابن جرير الطبرى لما رآه يمتنع عن أكل التمر لأنه، فى رأيه، يفسد المعدة ويغيِّر النكهة: "أنا آكل التمر طول عمرى، ولا أرى منه إلا خيرا. فقال أبو جعفر: وما بَقِىَ على التمر أن يعمل بك أكثر مما عمل؟ وكان الصواف قد سقطت أسنانه، وضَعُفَ بصره، ونَحُفَ جسمه، وكَثُرَ اصفراره".

وفى "إعتاب الكتّاب" لابن الأبّار: "لما أُدْخِل (يزيد بن أبي مسلم، وكان أخا للحجاج بن يوسف من الرضاع) في نكبته على سليمان بن عبد الملك، وهو مُوثَق في الحديد، ازدراه، ونَبَتْ عَيْنُه عنه، وكان دميما، وقال: ما رأيتُ كاليوم قَطّ! لعن الله امرأً أَجَرَّك رَسَنَه، وحَكَّمَك في أمره! فقال: يا أمير المؤمنين، ازدريتَني لما رأيتَني، والأمر عني مُدْبِر. ولو رأيتَني والأمر عليَّ مُقْبِل، لاستعظمتَ مني ما استصغرت، ولاستجللتَ ما استحقرت! فقال سليمان: صَدَقْتَ، ثَكِلَتْكَ أمك، اجلس! فجلس، فقال له: عزمتُ عليك يا بن أبي مسلم لَتُخْبِرَنِّي عن الحجاج، أتراه يهوي في نار جهنم أم قُرْبَها؟ قال: يا أمير المؤمنين، لا تقل هذا في الحجاج، وقد بذل لكم النصيحة، وأَخْفَرَ دونكم الذمّة، وأَمَّنَ وليَّكم، وأخافَ عدوّكم، وكأني به يوم القيامة على يمين أبيك ويسار أخيك، فاجعله حيث شئت!".

وفى "بدائع البدائه" لابن ظافر الأزدى: "رُوِىَ أن جريرًا دخل على الوليد بن عبد الملك وعنده عَدِيّ بن الرِّقَاع العاملي، ولم يكن جرير رآه من قبل ذلك، فقال الوليد: أتعرف هذا يا جرير؟ فقال: لا يا أمير المؤمنين، فقال: هو ابن الرِّقَاع، فقال جرير: شَرّ الثياب الرِّقَاع، فمن هو؟ قال: هو رجل من عاملة، فقال جرير: هو من الذين قال الله فيهم: "عامِلَةٌ ناصِبَةٌ* تَصْلَى نارًا حامية" . قال: ويلك يا ملعون! فأنشأ جرير يقول:

يقصِّر باعُ العاملي عن الندى ** ولكنّ أَيْر العامليِّ طويلُ
فابتدر عَدِيٌّ فقال:

أأُمّك يا ذا أخبرتْك بِطُوِلِه ** أم انْتَ امرؤٌ لم تَدْرِ كيف تقولُ؟
فقال جرير: امرؤ لم أَدْرِ كيف أقول. فوثب عدي فأَكَبَّ على رجل الوليد يقبِّلها ويقول: أَجِرْني منه يا أمير المؤمنين. فالتفت الوليد إلى جرير وقال: وتُرْبَةِ عبد الملك لئن هجوته لأُلْجِمَنَّك ولأُسْرِجَنَّ عليك ولأُطِيفَنَّك بدمشق، فيُعَيِّرك الشعراء بذلك. فخرج جرير فصنع قصيدته التي أولها:

حَيِّ الهِدَمْلَةَ من ذات المواعيسِ ** فالحِنْو أصبح قَفْرًا غير مأنوسِ
افتخر فيها بنِزَارٍ وعَدَّد أيامهم، وهجا قحطان، وعَرَّض بِعَدِيٍّ ولم يُسَمِّه".

ومن ذلك أيضا ما رد به الرافعى على الدكتور طه حسين حين وصف أسلوبه فى "رسائل الأحزان" بقوله إن "كل جملة من جمل هذا الكتاب تبعث فى نفسى شعورا قويا مؤلما بأن الكاتب يلدها وِلاَدَةً، وهو يقاسى فى هذه الولادة ما تقاسيه الأم من آلام الوضع" (حديث الأربعاء/ ط10/ دار المعارف/ 3/ 122)، فقد أتى رد الرافعى مُخْرِسًا ومُصْمِيًا على النحو التالى: "لقد كتبتُ "رسائل الأحزان" فى ستة وعشرين يوما، فاكتب أنت مثلها فى ستة وعشرين شهرا، وأنت فارغ لذلك العمل، وأنا مشغول بأعمال كثيرة لا تدع لى من النشاط ولا من الوقت إلا قليلا. هأنذا أتحداك أن تأتى بمثلها أو بفصل من مثلها. وإن لم يكن الأمر عندك فى هذا الأسلوب الشاق عليك إلا ولادة وآلاما من آلام الوضع كما تقول، فعلىَّ نفقات القابلة والطبيبة متى وَلَدْتَ بسلامة الله" (الرافعى/ تحت راية القرآن/ دار الإيمان/ القاهرة/ 1926هـ- 1917م/ 83- 84).

ومن أقوال جبران: "عندما يجوع المتوحش يقطف ثمرة من شجرة ويأكلها، وعندما يجوع المتمدن يشتري ثمرة ممن اشتراها ممن اشتراها ممن قطفها من الشجرة"، "قد يكون في استصعابنا الأمر أسهل السبل إليه"، "عجيب لمن يغسل وجهه مرات في النهار، ولا يغسل قلبه ولو مرة واحدة". ولميخائيل نعيمة: "درست القانون لأعرف كيف تُغْزَل الخيوط التي منها تُحَاك أكفان الحق والعدل"، "أَعُدّ الأموات الذين التهمتهم فما أُحْصِيهم، وأَعُدّ الأحياء الذين التهموني فما أُحْصِيهم، ثم أَعُدّني فإذا بي واحد لا غير"، "تَعَاتَبَ الوَتِد والطُّنُب (حبل الخيمة)، فقال الوَتِد: ما ذنبي إليك حتى لتكاد تخنقني؟ فأجابه الطُّنُب: بل ما ذنبي أنا حتى لتكاد تقطعني؟ أَعْتِقْني فأُعْتِقك. وعندما جاء صاحب الخيمة مَكَّن الوَتِد وشَدَّ الطُّنُب، وانطلق إلى الصيد"، "كم من ناس صرفوا العمر في إتقان فن الكتابة ليذيعوا جهلهم لا غير". ولأنيس منصور فى المرأة: "رجل الأعمال الناجح هو الذي يكسب أكثر مما تنفق زوجته"، ‏‏"الزواج جريمة عقوبتها الأولاد"‏،‏‏‏ "آخر ما يموت في جسم الرجل قلبه‏،‏ وفي جسم المرأة لسانها"،‏‏‏ "المرأة تشتري ما لا تحتاج بفلوس لا تملكها لتلفت نظر من لا يهتمون بها"‏.‏

ولا بد بعد هذا كله من كلمة توضيح، إذ يظن كثير منا أن فن الإبيجراما فن أوربى خالص لا يمكن أن يوجد فى الأدب العربى، وإن وُجِدتْ شواهد هنا وهناك كتلك التى التقطناها على سبيل السرعة من مجالات القول الشعرى والنثرى المختلفة فأمر يٌفْتَخَر به كل الفخر لأنه يسوى أدبنا بعض التسوية بآداب أوربا، مع أن المسألة أبسط من هذا كثيرا. ذلك أن الأمر هنا مداره على اختلاف المصطلحات والتقسيمات ليس غير، وإلا ففى فنون الهجاء والغزل والحكمة والفخر والرثاء والوصف والأخبار والطرائف والبدائه وتراجم الأدباء من أدبنا، حسبما رأينا، شواهد على وجود هذا الفن القولى دون أن نسميه اسما مخصوصا، لأنه لا ينفرد بباب ومصطلح خاصين، بل هو شائع فى عدة فنون من فنون الشعر والنثر لدينا كما قلنا. وهذا يذكِّرنى بما يردده بعضهم على سبيل الاتهام والتنقص الجاهل الأرعن من أن اللغة العربية لا تعرف ما يسمَّى فى النحو الإنجليزى والفرنسى والألمانى مثلا بالــ"adverb"، وفاتهم أن "الأدفرب" فى لغتنا أدق وأكثر تفصيلا وأغنى تلوينا منه فى تلك اللغات الغربية، فهو موزع فى النحو العربى على أبواب الحال والمفعول المطلق وظرفى الزمان والمكان...، وفيه تفصيلات وأوضاع وأحكام وتراكيب لا يعرفها "الأَدْفِرْب" الأوربى. وبهذا المنطق يمكننا، ومعنا كل الحق، أن نقول إن آجُرّومِيّة اللغات الأوربية لا تعرف مثلا أبواب "كان" ولا "كاد" ولا "ظن" وأخواتهن، ولا تعرف باب "المفعول لأجله"، كما لا تعرف أدوات الشرط وأدوات الاستثناء بهذه الوفرة والدقة التى تعرفها لغتنا، وإن كان هذا لا ينافى وجود الفعل "كان" و"ظن" و"أَدْفِرْبًا" أو اثنين يؤديان معنى "كاد"، و"حرفين" يؤديان معنى الاستثناء. لكن هذا شىء، ووجود باب المفعول لأجله، وكذلك الأفعال المذكورة وأخواتها بالتفصيل والدقة المتاحة فى اللسان العربى شىء آخر. كما يتضح من هذه الشواهد، وهى مأخوذة على سبيل السرعة كما أومأنا، أن ما قاله طه حسين من أن الإبيجرام (أو "الأنُقْوُشة" بالأحرى) كانت موجودة فى العصر العباسى عند بشار وبعض أصحابه ثم اختفت، هو كلام ينقصه الاستقصاء، ومقطع الحق هو ما قالته الشواهد المتنوعة التى سُقْتُها من عصور الأدب العربى المختلفة: شعره ونثره، وهو أنها موجودة بطول تاريخ هذا الشعر والنثر، وليست مقصورة على بعض أشعار بشار وأضرابه وحدهم، وإن لم يلتفت الشعراء والناثرون أو النقاد إليها بوصفها فنا خاصا له مصطلح خاص. وفى المقابل فإن الأشعار الأوربية لا تعرف مثلا بناء القصيدة العربية التقليدية الذى كان يقوم على الوقوف بالأطلال فالخروج منه إلى الرحلة ووصف الدابة والصحراء وأواجن المياه والوحش والانتهاء بالمديح والحكمة، كما لم تكن تعرف التقسيمات التى يعرفها الشعر العربى من مديح ووصف وحماسة وهجاء ورثاء وحكمة...، وإن لم يعن هذا أن أصحابه لم يكونوا ينظمون فى هذه الموضوعات، بل المقصود أنهم لا يعتمدون هذه التقسيمات ولا يعنونون بها أشعارهم كما نفعل نحن، كقولنا مثلا: "وقال فلان فى الحماسة"، أو "وقال فى الغزل"... إلخ. وكذلك لا يوجد فى أشعارهم وأنثارهم ما يسمَّى عندنا بالرَّجَز أو الموشحة أو المخمَّسات أو المقصورات أو المطارَحات أو التواريخ أو الأحاجى أو المواليا أو المقامات أو الأخبار أو السِّيَر الشعبية مثلا أو التفرقة اصطلاحًا بين القصيدة والمقطوعة والنّتْفة، ولا عندهم أوزاننا وقوافينا ولا حرصنا على التزاويق البديعية فى بعض عصور آدابنا، كما أنهم لا يجرون فى أشعارهم على قافية واحدة من البداية للنهاية كما كنا نفعل إلى وقت قريب. ورغم ذلك كله فإنه لا يسوغ لنا أن ننكر وجود الوزن والقافية عندهم، بل كل ما نقول إن لهم بحورًا وقوافىَ واصطلاحاتٍ موسيقيةً شعريةً تتبع نظامًا مختلفًا عما لدينا، كما أن لهم صورًا من النظم وألوانًا من الموضوعات خاصة بهم، مثل السوناتا والبالاد وما إلى ذلك. وإذن فمن الحق الذى لا ريب فيه ما قاله د. عز الدين إسماعيل من أننا "نستطيع، بوصفنا قراءً واعين بهذا النوع الأدبى، أن نستخرج من بعض ما نقرأ من النصوص الأدبية، الشعرية والنثرية، القديمة والحديثة (يقصد: فى آدابنا)، أمثلة تحقق على نحوٍ يتفاوت قلةً وكثرةً نموذج الإبيجراما" (عز الدين إسماعيل/ دمعة للأسى.. دمعة للفرح"/ شركة مطابع لوتس/ القاهرة/ 2000م/ 15).
هذا عما كتبه طه حسين فى تأصيل ذلك الفن، وهذا ما وجدتُه بسرعة من شواهد شعرية ونثرية تدل على أن العرب عرفوا هذا الفن رغم أنهم لم يتنبهوا إلى أنهم يمارسون فنا متميزا مستقلا عن سائر فنون الشعر وأغراضه، بل كانوا يمارسونه بتلقائية وبساطة. أما ما حاوله الدكتور طه من الإبداع فى ذلك المجال فإننى أستطيع أن أقول إنه لم يَقْدِر أن ينتج شيئا ذا بال من نصوص هذا الفن حسب تعريفه هو له! لقد أراد الرجل أن يكون أول من يشق الطريق أمام هذا الفن فى ميدان النثر العربى ويمهده تمهيدا، وهذا أمر مشكور له ومقدور، بيد أن ذلك شىء، والقول بأنه قد وُفِّق فى إنجاز هذه المهمة شىء آخر، إذ ما أكثر النيات الطيبة التى لم يتمكن أصحابها من وضعها موضع التنفيذ، أو من إحسان هذا التنفيذ على الأقل. والدكتور طه هنا هو واحد من الذين عزموا على شىء، لكن ظروفهم وإمكاناتهم قعدت بهم عن بلوغ مدًى متقدمٍ فى مضمار ذلك الشىء. ولا يقلِّل هذا من جهود أولئك الرواد أبدا، وإن لم يمنعنا فى ذات الوقت من القول بأن الناتج المتاح أقل كثيرا مما كان متوقَّعًا مأمولا. وهذه طبيعة الأمور فى كثير من الأحيان: أن يكون المبرّزون فى ميدان من الميادين أشخاصًا آخرين غير رُوّاد ذلك الميدان الذين يكونون قد استنفدوا جهودهم وطاقتهم فى عملية الشق والتعبيد!
وكنت قد عدت إلى كتاب الدكتور طه حسين وأنا بسبيل إعداد هذه الدراسة التى بين يدى القارئ فقرأت مقدمتها المذكورة، لكنى اهتبلت هذه السانحة وقلت: أقرأ ما أراد الرجل أن يبدعه فى هذا الصدد كى أعرف إلى أى مدى تاح له أن ينجح فى ذلك الميدان. وكان قد سبق لى أن تناولت هذا الكتاب وأنا شاب صغير أكثر من مرة، لكنى لا أذكر أنى أتممته أو مضيت فيه طَلَقًا فسيحًا. ولست أستطيع الآن أن أحدد السبب الذى منعنى أوانذاك من المضى مع الكتاب إلى آخره، وأنا المحب لقراءة طه حسين رغم نفورى من التيار الفكرى الذى يمثله بوجه عام، وإن استثنيت من ذلك الحب ما كتبه الرجل من روايات، إذ كنت وما زلت أراها دون المستوى المطلوب بل دون المستوى الذى بلغه معاصروه مثل المازنى والعقاد والحكيم.

وربما كان لما يسربل هذه الأقوال التى يتضمنها الكتاب من تصنّع وجَرْى على وتيرة واحدة مَدْخَلٌ فى ذلك العزوف عنها، لكنى أتصور أننى قادر الآن على تحديد الأسباب التى أشعر معها بعدم التجاوب مع الكتاب: ففضلا عما أشرت إليه من التكلف الذى يسربل ما فيه من أقوال، إذ لا يمضى الكلام طبيعيا إلا فى الشاذ النادر، هناك الافتقار إلى المرونة الأسلوبية والفكرية التى ينبغى فى رأيى أن تتوفر لمثل تلك الأقوال حتى تكونَ جديرة بالعلوق بالذهن بل بالانتقاش فيه، وحتى تُغْرِىَ من يقرؤها بترديدها فى كلامه وتشدّ الآذان التى يقدَّر لها أن تسمعها شدًّا لا تمكن مقاومته. كما أن كثيرا منها طويل طولا تفقد معه التوتر المطلوب فيصبح كالنكتة التى تتمادى فى التفصيلات حتى إذا انتهى منها صاحبها سخر منه المستمعون قائلين: هيه؟ أوقد انتهت نكتك؟ بالله عليك قل لنا إنها قد انتهت كى نضحك! وبالإضافة لهذا فإنها كلها تقريبا تسير على وتيرة واحدة مسئمة: "قال الطالب بالفتى لأستاذه الشيخ: ...، قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: ..."، وهو ما يذكرنا بالمطرب على المسلِّكاتى الذى يحكون عنه أنه كان يقضى الليل كله صائحا فى صوت منكر: أنا زعلان، فترد عليه الجوقة التى وراءه بصوت أنكر نُكْرًا: زعلان ليه؟ فيرد بدوره على سؤالهم قائلا: أنا زعلان، ليكرروا هم أيضا نفس السؤال: زعلان ليه؟ فيأتيهم ذات السؤال، ليشفعوه بذات الجواب... وهذا دواليك حتى ينصرم الليل وتنهزم جحافل ظلامه وينبلج الصبح وينصرف المغنى والجوقة، والمستمعون أيضا فوق البيعة، إلى منازلهم ليناموا ويحصلوا على قسط من الراحة من هذا الإزعاج المقيت!

وفوق هذا فقد كان طه حسين حريصا على أن يكون عنوان كل مقطوعة كلمة واحدة ليس إلا، كما أنه قد اضْطُرّ جَرّاءَ هذا التضييق الذى لا معنى له ولا مغزى وراءه، إلى تكرار بعض عناوينه، بل وجاء هذا التكرار فى غير قليل من الأحيان متتابعا يقفو بعضه إثر بعض، مثلما كرر عددا من الآيات القرآنية التى كان يستشهد بها فى بعض هذه المقطوعات. ومن تكراره العناوين أنك تجد أربع مقطوعات قد وردت تحت عنوان "حرية"، وأربعا أخرى تحت عنوان "معارضة"، وثلاثا تحت عنوان "إخاء"، وثلاثا مثلها تحت عنوان "هجاء"، واثنتين تحت عنوان "غرور"، واثنتين أُخْرَيَيْن تحت عنوان "رعيّة"، ومثلهما مرةً ثالثةً تحت كل من العناوين التالية: "هجرة"، و"رُقِىّ"، و"ذوق"، و"توبة"... وهلم جرا. ثم إن أقاويل طه حسين تفتقر إلى "القفلة الحرّاقة" التى لا تكون الإبيجرام إبيجرامًا بدونها كما قال هو، إذ ذكر أن "هذا الفن يمتاز بخصلة أخرى لا أدرى كيف أصوِّرها، ولكن سأحاول ذلك كما أستطيع، وهى أن تكون المقطوعة منه أشبه شىء بالنصل المرهف الرقيق ذى الطَّرَف الضئيل الحاد قد رُكِّب فى سهم رشيق خفيف لا يكاد ينزع عن القوس حتى يبلغ الرَّمِيّة ثم ينفذ منها فى خفة وسرعة ورشاقة لا تكاد تُحَس. ومن هنا امتاز هذا الفن بالبيت الأخير أو البيتين الأخيرين من المقطوعة، فهما يقومان منها مقام الطرف الضئيل الرقيق الرشيق من نصل السهم.

فإذا كانت المقطوعة بطيئة الحركة ثقيلة الوزن فليست من هذا الفن فى شىء. وإذا كانت المقطوعة مثلومةَ الحدّ كَلِيلَةً لا تقطع إلا بعد جهد جهيد ولا تنفذ إلا بعد مشقة فليست من هذا الفن فى شىء" (ص 413- 414). وبناء على هذا نقول بلغة طه حسين: إن نُصُوله ليست مرهفة ولا ضئيلة، بل ليست هناك فى الحقيقة نصول على الإطلاق لا مرهفة ولا غير مرهفة، أو كما قلت أنا مستعيرًا لغة الموسيقيين والمطربين: إن فقراته تفتقر إلى "القفلة الحرّاقة". بل إن معظم أقاويله، أو "مقطوعاته" كما سماها، لا تنتمى إلى فن "الإبيجرام" بحال: قد تكون حكمة. قد تكون تحليلا لفكرة ما. قد تكون ملاحظة على أمر من أمور الحياة أو النفس البشرية أو ما إلى هذا، لكنها تخلو تماما من العنصر الإبيجرامى الأصيل، ألا وهو عنصر المفارقة. أى أنها تَعْرَى عن الحبكة، إذا جاز لى أن أستلف شيئا من مصطلحات الفن القصصى. باختصار: ليس فى كثير من أقاويل طه حسين، بل ليس فى معظمها بناء إبيجرامى. وفوق ذلك كله فكثيرا ما طالت الإبيجرام فى يد طه حسين فخالفت شرطا آخر من الشروط التى أرستها تقاليد هذا الفن ونبَّه هو إليها بقوة، كما أنها لم تخطئ عنده ولا مرة فتبعثنا على الضحك قط!

وبالمثل ليس فى هذه الأقاويل "تلك الخصلة التى شاعت فى هذا الفن عند القدماء من اليونانيين واللاتينيين والعرب، وإن لم تكن شاملة ولم تبلغ أن تصير قانونا من قوانين الفن، وهى الحرية المطلقة التى يتجاوز بها أصحابها حدود المألوف من السُّنَن والعادات والتقاليد، والتى تدفع أصحابها إلى الإفحاش فى اللفظ والإفحاش فى المعنى، وإلى التحرر مما يفرضه الذوق النقى على الرجل الكرم حين يتحدث إلى الناس أو حين يتحدث عن الناس. وأنت واجد من هذا شيئا كثيرا عند بشّار وأصحابه فى البصرة والكوفة وبغداد، كما أنك واجد منه شيئا كثيرا عند كليماك ومارسيال وأصحابهما من شعراء الإسكندرية وروما، ولعلك تجد شيئا من هذا عند بعض الشعراء المُحْدَثين قبل الثورة الفرنسية فى إيطاليا وفرنسا، ولكنه قليل بالقياس إلى ما نجده عند القدماء" (المرجع السابق/ 414). وبطبيعة الحال لست أقصد بكلامى هنا أن يُفْحِش الكتاب والشعراء كى نرضى عنهم ونقول: لقد أحسنوا فى إبداع الإبيجراما، بل إننى لا أنتظر أصلا من طه حسين أن يقصد إلى هذا الإفحاش، لكن ما نحسّه فى مقطوعاته ليس أيضا هو المطلوب ولا بالذى يمكننا أن نرضى أو حتى نُغْضِىَ عنه، ففى تلك المقطوعات فتور كبير يبلغ حد التثاؤب، ولا ينقصنا إلا أن نرفع أكفنا إلى أفواهنا ندفع بها هذه الثُّؤَباء أو على الأقل نغطى بها أفواهنا المفتوحة، إذ هى تخلو حتى من ذلك التهكم اللذيذ الذى نلقاه لدى طه حسين نفسه فى بعض الأحيان عندما يكون بصدد الرد على أحد خصومه أو منتقديه، والذى قد يتخذ ثوب التواضع المصطنع أو التقليل من شأن الذات على سبيل التظاهر (كما فى رده مثلا على حلمنتيشيات محمود أمين العالم وعبد العظيم أنيس الحنجورية فى مقاله المكتوب فى الخمسينات بعنوان: "يونانىٌّ فلا يُقْرَأ" والموجود حاليًّا فى كتاب "خصام ونقد")، أو مقالته الأخرى التى جعل محورها ديكارت ومخطوطته الزائفة، والتى تضمنت حملته المتجنية الظالمة على أساتذة الأزهر (الأزهر الذى صَنْفَره وأزال الجَلَخ الذى كان يغطى نفسه وعقله وملابسه ويديه ورجليه ووجهه وسائر بدنه أيام أتاه من الصعيد خاملا هاملا فرفعه ورقّاه وجعل منه إنسانا، فإذا به ينكر كل ما فى الأزهر ويسخر من جميع ما يتعلمه فيه طلابه ولا يجد فيه شيئا يمكن أن يصلح لشىء، وذلك تقربا من فرنسا الصليبية وزوجته العاملة التى التقطها من أمام "الكيس: la caisse" فى أحد دكاكين الحلاقة بباريس ودفع فيها ثمنا غاليا لا تستحقه ولا نصفه ولا رُبْعه ولا عُشْره ولا واحدا على المائة أو الألف أو حتى المليون منه لأنه دفع ذلك الثمن من دينه وكرامته وإخلاصه لأمته، وذلك حتى ترضيا عنه

فأما فرنسا فقد رضيت عنه بحمد الله الذى لا يُحْمَد على مصيبة سواه هى وسائر بلاد الغرب وأذنابهم عندنا رضا عظيما إن جاز أن يوصف مثل ذلك الإثم والعار بالعظمة، وأما زوجته خريجة دكاكين الحلاقين فكانت تشمخ بأنفها عليه وعلى كل ما يمت له بصلة، وأىّ شموخ، إذ ظلت مثلا تتكلم طوال حياتها فى مصر التى استغرقت عشرات السنين، ويتكلم معها هو وولداه أيضا، لغة بلدها ولم تنزل مرة واحدة فتفكر فى تعلم لغة البلد الذى تعيش فيه والذى ينتسب إليه رجلها والذى ارتفعت فيه إلى مرتبة لم تكن تحلم بها ولا فى أحلام المجانين، كما أنها لم تلتفت للهراء الذى كان يقوله عن التنوير والعقلانية لمعرفتها أنه ليس لاستهلاك أمثالها بل لاستهلاك المسلمين فقط لتشكيكهم فى دينهم، وظلت تتردد على الكنيسة حتى ماتت دون أن تتخلف ولا فى مناسبة واحدة من مناسباتها، أما هو فلا مسجد ولا صلاة ولا صيام ولا حج)، أو فى كلامه عن المرحوم مصطفى صادق الرافعى محاولاً التقليل من مكانة هذا الكاتب الكبير حين شبَّه كتابته المتميزة بأنه كان يشعر وهو يقرؤها أنه بإزاء امرأة حامل فى حالة ولادة متعسرة، مما حدا بالرافعى العجيب إلى أن يرميه بداهية من دواهيه أسكتته وأفحمته فلم ينبس ببنت شفة ولا بابنها، إذ تحداه أن يجرب الحَبَل بمثل هذا الإبداع، ولا عليه من نفقة القابلة وتكاليف الوضع، ولا يَشْغَلْ نفسه بشأنها، فلسوف يقوم هو بالأمر كله، ولن يجشمه منه شيئا، وهو ما يجده القارئ فى الجزء الأخير من كتاب "حديث الأربعاء" كما سبق بيانه... كل ذلك دون أن يخدش آذانَنا أو نفوسَنا كلمةٌ جارحةٌ أو خارجةٌ من أىٍّ من الطَّرَفين! أما فى المقطوعات التى فى هذا الكتاب فيبدو كاتبنا وكأنه يتكلم من وراء قلبه لأنه ليس له، فيما يخيل لنا، موقف أو رأى واضح ينافح عنه فى قضية من القضايا التى تشغل الناس يعمل على أن يعلنه عليهم. إنما هو كلام يملأ به الصفحات ويسوِّد به وجهها، والسلام! وكل ما يريده هو أن يقول الناس عنه إنه يكتب الإبيجرام وإنه أول من أدخلها ميدان النثر العربى.

لقراءة القسم الثاني انقر هنا:
القسم الثاني

القسم الأول من ثلاثة

مشاركة منتدى

  • أصبح من المؤكد أن رائد قصيدة التوقيعة(الابيجرام) هو الشاعر الفلسطيني عزالدين المناصرة منذ عام 1964 حين نشر أولى توقيعاته وقدم لها تعريفا نقله كثيرون عنه يتطابق تماما مع مصطلح الابيجرام والومضة لكن المناصرة أراد له اسما عربيا استوحاه كما صرح مرارا في حواراته الصحافية من التوقيعات العباسية النثرية مستعينا بفكرة الهايكو الياباني والابيجرام وغيرها. أما عزالدين اسماعيل فهو ليس شاعرا محترفا مثل الشاعر المناصرة... ثم ان مجموعة الدكتور اسماعيل نشرت متأخرة جدا عام 2000 أي بعد 36 سنة من كتابة المناصرة لها.

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى