الجمعة ١٠ شباط (فبراير) ٢٠٠٦
بقلم إبراهيم عوض

كلام مثل عدمه عن العقاد وطه حسين وأحمد مطر وأدونيس ومحمد عباس..

القسم 2 من 3 أقسام

لقراءة القسم الأول من الدراسة انقر هنا

القسم الأول

وقد سبق آنفا أن قلنا: بحَسْب الدكتور طه حسين أنه، فى حدود ما نعرف، أول من أفاض القول شيئا من الإفاضة فى الحديث عن تاريخ هذا الفن وتبيان خصائصه، أما الفَلاَح فى تحويل هذا الكلام النظرى إلى تطبيقات رائعة فدون ذلك عنده خَرْط القَتَاد كما يقول القدماء. وهأنذا أسوق بعضا من مقطوعات طه حسين كى يُلِمّ القارئ جيدا بما أقول ويكون على نورٍ مما أوردتُه على أقاويل الرجل من معايب: فمثلا تحت عنوان "دعاء" نطالع السطور التالية:

"قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: علِّمْنى كلماتٍ أتجه بهن إلى الله فى أعقاب الصلوات الخمس، فإنى أجد فى نفسى حاجة إلى الدعاء فى هذه الأيام الشداد. قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: سَلِ الله يا بنىّ أن يعصمك من صِغَر النفس الذى تَضْخُم له الأجسام، ومن ضيق العقل الذى تتسع له البطون، ومن قِصَر الأمل الذى تمتدّ له أسباب الغرور. وكنت حاضرا هذا الحديث بين الأستاذ الشيخ والطالب الفتى، فقلت فى نفسى: ما أجدر الشباب المصريين أن يتخذوا من هذا الدعاء لأنفسهم برنامجا وشعارا!" (ص 419).

فهذه الكلمات التى لا يمكن أن تُوصَف بأكثر من أنها نصيحة عاديّة ليس فيها أى تميز، هى كل ما هنالك مما يريدنا الشيخ طه أن نقول عنه إنه إبيجراما وإنه هو أول من أدخلها إلى الأدب العربى نثرا. وتحت عنوان "ذوق" نقرأ القطعة التالية:

"قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: إنكم لَتُعَلّموننا من العلم ما يُفسِد علينا الذوق والحكم جميعا. قال الأستاذ الشيخ وهو يبتسم لتلميذه الفتى: وما ذاك؟ قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: ذاك أنى قرأت بيتا كان طبعى خليقا أن يُعْجَب به لولا أنكم تعلموننا الشك وسوء الظن والبحث عن الأسباب التى تدعو الشاعر إلى أن يقول، والكاتب إلى أن يكتب. فلما قرأت هذا البيت من الشعر وهَمَّ طبعى أن يرضى عنه ويُعْجَب به ويطيل تعمُّقه والتفكير فيه سألتُ نفسى ما علَّمتمونى أن أسألها: ألا يمكن أن يكون مصدر هذا البيت رَغَبًا أو رَهَبًا أو حَسَدًا؟ فأدركنى فتورُ الهمة وكَلاَلُ الحدّ. قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: وما هذا البيت؟ قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: هو بيت قاله رجل من ذوى الرأى كان يُرَدّ دائما عن باب الحجاج:

ألا رُبَّ نُصْحٍ يُغْلَق الباب دونه *** وغِشٍّ إلى جنب السرير يُقَرَّبُ

قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: وما عليك أن يكون مصدر هذا البيت رَغَبًا أو رَهَبًا أو حَسَدًا أو غير ذلك من عواطف الشر والخير؟ أتراك تُعْرِض عن الزهرة الجميلة والوردة النَّضْرة والعشب ذى الرُّوَاء والبهجة حين تعلم ما يتخذ البستانىُّ من الوسائل إلى استنباتها وجعلها زينة للحياة؟ قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: لا. قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: فاستمتعْ بالأدب وتعمقْ معانيه وذق جماله كما تستمتع بالحديقة، واجعل بحثك عن التاريخ الأدبى كبحث أستاذ الزراعة عن أصول الزهر والشجر، لا يصرفك عن المتعة ولا يزهِّدك فى اللذة، ولعله أن يغريك بهما ويرغِّبك فيهما. أليس من الرائع أن الله يخرج الحى من الميت والجميل من القبيح؟" (ص 432- 433). فانظر بالله عليك أيها القارئ إلى هذا التطويل واللت والعجن والتكرار السخيف دون طائل، اللهم إلا ليقرر الكاتب لنا فكرة شائعة مطروقة بين النقاد والأدباء لا تستحق أن يخصِّص لها مقطوعة كهذه بل لا تستحق أن يُعَنِّىَ نفسه ويُعَنِّيَنا معه أيضا بها. ثم انظر ثانية بالله عليك أيها القارئ كيف خلت المقطوعة من القفلة الحرّاقة أو حتى المفارقة والتوتر، وأفرط الكاتب فى البرود المُمِلّ المُثْئِب! أين هذا من فن الإبيجرام الذى أنفق فيه كاتبنا الهمام الصفحات الطوال العراض ليشرحه لنا ويزف دخوله فى النثر العربى على يديه المباركتين إلينا! ومع ذلك فخذ هذه أيضا، وقد عنونها الكاتب بعنوان "رياضة":

"قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: أى الرياضة أحبّ إليك؟ قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: المشى. قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: إنما أردت رياضة النفس. قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: دَفْعُها إلى ما تكره، وصَدُّها عما تحب، ذلك أَحْرَى أن يعيننى على مخالطة الأهل ومعاشرة الأصدقاء ومعاملة الناس" (ص 509). وإننى لأتساءل: وهل كان هناك لزوم لهذه اللفة الطويلة العريضة من الكلام أولا عن المشى قبل أن يبيّن الطالب الفتى لأستاذه الشيخ بعد ذلك أنه ما إلى هذا قصد بل إلى رياضة النفس، ثم قبل أن يعلن الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى فى النهاية أنه يَرُوض نفسه بكَيْت وذَيْت مما يعرفه كل أحد ولم يضف إليه الكاتب شيئا من رواء الفن؟ ألا إن أصدق ما يصدق على مثل هذا الكلام الذى لا طائل تحته ولا جدوى وراءه هو ما يقوله المثل الشعبى: أذنك من أين يا جُحَا؟ ويا له من جُحًا ذلك الجُحَا!

ثم خذ هذه أيضا، ولتكن الخاتمة، ولكنها للأسف ليست بالخاتمة الحسنى، وعنوانها: "سرعة": "قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: لم يكد فلان يغضب حتى رَضِىَ. قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: ذَكَرَ قول بشّار:
صَدَّتْ بخَدٍّ وجَلَتْ عن خَدِّ *** ثم انثنتْ كالنَّفَس المرتدِّ"

(ص 514). ووالله إنى لا أدرى ما الذى حمل طه حسين على كتابة هذا الكلام الذى لا قيمة له، اللهم إلا إذا كان يظن أنه تلميذٌ مطالَب بإيراد شاهد من الشعر القديم على التغير فى الحالات النفسية دون سبب، أو أراد استعراض محفوظه على الفاضى من ذلك الشعر. لكن هل هذا السبب السخيف التافه هو سببٌ كافٍ لكتابة ما مر؟

وليس الأمر كذلك فى كتاب العقاد الموسوم بــ"آخر كلمات العقاد"، وهو الكتاب الذى صدر بعد وفاة العملاق الأسوانى بقليل: أصدره ابن أخيه المرحوم عامر العقاد جامعًا فيه ما خلَّفه عمه وراءه من أقوال قد تَقْصُر حتى تكون سطرا أو سطرين، وقد تطول حتى تصبح صفحة أو صفحتين مثلا، وهى أقوال كان العقاد رحمه الله يكتبها على فترات متباعدة فيما يبدو وملأ بها طائفة من المفكرات الصغيرة وجدها الأستاذ عامر بعد وفاته حسبما كتب فى مقدمة ذلك الكتاب:

"فبعضها حِكَم، وبعضها الآخر مشروع لكتابة مقال أو تأليف كتاب" (آخر كلمات العقاد/ سلسلة "اقرأ"/ العدد 267/ مارس 1964م/ 23). وقد سماها العقاد الصغير: "أوابد"، قائلا إن هذا اللون من الكتابة يتسع للمعانى الروحية ولواذع الوعظ والتبكيت ويتم باللباقة الفنية ورشاقة العبارة وسهولة الأداء (المرجع السابق/ 5)، ثم موضحا فى موضع آخر من المقدمة المذكورة أن "الصفحات التى فى هذا الكتاب جميعا تفيض بأمثال من الأوابد والكلمات المأثورات التى تفاجئك وتَصْدُقك وتعجبك وتقول لك فى كلمات ما لا يقال فى صفحات. ومن محاسن هذه الأوابد أيضا أنها تكافئ قارئها على زيادة المشقة بزيادة الحقيقة وزيادة المتعة بالاهتداء إليها. فإذا كانت نكتة الآبدة خفية بعض الخفاء ولم تسفر عن وجهها لأول نظرة كما يقولون فذلك دليل على متعة أبقى وجمال أسمى". ثم يمضى الكاتب ذاكرا أن الكلمات الموجزة التى يُعْنَى بها تاريخ الآداب أنواع كثيرة لأنها، وإن تماثلت فى الإيجاز، لا تدخل كلها تحت عنوان واحد: فقد تكون مثلا سائرا، وقد تكون حكمة، وقد تكون جوابا مسكتا، وقد تكون وصية، وقد تكون شعارا، وقد تكون خاطرة. كما قد تكون آبدة أو شاردة كما فى كتاب العقاد الذى بين يدينا، وهى ما يسميه الأوربيون باسم "الإبيجرام"، وليس لها فى العربية مصطلح يدل عليها لأنها، كما يقول، تتوزع بين الأغراض التى سقناها آنفا على اختلافها (ص 21).

ويقترح المرحوم عامر العقاد أن تسمَّى هذه الإبيجرام بــ"الآبدة"، إذ هى تجمع بين المعانى السالفة، ثم تزيد عليها بألوان من الجموح والتمرد والغرابة، وهذه الألوان هى من لوازم الإبيجرام كما يفهمها الغربيون بعد أن مرت بمراحل تطوراتها المختلفة منذ عهد الإغريق حسبما جاء فى كلامه. "فالآبدة تشتمل على شىء من المفاجأة يصدم السامع للوهلة الأولى كأنه مناقضة لكل رأى أو حكمة معهودة، ثم يسكن إليها، فإذا هى حق لا غرابة فيه. وفى الآبدة شىء من التورية والملاغزة كأنها تعرض على السامع أُحْجِيّة للحل أو سؤالا للامتحان. وفيها لذع خفى أو ظاهر فلا تخلو فى أكثر صيغها من وخزةِ سَخَرٍ أو غمزةِ تبكيتٍ، وتتأخر فيها اللذعة إلى ختامها فتمرّ مأمونة سليمة إلى كلمتها الأخيرة، ثم يلتفت السامع إلى اللذعة بعد انتهائها. ومن هنا سماها بعض أدباء اللاتين بــ"العقرب" لأن لذعتها مخبوءة فى زُبَانَاها. والرشاقة فى تناول المعنى شرط من شروط الآبدة لأنها لا تقال بلغة التعليم والتعريف بل بلغة الصوامع والمحاريب وأساليب التنجيم والتأويل، فلا بد فيها من بعض الخفاء وبعض الرمز وبعض الإيحاء. وهى غير الخاطرة والوصية فى قبول الزيادة والإسهاب: فإن الخاطرة تزداد وتستطيل، والوصية الواحدة تُكْتَب فى سطر، وتُكْتَب فى صفحات، أما الآبدة فهى فى صيغتها كالبنية العضوية التى تَكْمُل بانتهائها فلا تقبل المد والإطالة كما لا تقبل البِنْيَةُ الحيّةُ زيادةَ عضو أو إطالةَ تركيب" (21ــ 22). وهذا الكلام، كما يلاحظ القارئ، يتسق مع ما قلناه من أن الإبيجرام قد تطورت عما كانت عليه فى بداءة أمرها، وأنها قابلة لقبول أنوا ع أخرى من التطوير. وبالمناسبة فقد فرَّق عامر العقاد بين ثلاثة أنواع من كلمات العقاد التى جمعها فى ذلك الكتاب: فهناك الأوابد كما سماها، وهناك الحكم المأثورات، وهناك التعليقات التى كان العقاد يعقِّب بها أحيانا على ما كان يقرؤه، وفى هذه الحكم والتعقيبات ما قد يطول فيبلغ صفحة أو صفحتين. والواقع أنه لا يوجد فرق واضح بين ما سماه ابن أخى العقاد: "أوابد" وما سماه: "حِكَما مأثورة"، ومن هنا فلست أفهم السبب فى تفريقه بينهما. أما التعليقاتُ المُومَأُ إليها فهى فعلا شىء مختلف لا يمكن التباسه بتلك الأوابد أو هذه الحكم المأثورة.

ومن مناقشتنا السابقة للمقدمة المهمة التى صدَّر بها عامر العقاد كتاب عمه يتضح لنا وجه التعجل فيما قاله الكاتب السعودى محمد حسن با فقيه فى باب "ثقافة وفنون" من جريدة "الرياض" (عدد الخميس 7 رمضان 1425هـ- 21 أكتوبر 3004م) من أن صنيع طه حسين فى "جنة الشوك" كان، فيما يبدو، بمثابة جملة اعتراضية لم تسبقها ولم تلحقها جملة شبيهة بها إلى أن أخرج د. عز الدين إسماعيل ديوانه: "دمعة للأسى.. دمعة للفرح"، أى أن عمل الدكتور طه حسين قد ظل، كما يقول الكاتب المذكور، خمسة وخمسين عاما وحده فى الساحة سواء فى جانبه النقدى النظرى أو فى جانبه الإبداعى التطبيقى. وهذا كلامه نصًّا: "ويبدو أن مقدمة طه حسين تلك كانت العمل النقدي الوحيد في الأدب العربي المعاصر التي حددت معالم هذا "النوع الأدبي"، كما كانت تلك النصوص النثرية القصيرة التي اشتمل عليها الكتاب أول ممارسة إبداعية عربية من خلال ميثاق أدبي ونقدي هو "الإبيجراما". وإن كانت تلك التجربة لم تورث تجارب أخرى أدبيا ونقديا كمثيلاتها من الأنواع الأدبية التي ترسَّم بها الأدباءُ العربُ المعاصرون آثارَ الآداب الأوروبية الحديثة في القصة القصيرة والرواية والمسرحية. وكأن قَدَر هذا "النوع الأدبي" أن يولد مع طه حسين، ثم لا يلبث أن يموت بموته! غير أن ما بدأه طه حسين عام 1945م لا يلبث أن يجد صدى له بعد خمس وخمسين سنة. كان ذلك مع الناقد عز الدين إسماعيل الذي كرر التجربة نفسها، حينما قدم نفسه للقراء شاعرا، واتخذ لها الشعر طريقا للوصول إلى القارئ عبر ديوانه "دمعة للأسى.. دمعة للفرح" الذي أصدره عام 2000م". ووجه العجلة فى كلام الكاتب السعودى أنه يناقض ما نعرف من أن لعامر العقاد صفحاتٍ غيرَ قليلةٍ عن فن الإبيجرام أرَّخ فيها لهذا الفن وحلل ما تركه عمُّه فى هذا المجال مما تناولناه فى الفقرة السابقة، فضلا عما سيتبين لنا فيما يلى من صفحات أن هناك شعرا ونثرا ينتميان بكل قوة وشرعية إلى هذا الفن سَبَقَا ديوان الدكتور عز الدين بقرون واستمرا إلى زمنه، وإن لم يسم المبدعون ذلك تسمية خاصة. وقد كان الدكتور عز الدين أحرص وأكثر احترازًا فى كلامه وهو يعرض لهذه القضية، إذ استخدم عبارة "فى حدود ما أعرف"، وهذا نص ما قال: "فى حدود ما أعرف لم يعرض أحد من الأدباء أو الكتاب العرب فى الزمن القديم أو الحديث لهذا النوع الأدبى إلا طه حسين، وذلك فى مقدمة كتابه: "جنة الشوك"..." (عز الدين إسماعيل/ دمعة للأسى.. دمعة للفرح"/ 10). يقصد من الناحية النقدية والتأريخية لا من الناحية الإبداعية لأنه يرى أن الأدب العربى عرف الإبيجرام أو أشياء كالإبيجرام، وإن لم يعرف لها مصطلحا مستقلا.

قلت فى معرض المقارنة بين ما صنعه طه حسين وما تركه لنا العقاد من كلمات: "وليس الأمر كذلك فى كتاب العقاد الموسوم بــ"آخر كلمات العقاد"، وهو الكتاب الذى صدر بعد وفاة هذا العملاق بقليل: أصدره ابن أخيه المرحوم عامر العقاد جامعا فيه ما خلفه عمه وراءه من أقوال قد تقصر حتى تكون سطرا أو سطرين، وقد تطول حتى تصبح صفحة أو صفحتين مثلا، وهى أقوال كان العقاد رحمه الله يكتبها على فترات متباعدة فيما يبدو وملأ بها طائفة من المفكرات الصغيرة وجدها الأستاذ عامر بعد وفاته حسبما كتب فى مقدمة ذلك الكتاب: "فبعضها حِكَم، وبعضها الآخر مشروع لكتابة مقال أو تأليف كتاب"...". لكن لا أحب أن يفهم أحد من كلامى هذا أن كل ما ترك العقاد من كلمات ينطبق عليه بالضرورة مصطلح "الإبيجرام" تمام الانطباق كلمةً كلمةً، لسبب بسيط ومباشر، وهو أن العقاد لم يقل قط إن ما كان يكتبه فى مفكراته بين الحين والحين هو إبيجرام، إنما تلك تسمية أطلقها عليها ابن أخيه. ومع ذلك فكل ما كتبه العقاد من كلمات ممتع أشد الإمتاع بما يتلألأ فيه من عمق وحكمة وبراعة تحليل ولمحات فكرية عبقرية... إلخ، وهو ما يليق بصاحبها الذى يوصف صدقًا وحقًّا بأنه عملاق الفكر والأدب العربى! أما طه حسين فأمره، كما هو واضح تماما، يختلف عن أمر العقاد، فقد رأيناه يدخل الساحة وقد وضع فى حسبانه أن يكتب الإبيجرام وأن يكون هو أول من "يُنَثِّرها" فى الأدب العربى، أى يكتبها نثرا، ففشل للأسف فشلا كبيرا، وإن كنا قد أوضحنا أنه تكفيه الريادة فى الكتابة المفصَّلة بعض الشىء فى ذلك الموضوع، اللهم إلا إذا ثبت أن هناك من تَقَدَّمَه فى الكتابة فى شرح هذا الفن وتحديد خصائصه والتأريخ له، وما ذلك ببعيد، فنحن لم نَدَّعِ أننا قد أحطنا بالمسألة من كل أطرافها، والأيام حُبَالَى بكل جديد تُغَادِينا وتُمَاسِينا به دائما، "وفوق كل ذى علم عليم" كما قال سبحانه وتعالى أصدق القائلين.

والآن مع بعض كلمات العقاد: "الرجل الذى يؤدى عملَ الخادم حقَّ أدائه لم يُخْلَق للخدمة، ولا بد أن تراه يوما غير خادم. وإنما يُخْلَق للخدمة من لا يحسن الاستقلال بعملٍ لنفسه ولا لغيره" (ص 35)، "أكثر ما تأتى المعارضة حبًّا للمعارضة من الذليل الذى يفتقد كرامة كلما أطاع أمرا يتلقاه من سيد مطاع، وقلما تأتى المعارضة حبًّا للمعارضة من ذى كرامة يطمئن إليها ويطمئن إلى الاعتراف له بها من غيره" (نفس الصفحة)، "إعجاب المرأة قريب المنال: يكفى أن يصبح الرجل عرضة لأنظار الكثيرات من النساء ليتنافسن عليه، ثم يُعْجَبْن به لأنهن تنافسن عليه، وقد يحببنه لأنهن أُعْجِبْن به" (ص 37)، "بعض العَجَزة يُدْهِشك بما عنده من القدرة على خلق المعاذير الباطلة لتسويغ إهماله وتفريطه. فليست آفة العجز نقصا فى الفهم، ولكنها نقص فى عزيمة العمل وضعف فى الشعور بالتبعة" (ص 38)، "التواضع نفاقٌ مرذولٌ إذا أَخْفَيْتَ به ما لا يَخْفَى من حسناتك توسُّلاً إلى كسب الثناء" (ص 43)، "الرجل الذى يغضب قد يخطئ وهو غاضب، ولكن الرجل الذى لا يغضب أبدا يخطئ طول حياته" (ص 44)، "كن شريفا أمينا لا لأن الناس يستحقون الشرف والأمانة، بل لأنك أنت لا تستحق الضَّعَة والخيانة" (ص 47)، "الواقع ليس هو الحق، لأن الباطل أيضا واقع لا شك فيه. إنما نبحث عن الحق حين ننكر الواقع فنبحث عن تسويغه أو نبحث عما وراءه. والحقّ شىء نبحث عنه، أما الواقع فشىءٌ غَنِىٌّ عن البحث لأنه موجود وملموس" (ص 48)، "الآداب الشائعة وُضِعَتْ لحماية الأنذال: يشتمك النذل ولا يليق بك أن تكشف نذالته، فيقول فيك الباطل، وأنت لا تقول فيه الحقيقة، وهو الرابح فى الحالتين. ويدس لك النذل فلا يليق بك أن تجزيه بالدسيسة، فإن جزيته بالعقاب الصريح لاح عليك أنك المعتدى وأنه هو المعتدَى عليه، وهو كذلك رابح فى الحالتين" (ص 51)، "بعض الحيوانات يرى فى نور خافت، وبعضه يتلقَّى الروائح من مسافات بعيدة لا يدركها غيره، وبعضه مزود بحاسة غريبة كحاسة الاتجاه التى يعرف بها الطائر طريقه خلال الأميال الطويلة. فالمحسوسات موجودة لا تتوقف على الحواس، وليس عجز الحواس عن إدراكها دليلا على عدم وجودها. وإنما تتركب الحواس لتدرك ما تدركه فى الكون على حسب الحاجة أو على حسب الاتفاق. ما المانع، على هذا، من نشوء عقول غير العقول الإنسانية تفكر فى أمور لم يفكر فيها الإنسان قط، وتتخذ للكون صورة لا يقبلها الآن عقل الإنسان؟ إن فى الكون لَمُتَّسَعًا لعقول كثيرة منوعة فى طبيعة الإدراك لا فى درجة الإدراك وحسب.

وإن فى الكون لَرَسائلَ كثيرة لم تُخْلَق بعدُ "محطّاتها" التى تتلقاها وتشعر بهزاتها. ولعل العبقريات وملكات الإلهام هى ضرب من تلك "المحطّات" التى تتلقى الحقائق من حيث ينكرها أو يجهلها الذين حولها" (ص 52- 53)، "صاحب المكانة الأدبية الكبيرة بغير جاهٍ مادىٍّ ولا سلطانٍ له على الأرزاق هو عرضة أبدا لإيذاء اللئام لأنه محسود على مكانته، وهو فى الوقت نفسه غير محذور على المنافع المادية التى يحسب اللئام حسابها ولا يشعرون بالحاجة إلى غيرها" (ص 54)، "يُؤْثِر الإنسان أحيانا أن يكون عرضة للمَقْت والغيظ على أن يكون عرضة للرحمة أو الاستخفاف. وهذه علة ما يُرَى من أصحاب العاهات والمثالب المقبوحة من تعمُّد إسخاط الناس واستنفاد صبرهم. يحاولون الهرب من رحمتهم إلى نقمتهم، ومن إحسانهم عليهم بالعطف إلى مساواتهم لهم بالمنازلة" (ص 72)، "إذا رجَّح الحاسد عظيما على عظيم فأعظم الاثنين هو الذى يُنْحِى عليه ولا يزكِّيه لأنه هو المحسود" (ص 87)، "لا يَغُرَّنْك كل محارب للباطل، فقد يحاربه بباطل مثله أو بباطل أمضى منه فى البطلان" (ص 90)، "أنا وابن عمى على الغريب، وأنا وأخى على ابن عمى: مقالة لها وجه آخر. وجهها الآخر: أنا والغريب على ابن عمى، وأنا وابن عمى على أخى. لأن الغريب لا يطمع فيك طمع ابن عمك، وابن عمك لا يطع فيك طمع أخيك" (ص 90)، "من العزة أن تترك الدنيا، ومن الهوان أن تتركك الدنيا. فاختر لنفسك بين العزة والهوان" (ص 93)، "البساطة واضحة كالنور. ولكن ماذا يجدى النور نفسه من ليست له عينان، أو من يغمض عينيه فلا تبصران؟" (ص 94). ولا ريب أن المفارقة واضحة فى هذه الشواهد كما هو الحال فى كثير من "أوابد" العقاد، كما أنها كلمات قصيرة مثلما نرى، وإن كان بين كلماته الأخرى التى لم يشأ ابن أخيه أن يصنفها تحت عنوان "الأوابد" ما قد يطول إلى صفحة أو صفحتين. كما أن تلك "الأوابد" تنطلق كالسهم إلى الصميم فتُصْمِى الرمية إِصْمَاءً ولا تُشْوِيها أبدا، إذ كان العقاد جبار العقل والتعبير، فهو قادر على الدقة المدهشة فى التصويب والإصابة، رحمه الله رحمة واسعة.

ونصل الآن إلى تحرير المصطلح فى هذه القضية: فهل يا ترى نُبْقِى على كلمة "الإبيجرام" كما هى، وبذلك يتم تعريب هذا المصطلح، أى إدخاله (كما هو أو مع بعض التحوير إلى اللسان العربى بحيث يجرى على صيغةٍ من صِيَغه الصَّرْفية المعروفة) بحيث يصبح جزءا من معجمنا اللغوى كما هو الحال مع كلمات مثل: "الشطرنج، والطازج، والكمان، والبيان، والتليفزيون أو التلفاز، والراديو، والفيروس، والميكروب، والبنج بونج، والتنس، والكافيار، والمليم، والمليون، والبليون، والتلتوار، والأوتوموبيل، والأوتوبيس، والوابور، والموتور، والتشات، والنت، والكمبيوتر، والبرلمان، والسينما، والتياترو، والإيديولوجيا أو الأُدْلُوجة، والبورنو، والسكس، والإسكاتولوجى، والروشتة، والفيزيتة، والدكتور، والبولدوزر، والآوت والكورنر والبنالتى... إلخ"؟

وإن كان كثير من الكلمات التى من هذا النوع قد تم أيضا إيجاد مقابل له مترجَم، مثل: "المذياع، والمرناء، والقيثارة، والقطار، والسيارة، والحافلة، والخِيَالة، والمسرح، ومجلس النُّوّاب، والمحرّك، والرصيف، والمحادثة، والطبيب، وأجرة الطبيب، ووصفة الدواء، والضربة الركنية، وضربة الجزاء، والخُرْئِية (وهذا المصطلح من صنعى منذ خمسة عشر عاما أو أكثر، ويجده القارئ فى كتابى عن رواية سلمان رشدى: "الآيات الشيطانية" المملوءة بألوان البذاءات والكلام فى القاذورات الجنسية، وبخاصة الممارسات الشاذة منها، فى لغة عارية لا تجمُّل فيها ولا تحفُّظ ولا احترام لشىء أو أحد أَيًّا كان)، والمشباك (وهذه أيضا من مقترحاتى ترجمةً لكلمة "النت" و"الإنترنت"، وأنا أستخدمها كثيرا، ويستخدمها، فيما لاحظت، بعض من يعرفوننى من خلال المشباك)، والكاتوب أو الحاسوب (والأولى كذلك من عندى، وأرجو لها الانتشار بجانب زميلتها، وليس شرطا أن تنفرد بالساحة دونها رغم أن هذا الجهاز إنما يُسْتَخْدَم فى الكتابة أساسا لا فى عمليات الحساب) ... وغير ذلك". الواقع أن إبقاء الكلمة على أصلها الأجنبى هو أمر من السهولة بمكان بحيث لا يحتاج الإنسان معه شيئا آخر غير الكسل وعدم بذل أى جهد لإغناء اللغة من داخلها وجريا على طبيعتها، وهو الغِنَى الأصيل الذى نحتاج له. وقد غبر زمان كان أمثال أحمد لطفى السيد وسلامة موسى ممن طمس الله على بصيرتهم القومية واللغوية ينتقدون صنيع من يعمل على ترجمة ألفاظ الحضارة الحديثة إلى لغة القرآن، وينادون بالإبقاء على تلك الألفاظ كما هى، أما الآن فلا يشك إلا أحمق أو مدخول الضمير أن الكلمات العربية أكثر إيناسا للنفس وأقرب إلى الذوق وأكثر مواءمة لبقية أركان اللغة، بخلاف العناصر اللغوية الأجنبية التى تبدو كالرُّقَع الشاذة النافرة فى الثوب الجميل. أما تحوير كلمة "إبيجرام" كى تتواءم مع ذلك الأصل فلم أستسغه، إذ لم تلق "بِجْرَام" أو "بُجْرُومة" مثلاً قبولاً لدىّ، وهذان اللفظان هما كلمة "الإبيجرام" بعد تحويرها لتجرى على صيغة من الصيغ الصرفية العربية، وهى هنا صيغة "فِعْلاَل" أو "فُعْلُولة".

أَتُرَى الأَحْرَى بنا إذن أن نبحث لهذا الفن عن اسم عربى صميم بدلا من الاكتفاء، كسلاً وشعورا بالدُّونِيّة اللغوية والثقافية، بالكلمة الأوربية؟ سوف نسمع بعض الناس يشهِّرون بمن يحاول ذلك بحجة أننا متخلفون فى ميادين العلوم الطبيعية والاختراعات الحديثة، وعلينا أن نوجه جهودنا فى هذا السبيل ولا نضيعه كما يضيع أعضاء المجامع اللغوية وقتهم فى تسمية "الساندويتش" بــ"الشاطر والمشطور وبينهما طازج" حسبما يُشِيع المتظرفون كذبا وغشا ويُشَنِّعون. ولقد قرأت مؤخَّرا فى تعليق بإحدى الصحف المشباكية لمغفَّلٍ يعترض على كاتبٍ اقترح استعمال كلمة عربية فى ميدان من ميادين الفكر بدلا من الاستمرار فى استخدام الأصل الأجنبى، قائلا فى تهكمٍ يدلّ، إلى جانب التغفيل، على الجهل والبلادة وقلة الأدب وسوء الطوية، إنه كان على الكاتب بدلا من هذا أن يفكر فى اختراع جهاز علمى نافع! وفات هذا المغفَّل السفيه الذى لا يستطيع أن يكتب اسمه صحيحا بلا أخطاء أن الكاتب المذكور ليس متخصصا فى أى ميدان من ميادين العلوم الطبيعية ولا الرياضية ولا التطبيقية بل فى اللغة والأدب مثل العبد لله الفقير إلى ربه تعالى. وعلى هذا فالميدان الذى يمكنه أن يجول فيه ويصول ويخترع ويجدد ويضيف إذا أراد أن يعمل شيئا من ذلك إنما هو ميدان الكلمات، وهو ما صنعه بإضافة بعض الألفاظ التى لا تعجب ذلك المغفَّل المتخلف السليط اللسان الذى كان أحرى به أن يتهكم على نفسه هو وأمثاله ممن كان بإمكانهم، لو صحت النيات، وتخلصت نفوسهم البليدة من بلادتها، وعقولهم الغبية من غبائها، وكان عندهم نخوة وطنية، أن يحاولوا اختراع أو تطوير أى شىء مما أراد أن يكايد به الأستاذ المذكور، وليكن مُرَشِّح مياه بسيط لا يحتاج إلى تقنيةٍ أو مهارةٍ أو تكلفةٍ ماليّةٍ. لكن كراهية كل شىء عربى أو إسلامى هى التى سوّلت لغباء ذلك المفعوص أن يسلك سبيل اللجاج فيعترض على ما لا يفقه فيه قليلا ولا كثيرا. المهم: نعود إلى ما كنا نقوله بصدد البحث عن مقابلٍ عربىٍّ لكلمة "الإبيجرام" فأقول: لقد فكرت فى عدد من البدائل منها "الأُلْذُوعة" و"الأُكْلُومة" و"الأُنْقُوشة"، فضلا عن "الآبدة"، التى ترجم بها عامر العقاد ذلك المصطلح، ولعله سمعها من عمه العباس، طيب الله ثراه وأكرم ذكراه بين الناس.

فأما "الأُلْذُوعة" فإشارة إلى ما تتميز يه الإبيجرام من انتهائها نهاية لاذعة، وهو ما شرحه الدكتور طه حين أشار إلى "النصل المرهف الرقيق ذى الطَّرَف الضئيل الحاد قد رُكِّب فى سهم رشيق خفيف لا يكاد ينزع عن القوس حتى يبلغ الرَّمِيّة ثم ينفذ منها فى خفة وسرعة ورشاقة لا تكاد تُحَس"، وكذلك عامر العقاد عندما تحدث عما فى ذلك اللون من الكتابة من "لذع خفى أو ظاهر فلا تخلو فى أكثر صيغها من وخزةِ سَخَرٍ أو غمزةِ تبكيتٍ، وتتأخر فيها اللذعة إلى ختامها فتمرّ مأمونة سليمة إلى كلمتها الأخيرة، ثم يلتفت السامع إلى اللذعة بعد انتهائها. ومن هنا سماها بعض أدباء اللاتين بــ"العقرب" لأن لذعتها مخبوءة فى زُبَانَاها". بيد أن هذا المصطلح يخلو من الدلالة على أى شىء فى الإبيجرام سوى "اللذع". وأما "الأُكْلُومة" فتعنى أنها كلام، وأنها كذلك كَلْم، أى جَرْح، وفى الجرح إيلام. أى أنها تتضمن اثنين من عناصر الإبيجرام. وتبقى "الأنُقْوُشة"، وفيها معنى كلمة "الإبيجرام" فى أصلها الإغريقى البعيد، إذ كانت تعنى أولا النقش المكتوب على شاهد مقبرة أو جدار معبد أو إناء أو ما إلى ذلك. كما أنها تع%

القسم 2 من 3 أقسام

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى