كلمة سحرية تتحدى الزمن
الزمن يتحرك وبعض الكتب الجيدة تبقى . تحرك الزمن طويلا نحو ألفي عام وجرف معه قصورا ، وعواصم ، وأسماء ملوك ، وسير حروب ، ولم يستطع أن يجرف معه اسم " لوكيوس أبوليوس " صاحب " تحولات الجحش الذهبي " . وانقضى نحو مائتي وخمسين عاما ومازالت أعمال " جوناثان سويفت " مقروءة .
للكتب خاصية عجيبة كأنها العمل السحري الوحيد الذي يبطل سير الزمن ولا ينتهي أثره ، يتحرك الزمن أعمى ، ويجرف كل شئ أمامه ، ثم تفاجئه من خلفه بعض الكتب سليمة لم تمحى سطورها . العام الذي نودعه كان حافلا بكتب كثيرة جيدة . وحين أعود بالذاكرة إلي تلك الكتب ، بشكل انتقائي لا أكثر ، أتذكر رواية " في انتظار البرابرة " للكاتب جي كوتزي الحائز على نوبل عام 2003 ، التي يقول فيها إن : " كل المخلوقات تأتي إلي العالم حاملة معها ذكرى العدالة " ، ويواصل كوتزي بحثه عن تلك العدالة التي يولد الناس بذكراها في هذه الرواية ، وفي رواية أخرى صدرت عن دار الهلال هي " حياة وزمن ما يكل " . وقد اختتم العام أيامه الأخيرة برواية جابريل جارثيا ماركيز القصيرة " " ذكريات عن نسائي الحزينات " التي ترجمها طلعت شاهين . وفي تلك الرواية الممتعة يؤكد ماركيز أن الحب أحد أسرار الأدب العظيم التي تجعله باقيا .
في روايته يتساءل ماركيز ذلك الشيء الرئيسي الذي تصبح رحلة الزمن من دونه حالة خواء ، وفراغ مؤلم ، ومجرد تواجد في الزمن ، بلا معنى ، حتى لو كان ذلك التواجد محاطا بالشهرة والشبع والطمأنينة ؟.
يتخير ماركيز – في بحثه عن إجابة - بطله الراوي عجوزا بلغ التسعين ، صحفيا معروفا ، يحيا وحيدا ، لأن علاقاته الغرامية العابرة لم تدع له وقتا للحب .
يحس هذا العجوز فجأة أن عليه أن يعب من نهر الحب ، وأن يمنح نفسه ربما للمرة الأخيرة ليلة عشق مجنونة مع مراهقة صغيرة . تساعده على تحقيق غرضه صاحبة بيت لهذه الأعمال يعرفها منذ زمن بعيد ، وتعد له ما أراده : صبية في الرابعة عشر من العاملات الفقيرات في مصنع لحياكة أزرار القمصان . أرادها العجوز عذراء ، لأنه لم يكن يفتش عن ليلة حمراء ، بل عن حب طاهر ونقي ، حتى أنه رقد إلي جوارها مرة واثنتين دون أن يلمسها .
يقع العجوز في غرام الصبية ، ويقول لنفسه : " كنت أعرف دائما أن الموت حبا أمر مسموح به فقط في الشعر ، إلي أن اكتشفت أنني أنا نفسي العجوز ، الوحيد ، كنت أموت حبا " . هذه الصبية الصغيرة تحيل حياته إلي شئ آخر تماما ويغير حبه لها من " التوجهات الروحية لمقالاته الأسبوعية "، ويصبح كل ما يكتبه لها هي ، أيا كان الموضوع الذي يكتبه ، ومن أجلها هي صار يبذل في كل كلمة حياته كاملة ، ويقرأ على سمعها مخطوطاته ، ويحكي لها حياته .
الحب الذي ينشده ماركيز : " ليس الجنس ، لأن الجنس مجرد إرضاء للنفس عندما لا يحصل الواحد منا على الحب" . الحب عنده اكتمال الكائن بنصفه الآخر بالمشاركة والفهم . يقول ماركيز : " لا تموت دون أن تجرب جمال حمل عبء الحب " ، ويقول : " ليس أتعس من الموت وحيدا " ، ولهذا تقول إحدى نساء الرواية : " إنني أنظر الآن إلي الأيام الخوالي ، وأرى طابورا من آلاف الرجال الذين مروا بسريري ، وأجد أنني على استعداد لأن أدفع روحي ثمنا للبقاء مع أسوأ من فيهم " . يحاول ماركيز أن يجعلنا نكتشف معه الحقيقة التي يعرفها منذ زمن ، وهي أن الموت ، والوحدة ، هما قدر الإنسان ، وليس للإنسان سوى الحب يواجه به ذلك القدر، وبفضله يصبح لكل شئ معنى ، حتى وإن كان ذلك الحب " عبئا " .
إن الحب ، أو قصة اكتمال الكائن ، هي أحد الأسرار التي يتحدى بها كل عمل عظيم حركة الزمن . ويدعو ماركيز الناس لكي يدركوا أن عليهم أن يبحثوا عن ذلك الشعور الملهم قبل أن يفوتهم قطار الزمن ، وإلا أصبحت الحياة مجرد زمن " للتقلب على النار ومواصلة شواء النفس " . والأعمال والكتب التي تبقى هي تلك الأعمال التي تدفعك لفتح نوافذك والتطلع إلي السماء بحثا عن نجم يومض بعيدا ، ويلمع وهو يصهر نفسين متباعدتين في بوتقة واحدة ، بحيث يغمرك الندم على كل ساعة مرت في حياتك من دون هذا الشعور الملهم ، ومن دون جمال ، وقلق . من كتب العام الماضي تجنبت الإشارة إلي الأعمال الجميلة التي صدرت عندنا ، لأن التوقف عندها دون غيرها أمر انتقائي بحت . فلنأمل أن يأتي العام القادم بكتب أكثر ، وأجمل .