السبت ٢٤ كانون الثاني (يناير) ٢٠٠٩
بقلم عادل الأسطة

كم أنا حائر ... كم أنا مشتت!

* ماذا تفعل هذه الأيام؟
* أشاهد التلفاز وأقرأ الصحف وأحاول أن أقرأ أو أن أكتب.
* هل أنجزت شيئاً ما؟
* أحاول ولا أستطيع. أحاول صباحاً. أحاول ظهراً. أحاول عصراً. أحاول مساءً، ولا أنجز شيئاً. أحياناً أخرج إلى شوارع المدينة لكي أتمشى. قد أذهب إلى مقهى، قد أقرأ فيه مقالاً، مقالين، وقد لا أمكث أكثر من نصف ساعة. قد أذهب ألى مكتبي لأقرأ الصحف على الانترنت، أحاول أن أستمر في القراءة فلا أستطيع. كم أنا حائر كم أنا مشتت.

من فترة، قبل أن تبدأ الحرب، وفي أثنائها، ألزمت نفسي بالمشاركة في ثلاثة مؤتمرات: الأديب والسلطة، ومحمود درويش، وجدل اللغة واللسانيات. سأكتب ملخصات ثلاثاً، آملاً أن أنجز الأوراق في الإجازة الشتوية، إجازة ما بين الفصلين الجامعيين، فتكون هذه قصيرة، وتتخللها الحرب، ماذا أفعل في الحرب؟ ماذا أفعل وأنا أشاهد الأطفال يُقتلون، وأنا أشاهد أطرافهم تُبتر، وأعينهم تُفقأ، وأجسادهم تُشوه، ماذا أفعل وأنا أرى النسوة يمتن أو يصرخن طالبات النجدة؟ هل كانت حرب عمورية حقيقية أم خيالاً؟ هل كان المعتصم حقيقة أم كذبة كبرى؟ لم تكن يومها ثمة فضائيات يُشاهدها، فيبصر ويسمع. لم تكن يومها ثمة طائرات وصواريخ يُعطى الأوامر لضباطها حتى يطلقوها انتقاماً أو ثأراً أو إيقافاً لمجزرة. هل كان المعتصم حقيقة أم خيالاً ابتدعه من ابتدع ألف ليلة وليلة؟

كم أنا حائر .. كم أنا مشتت!

أقرأ في غير كتاب، في غير ديوان شعر، في غير مجلة. أحاول أن أنجز ورقة ما ألزمت نفسي بها، فلا أستطيع. هل أقدم اعتذاراً لمن راسلتهم أم أن الوقت مبكر؟

أسير في شوراع المدينة. البرد يلسع في كانون، فأتذكر أهل غزة الآن. أتذكر النكبة الثانية أو الثالثة أو الرابعة. لا أدري كم نكبة عاشها الشعب الفلسطيني. لا أدري. وأرى صور اللجوء. أرى اللاجئين في المدارس، في مدارس اللجوء، فأتذكر أبي وأمي في العام 1948، ومدرسة الغزالية في مدينة نابلس. لم أكن يومها ولدت. لم يكن أبي تزوج من أمي، ولكن الحكاية حكيت مراراً مراراً. ها أنا أراها تحدث ثانية في غزة، وهي قد حدثت في العام 1967 في البقعة والوحدات، وفي العام 1976 في تل الزعتر والدامور، وفي العام 1982، في العام 1985، وفي العام 2003 على الحدود العراقية، وفي العام 2006 في بيروت.

أشغل نفسي بقراءة دواوين محمود درويش لأكتب عن التناص في أشعاره، التناص الأدبي: درويش وامرؤ القيس، درويش والمتنبي، درويش وأبو فراس، درويش وأبو تمام، درويش والأعشى، درويش وطرفة، درويش و .... ذهب الذين تحبهم وبقيت مثل السيف فرداً، وما أطيب العيش لو أن الفتى حجر .... آه يا تميم بن مقبل آه.

اشغل نفسي بجدل اللغة واللسانيات: الشاعر واللغة، اللغة والسلطة. هل من سلطة للغة؟ أرى القنابل الفسفورية تضيء ليل غزة، ليل غزة الطويل، فأتساءل: هل من جدوى للغة؟ هل من قوة للغة؟ فأذهب إلى(مدبح الظل العالي) وأقرأ ما كتبه محمود درويش فيها:

لغة تفتش عن بنيها
تموت ككل ما فيها
وترمى في المعاجم.

ماذا تفعل مظاهرات التضامن لإيقاف النزيف الدموي؟ ماذا تفعل حرب الصورة لوحش لم يعد يرى إلا نفسه، لكائن لا ينشد إلا سلامته، كائن يقول: لو كنت في الحرب العالمية الثانية أمتلك قنبلة ذرية، لما توانيت في استخدامها لإنقاذ شعبي من المحرقة.

كم أنا حائر .. كم أنا مشتت

هل من سلطة للغة أمام سلطة القنابل الفسفوية، وسلطة السياسي: (أولمرت) و (ليفني) و (باراك). ترسل لي أختي رسالة جوالية تطلب مني فيها أن أصلي، فهي تريد لي الخير، والله سريع العقاب. فأتساءل: ماذا فعل أهل غزة لكي يعاقبهم آلهة إسرائيل هذا العقاب؟ وأتذكر (بيرتولد بريخت). أتذكر (محاكمة لوكللوس)، فأرد على أختي: أظن أن محاكمة (بوش) و (أولمرت) و (ليفني) و (باراك) ستطول يوم القيامة. أظن أنه لن يكون هناك وقت لمحاكمتي أنا. أنا مثل بائعة السمك في مسرحية "بريخت ".

يا الله كم أنا حائر .. كم أنا مشتت!

سوف يودعنا (بوش)، وسيأتي (أوباما). أقرأ قصيدتي درويش في الأول. (في البيت أجلس) و(نيرون). أحاول أن أكتب عن الشاعر والامبراطور السعيد الذي يداعب، اليوم، الكلاب، عن نيرون القرن الحادي والعشرين، فأتساءل: أكانت القصيدتان سبباً من أسباب تلكؤ الإدارة الأمريكية في منح الشاعر تأشيرة دخول لبتعالج في أمريكا. ربما .. قد .. وماذا كان سيكتب في (أوباما) لو امتد به العمر؟ هل سأعود؟ بعد أربع سنوات من الآن؟ أي في العام 2013، لأقرأ ما كتبه المتنبي في كافور ...؟ ربما .. قد، وقد أقول: هذا ما كان سيكتبه درويش أيضاً .. ربما .. ربما ..، وربما لا، ولننتظر.

يا الله كم أنا حائر .. كم أنا مشتت!

أقرأ في كتاب عبد الله الغذامي: حكاية الحداثة في المملكة العربية السعودية الذي صدر أول هذا الشهر في سلسلة " كتاب في جريدة "، فأتذكر أبا نزار. أبو نزار مواطن من غزة يقيم في الحي الذي أقيم فيه. هو جاري، وغالباً ما نتحدث معاً وأنا جالس في دكان أخي مساء. نأتي على الحرب فيسألني أبو نزار عم سأكتب، وسيعلق ساخراً أو جاداً أو مازحاً: ها هي الحرب تزودكم، أنتم الكتاب، بموضوعات جديدة. ها هي فرصتكم لأن تكتبوا. ولا يدري أبو نزار أن هناك عشرات الموضوعات التي يمكن أن أكتب فيها، وأنها تنتظر ... كم من موضوع قررت أن أكتب فيه ثم جاء آخر فحل محلّه، وأجلت الكتابة في الأول، ومرت الأيام ولم أكتب فيه حتى اللحظة.

وأنا أقرأ في كتاب عبد الله الغذامي، تحت العنوان: الطفرة: الكائن المجازي أو الحداثة المشوهة: المشالح الذهبية، تذكرت أبا نزار وما قاله عن الحرب التي تمدنا بموضوعات لنكتب فيها. سأتذكر أيضاً صديقي م.م وأخاه، فما حدث مع الغذامي في العام 1976، وهو مدرس في لندن، كان يحدث معي ومع صديقي أيضاً. هذه مادة تصلح لكتابة مقال يا أبا نزار، فهل من ضرورة للحرب؟ هل من ضرورة لهذا الدمار الشامل؟ لهذا الموت الجماعي؟ لهذا العدد من الجرحى حتى أكتب؟

يا الله كم أنا حائر .. كم أنا مشتت!

هل أعتذر للمشرفين على المؤتمرات؟ هل أحضر جرة لأكسرها حين يغادر(بوش)، أسوة بما سيفعله فاروق وادي؟ هل أعتذر لهؤلاء أم أعتذر لأطفال غزة ونسائها وشيوخها؟ سأتذكر محمود درويش حيت كتب: (لم أجد جدوى من الكلمات إلا رغبة الكلمات في تغيير صاحبها).

كم أنا حائر ... ومشتت!


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى