الجمعة ١٧ تموز (يوليو) ٢٠٠٩
بقلم أحمد الخميسي

كناري الصغيرة جدا

وسط ستة مليارات إنسان، وبين ملايين الجبال والبحور، وعدد هائل من الكواكب والنجوم، لدي فقط عصفورة واحدة صغيرة، أقول لها وحدها قبل نومي:(تصبحين على خير). أمسك بها في قبضتي لا أضغط عليها بقوة، ولا أرخي قبضتي خشية أن تهرب. أخبئ رأسي في كتفها الصغير جدا، في ريشها. أكلمها بصوتي الأجش فتقول: ياعندليب. أرقد تحت الأشجار فتقول: يا سبعي. أستحم في النهر فتطير فوقي تضرب الهواء بجناحيها وتصيح: تمساحي في النهر. ليس عندي غير هذه العصفورة، فقط. أتحمل نزقها، وحماقاتها، وأتحمل تلفتها كثيرا برأسها وأصبر على نظرة عينيها التي تبدو مطمئنة راسخة قبل لحظة من احتراقها بالفزع المفاجئ. لكني أتحملها. تحط على كتفي، وترفع رأسها للسماء بكبرياء وتقول: الجو اليوم صحو. هيا بنا نطير. تقول هذا بنبرة آمرة. أقول لها: أنا إنسان ثقيل الوزن لا أطير. ترد علي وهي تتطلع إلي المساحات التي ستطير فيها: كف عن هذه السخافات.

ينخفض صوتي: أفهميني، أنا لا أستطيع. تلقي كقبطان محنك نظرة متفحصة على الفضاء ولا تعتني بالنظر إلي: هيا. تقبض بمخالبها الصغيرة الدقيقة على ياقة قميصي، وترتفع. تقوم بدورة كاملة في الجو غير بعيد عني، تزقزق، تدخل وتخرج من سحابة إلي أخرى، وتهبط، وتعلو، وأنا أتأملها. ثم تحط أخيرا على الأرض حيث أقف وتصيح بنشاط وهمة: ما رأيك؟ ألم أقل لك إن بوسعك أن تطير؟. ثم تعاودها نبرة الكبرياء فتقول: لا تقلق سنكرر ذلك مادام قد أعجبك. تقف على كتفي، وتنظر حولها في كل الاتجاهات، ثم كأنما اتخذت قرارا حكيما تقول بثقة: سر بنا إلي اليمين. أمشي. وهي تهز رأسها الدقيق غارقة في ذكريات صغيرة عن الحبوب والأعشاب والمياه العذبة. وفجأة بدون أي منطق تقول لي: الآن انحرف يسارا.

وبدون أي سبب تصرخ: اتجه يسارا قلت لك. أمضي بها يسارا بين صفوف الأشجار العالية، فتتخذ هيئة أنها عصفورة بالغة الأهمية تتذكر الآن شيئا هاما ولا ينبغي لأحد أن يعطلها. رأينا جبلا، فرفرفت كأنها كانت تبحث عنه وصاحت: جبل! جبل! ألم أقل لك؟. أقول لها: لم تنطقي بكلمة عن الجبال. تدور أمام وجهي بحنق: بل قلت لك انحرف يسارا لأن هناك جبلا. تعود إلي كتفي: الآن اصعد الجبل. نصعد. وعند قمته، تعبيء صدرها الصغير جدا بالهواء النقي، وتلقي نظرة على الغابات تحتنا، وتقول: الق بنفسك من هنا إلي أسفل. هيا. الق بنفسك، أريد دليلا أنك تحترمني وتحبني. أنا لا أريد أن أموت لأنني أحب هذه العصفورة وأريد أن أبقى معها طويلا، أقول لها: سنموت يا عصفورة. ستتحطم ضلوعي عند الصخور ولا يبقي مني شيء. تدور حول وجهي، وتصيح: أنت جبان. رعديد. لن نموت. هيا. وحتى إذا متنا سيبقى على الأرض حطام الحب، وينمو من جديد. تضربني بجناحيها على ظهري تدفعني وتصيح: يا جبان. أنظر إلي الفراغ الهائل الذي يفصلني عن الأرض، وألقي بنفسي من أعلى الجبل وهي خلفي. وما أن يحيط بي الهواء حتى أسمع صرخة مذعورة نحيفة: يا ماما. يا ماما. التقطها في كفي وأواصل الهبوط. ولا أموت. على الأرض تنفض الفزع عن ريش جناحيها وتسترد كبرياءها الصغير قائلة: ألم أقل لك؟ لن تموت. أنا أعلم. الآن يحل الغروب، وأنا أريد أن أنام. أبسط لها كتفي، تنام وهي واقفة، ترتجف، لكنها كأي عصفورة لا تنام طويلا، تستيقظ بعد قليل، وتأخذ رأسي إلي كتفها. هي كل ما أملك، وهي من يمكنني أن أقول لها وحدها الآن قبل نومي:"تصبحين على خير". تسألني وهي تعلم الإجابة: هل ستنام؟. أقول: نعم. تقول: نم الآن. لا تخف يا صغيري. لا شيء ولا أحد في الغابة قد يهددك. أنا معك. نم.

في هذه اللحظات أدرك مدى ذكاء قلبها، لأنها ما أن أغمض عيني حتى تحوم بهدوء حولي في الهواء، وهي ترسل أغنيات صغيرة جدا هادئة من فمها الصغير، لكي لا تقلق نومي. إنها الآن تحرسني. أحيانا من شدة حبي لها أفتح عيني لكي أراها، فتنهرني بكبرياء آمرة: نم لا تخف. فيندي كل شيء في داخلي بالحنان مثل بستان في الفجر، لأنني أعلم أنه ليس لدي هذه العصفورة الصغيرة سواي في هذاالعالم اللانهائي.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى